هنالك الكثير من الشبه بين الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين والاستيطان الأوروبي في الأمريكيتين، وخاصةً الشمالية منها. في الحالتين أُنجِزَت، عبر مراحل، عمليات مُدبّرة للقضاء على أسباب معيشة السكان الأصليين، بهدف إجبارهم على التخلي عن أراضيهم والاستيلاء عليها. الأوروبيون، من إنجليز واسبان وغيرهم، قاموا بعمليات مدبّرة للقتل الجماعي لقطعان بقر البافالو، عماد حياة الهنود. لقد فعلوا ذلك، وخاصةً في أمريكا وكندا، بهدف إجبارهم السكان الأصليين على الجلاء عن أراضيهم،. في حالة المستوطنين الإسرائيليين، فإنهم قاموا ويقومون باقتلاع أشجار الزيتون، كبيرها وصغيرها، بهدف قطع أرزاق أصحابها. الأوروبيون لم يكن ينقصهم حسّ شاذ بالجمال، حين علقوا رؤوس البافالو في صالات بيوتهم. غلاة المستوطنين، لا ينقصهم هم أيضًا حسهم الشاذ بالجمال، حين يقتلعون أشجار الزيتون المسّنة من جذورها، ليزرعوها في حدائق الحشيش البلاستيكي الممتدة أمام بيوتهم.

ومع هذا، يمكن القول أن المستوطنين الإسرائيليين قد تجلّوا كأناس أقلّ شراسة من أقرانهم الأوروبيين، فهم لم يقوموا بقتل جماعي للفلسطينيين، وذلك لأسباب عدّة، منها ما قاله يتسحاق رابين، بحسب بروتوكولات هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، حين كان قائد الأركان (انظر مقالة أمير أورن في هآرتس يوم الثلاثاء 17/5/2011). لقد اكتفى المستوطنون الإسرائيليون بعمليات إرهاب وقتل محدودة، هدفوا منها إرهاب السكان الأصليين وquot;إقناعهمquot; بضرورة حمل ما يمكن حمله من متاع، والعبور إلى تخوم اللجوء.

الاستنتاج بأن المستوطن الإسرائيلي كان أقل شراً من المستوطن الأوروبي هو استنتاج صحيح من حيث المبدأ. ومع ذلك، ليس فيه ما يُسعف الكثيرين ممن هربوا من قراهم، ليصبحوا لاجئين خارج الوطن وداخله. إذ كيف يمكن لهذا الاستنتاج أن يُسعفهم. مثلاً، كيف يمكن لهذا الاستنتاج أن يسعف أهل عين حوض بعد أن اغتصِبَت وحوِّلت إلى quot;عين هودquot; (עין הוד)، القرية التي يرتع فيها أشباه الفنانين. ما الذي يُسعف أبناء عائلة أبو الهيجا الذين تمكنوا من البقاء والرجوع وبناء بيوتهم بالقرب مما كان منذ زمن قصير قريتهم بيوتهم وشرفاتهم المطلة على البحر. كيف يمكن لهذا الاستنتاج أن يسعفهم وهم يشاهدون المستوطنين يحوّلونها يوماً بعد يوم إلى شيء لا يشبه دورهم التي كانوا يعيشون فيها حياتهم. هذا الاستنتاج لم يكن فيه أيضًا ما يُسعف محمود درويش حين توجه للغريب الذي سكن بيت أهله وقال له: quot;سلّم على بيتنا يا غريب/ فناجين قهوتنا لا تزال على حالها/ هل تشمّ أصابعنا فوقها؟/...quot;.

لست باحثاً في الأمر الجلل الذي نحن بصدده هنا، لكني أظن أن كل مؤرخ يحترم مهنته ويحترم الحقيقة، سواء كان عربياً أو يهودياً أو غير هذا وذاك، لا يمكنه أن يتجاهل عمليات الطمس المستمرة لجريمة الطرد الجماعي والتطهير العرقي التي اقتُرِِفت بحق الفلسطينيين، ولا أن يتجاهل عمليات الطمس المستمرة لهذا الجرائم ومحاولة سترها. كما أن الكثيرين من غير المختصين يعلمون ما تستره أحراش quot;الكيرن كييمتquot; من حياة أُزهِقت وبيوت وقرى هدمت عن بكرة أبيها، وينتبهون لليافطات العبرية المنتشرة في كل كمان، بكثافة تثير الريبة، حاملةً لأسماء تنضح بالتزوير والعدوانية. كما ولا تغيب عن أعين كل بصير، برامج التعليم/ التجهيل التي يضطر الصاغرون من معلمينا ومعلماتنا لتدريسها لأولادنا وبناتنا في جغرافية وتاريخ الوطن.

أنا من الناصرة المدينة الفلسطينية الوحيدة التي نجى أهلها بكاملهم، نتيجة ملابسات معروفة، من الطرد والتشريد، والتي نجت من أن تُهدم وتُدفن تحت أشجار غريبة. أهلي لم يهاجروا، بل بقوا في لناصرتهم حتى توفوا فيها. آخر من توفى منهم كانت أمي. حصل ذلك منذ عدة سنين وبقيت دارنا مهجورة في بلد تراجعت إلى مكان يصعب العيش فيه. أنا لم أتشرد بالمعنى المألوف للتشرد، لكني وأبناء جيلي وأجيال أخرى لحقت مشردون في صلب ذواتنا. يكفي أن أقول أني بعد أن كبرت، صرت أجول في وطني في أماكن كثيرة لا أعرف أسمائها. وبالمقابل، صرت أعرف أسماءاً عبرية لا تُعّد، لأماكن ومستوطنات لا أعرف أين تقع وكيف يمكن الاهتداء إليها.

بروفسور رمزي سليمان