(1)
في وسط الظروف المأساوية التي تعيشها مصر، من افلات أمني وتوتر اجتماعي، وإنحدار المستوى الاقتصادي، نجد الكنيسة المصرية كمؤسسة في حالة ضعف بين المؤسسات المجتمعية. ومع تزايد مستوى الفقر الاجتماعي والفقر الفكري، والإضطرابات السياسية، والإنحدار الثقافي، يظهر على السطح لفظ المهَّمشون في شتى المجالات. والكنيسة المصرية هي أكثر المؤسسات تهميشاً، نتيجة ما تفشي من تمييز في النظام السابق، وصل مداه حتى احتل العقل والفكر.
صحيح أن السلطة الحاكمة نظرت نظرة تحقير إلى المهَّمشين في المجتمع، وبدايتهم الكنيسة. وأيضًا رأت الكنيسة نفسها بعين الظلم والفقر والعجز الواقعة فيهم، لسنين طويلة، إلا أن الوضع الآن قد تغير.
وحتى لا أُتَهم ككاتب بأنني لا أرى إلا نقاط التأخر والضعف في مؤسسة الكنيسة، فإنني أجيب على من يطلبون منى عرض لرؤية وحل للنقد المتواصل الذي أوجهه للكنيسة المصرية، رغم أنني أرى أن التقدم والنمو وقيادة المستقبل ينبع من داخل الكنيسة بإصلاح ذاتها، وقطع أو علاج ما تراه سبباً للتأخر والتخلف من أفكار أو معتقدات تراها ثوابت ومقدسات لا تُمس.
يطل علينا في وسط الجو الملبد بالغيوم من حولنا، كتاب إيجابي النظرة والتفكير لدور المهمشين أفرادًا كانوا أم جماعات بعنوان : quot;أمانة المهمشين: قوة الكنيسة الشاهدةquot;، وكاتب هذا الكتاب هو القس جاد الله نجيب، وهو قس مصري إنجيلي، عَمِلَ في مصر في منطقة نائية فقيرة مُهّمشة لمدة سبعة عشر عامًا، ثم انتقل للعمل في المجتمع العربي في انجلترا منذ عام 2004 وحتى الآن. وقد صدر هذا الكتاب عن دار الفكر الإنجيلي بالقاهرة نهاية عام 2009.
يقوم الكاتب بدراسة سفر الرؤيا، وهو أحد أسفار العهد الجديد، من زاوية تحليل اجتماعي لسلوك جماعة الكنيسة في القرن الأول وهي تحت حكم الرومان، حيث كانت واقعة تحت اضطهاد عنيف وتهميش لوجودها ودورها. وكيف واجهت أزمتها الاجتماعية ومأزقها الديني، وأسلوب تعايشتها في المجتمع مع مبادئها الدينية وانتمائها الوطني.
(2)
في البداية، يطرح الكاتب سؤالاً على لسان الكنيسة في ذلك الوقت التي كانت تعاني من قوة الضغط السياسي والتضييق الاجتماعي، من فقر وحرمان وانعدام العدالة الاجتماعية. وهو مأذق وضعت فيه و قد يشابه نفس الحالة التي توضع فيها الكنيسة اليوم في بعض الجوانب.
والسؤال هو : quot;هل كان على الكنيسة أن تقبل التهميش الذي يهمشه لها المجتمع، أم تساهم في عزل نفسها وحرمانها مِن تواجدها الإنساني في المجتمع؟ أم تواجه المجتمع في وعي بذاتها، وتُقبل على الحياة، وتؤهل نفسها، وتتعايش في دورها الإيجابي البناء لعمل مشيئة الله في مجتمع قاسٍ؟quot;.
وللإجابة عن السؤال يقول الكاتب في تحليله أن الكنيسة عاشت واقعها لتملك الغد وتتمتع به من خلال إصرارها على أن تحيا مبادئها، و تصمد صمود إيماني، وروح إيجابية تهزم المتاعب والتجارب ومرارة الاضطهاد والظلم.
وأنا أرى أن هذا سؤال قديم من بداية عصر الكنيسة في المجتمع الروماني الذي كان يطلب من الكنيسة أن تعبد الأوثان، ولا يزال يتجدد حتى الآن، في مجتمعاتنا التي ترفض الآخر. ويبقى التحدي الداخلي والخارجي قائم أمام الكنيسة، فهل تقبل التهمش؟ أم تتعايش مع مبائها؟
مَن هم المهَّمشون؟
يذكر الكتاب أن التهميش هو استبعاد المواطن من حياة المجتمع الطبيعي، ووضعه في حالة من الفقر والحرمان ونقص العدالة. ووضع معنيان للمهمشين. معنى سلبي، هو الضعيف، العاجز،... المكبوت الذي يواجه الموت دون مقاومة. ومعنى إيجابي، وهو رغم الإحساس بالضعف والعجز للمهمشين، إلا أنهم يرون في داخل نفوسهم أشياء مضيئة تقاوم الظلمة الغالبة والكاسحة، ولهم أشواق المواطنة، وهم يتطلعون إلى العدل والخير.quot;
وهنا يبقى سؤالي: هل تلعب الكنيسة المصرية دور الباكي مَن الإضطهاد الشاكي، أو تلعب دور من يهرب إلى الخارج لاجئاً إلى منظمات مشبوهة تحت مسميات دولية؟؟ ورفض التعايش وفق مبادئها؟ أم أنها تصر على التشبث بالوطن والمطالبة بالمواطنة كما يقول الكاتب: quot; أنها تعيش المعنى الإيجابي، الذي ترد فيه فكرة أن المهَّمش هو المجدِّد، الخلاّق، صانع المستقبل، المتخطي للحاضر، المستشرف، الرؤيوي.quot; فيحاول المهمش بصورة إيجابية أن بصل برسالة واضحة المعالم إلى صناعة وتشكيل مجتمع يتمسك بمبادئه، ويرى أن الغد أفضل من اليوم.
التحدي الأهم أمام الكنيسة
ويتخطى الكاتب تعريفه للمهمشين إلى التحديات التي كانت تواجه الكنيسة في الظروف الصعبة من تهميش وإهمال، وسياسة الضغط والتمييز. وأكبر تحدي واجهته الكنيسة هو أن تتغلب على ضعفها بالشجاعة في أن تعيش قناعاتها الروحية مهما كانت العواقب، بايمانها بسيادة الله، وبحضورها الذي تتحدى به تركيبة المجتمع، من خلال تطبيق قيمها ومثلها على حياتها، التي تتمثل في التضحية والمحبة والعطاء للمجتمع من وازع سلام داخلي في مواجهة الظلم والحرمان.
ومن هنا أضع اسئلة للقارئ اليوم بعيدًا عن اجابات الكاتب وهي : ما هو الجديد والمتميز الذي تقدمه الكنيسة للمجتمع اليوم؟ هل تقدم الكنيسة عبادة؟ أخلاق؟ تدين؟ تسبيح؟..... كل هذه الأمور والأعمال مطلوبة ولا خلاف على وجودها. لكن ما هو الجديد والمبدع الذي تقوم به الكنيسة ويقود المجتمع للمستقبل المشرق؟ أهو تحدي الثوابت والمقدسات؟ وماذا يستفيد المجتمع مِن نظم العبادة المتغربة في التاريخ أو المتغربة في الحضارة للمجتمع المحلي؟؟
(3)
الكنيسة الحية
يوصف الكاتب الكنيسة الحية بأنها هي الكنيسة التي تنمو، التي لا تقف عند انشطتها التقليديه التي بلا روح، أو تعيش على أمجاد ماضيها، بل هي المتحركة، الديناميكية، المتجدده ولا تتوقف عن النمو. والكنيسة المترابطة في الداخل، فالتفكك هو علامة الموت، فمعنى ذلك عنصر الحياة ينقصها، وأن طغيان التحزب والانشقاق هو دليل فقدانها لحياتها ورسالتها.
ومن هنا يأتي هل الكنيسة، رغم أنها مهَّمشة، مؤسسة حية؟ تتفاعل بحياة ناضجة في ما بين عناصرها الداخلية؟ أم أنها تتصارع صراع الموت دون محبة أو عمل جماعي يبني للأمام؟ هل العلاقات بين المسئولين علاقات سوية، عاقلة، يمارسون فيها التواضع وإنكار الذات والخدمة الباذلة المضحية، أم مجموعة من المتصارعين على الكراسي، والباحثين عن أمجاد تكتب في تاريخ الأمم، كما قادة الجيوش؟ وفرعيات العقائد، وحرية التفكير، هل هي صراع الجبابرة وقتال المكّفرين، أم أنها نظريات إصلاحية لتطور المجتمع، وفائدة البشرية وإنسانية الإنسان؟
وحين يختلف المختلفون، هل يتقاتلون ويتنابذون، أم يتحاورون ويقبل كلاً منهما الآخر؟ نعم، يمكنك أن تكون مهّمش، لكن أيضاً، يمكن أن تأكل نفسك وتُنهي حياتك بيدك، أو تتقدم وتُنير الطريق للأخرين.
(4)
لماذا نعيش؟
وأكد الكاتب على ضرورة معرفة هدف حياة الفرد والكنيسة في المجتمع. مؤكدًا على أن في وسط التهديد يمكن للكنيسة أن تفقد رؤيتها الصحيحة، وإذا فقدت رؤيتها تسيئ تفسير واقعها، وتبعد عن نمو إيمانها.
ومن هنا يظهر السؤال لماذا نحن موجودون؟
ما هي قيمة أن تعيش دون أمل و دون رؤية؟
الكنيسة مهَّمشة؟ نعم. صغيرة؟ نعم. لكن، عندما يكون للصغير المهّمش أمل، يصبح قوة مؤثرة في المجتمع المحيط به. فالأمل هو الإحساس بالتوقع الإيجابي فبلا أمل تظلم الحياة وتحتضر النفس. فبالأمل نصمد أمام الضغوط الاجتماعية ومواجهة التهميش، بالأمل يتشكل القلب الأمين، وتبنى الشهامة الإنسانية في داخل المرء التي تقبل الألم والمعاناة والصعوبات.
فحين تعيش الكنيسة المهَّمشة بتوقع الألم، هذا يعطيها أمل في عمل أفضل. يكون وقتها تحدي الجبابرة.
إن الله العظيم لن يعطي الكنيسة أمراً جديداً، لن يهطل من السماء ناراً تأكل الظالم وتمحي الظلم، لا لن يفعل سبحانه هذا. إنه أعطى الإنسان عقلاً فاعلاً مفكراً، وعلى الإنسان أن يستخدم ما هو متوفر لديه مِن إمكانيات، حتى مِن الألم.
ويبقى التحدي أمام الكنيسة المهَّمشة، أن تتوحد داخلياً، أن تعطي فرصة للتفكير الحر، وأن تزرع الأمل في القلوب متوقعة الألم، أن تجتهد أن يكون لها رؤية فتفهم واقعها فهمًا صحيحًا، وتنموا أمينة فى قناعاتها ومبادئها التي به تسعى للعمل الإنساني ورفعة الإنسان كإنسان.
كل تقديري لصاحب الكتاب لمراجعته لي هذه القراءة.
التعليقات