رغم أنني أعيش خارج مصر إلا أنني منذ يوم تركتها لا أشعر أنني فارقتها. وكنت أعمل في منطقة نائية، فقيرة بسيطة في الإمكانات وفي سكانها، ومع ذلك تتماثل أمام عينيّ كل يوم.

لا أدعي الوطنية أكثر من غيري المهاجرين، ولا حبي لكنيستي أكثر من أؤلئك، ربما يرجع حبي للوطن والكنيسة لتكويني الشخصي، وهذا أراه في نفسي إنه امتياز لي أن يكون وطني وكنيستي في خاطري دائمًا.

تزاحمني الأفكار هذه الأيام، وتقلقني الإنطباعات التي تدور في مكنونات الكثيرين بسبب الأحداث الجارية في بلادنا وفي الوطن العربي. تأتينا الأخبار من كل صوب وحدب، من يوم ثورة 25 يناير 2011م إلى الآن وتختلط المشاعر بين الإيجابي منها والسلبي. في البداية شعرنا بأن زمن الحرية والتغيير قادم، وأن نسيم الأمل يهب على بلادنا نستنشق رائحته مع مرحلة جديدة وفكر جديد، ينطلق بنا نحو أفاق أرقي وأفضل.

ومن جهة أخرى تهب علينا رياح عاصفة تلوث الجو العام فتسوده حالة من الضبابية التي لا يمكن التنبوء بما يصير لبلادنا في المستقبل القريب والبعيد. فالأجواء مشحونة بالاعتصامات، والمطالبات بلا سقف، وتفشي الأمية الاجتماعية وهي عدم القدرة على التمييز بين الحقوق والواجبات، والنقص الحاد في تقبل الآخر في مجتمع متعدد الثقافات والاتجاهات والمعتقدات. بالإضافة إلى أعمال البلطجية التي تصيغ قصصًا لا تخلو من الوجع والألم والمعاناة لكل طبقات المجتمع.

ويزيد الطينة بلة هو إحساس بعض المسيحيين في بلدنا بالتهديد المباشر، بل حتى إخوتنا المسلمين الذين يختلفون في تفكيرهم وتوجههم الديني عن فكر هؤلاء من ذوي الصوت العالي لديهم شعور مشابه. فهل يقفز المجتمع إلى المجهول؟ أم يسود الحياة اليأس وفقدان الأمل؟ هل يفكر البعض في الهجرة وترك البلاد للبحث عن ملاذ آمن؟ وماذا سيكون مصير من يحبون بلادهم، ويتسمون بالوطنية المخلصة؟............ أسئلة يحار لها العقل، وتدمي لها العين من مجرد التفكير فيها.
هل هناك من إجابات للأسئلة المطرحة؟!....... ليس من باب الصدفة أن نجد في التاريخ أحداثًا شبه مماثلة، حتى وإن اختلفت في سياقها التاريخي وفي تداعياتها، إلا أنها أحدثت نفس الأسئلة، بل وأفرزت فزعًا وترقبًا لما سيكون عليه حال الأمة في المستقبل القريب.

هذا الحدث نقرأ عنه في كتاب زكريا النبي، وهو واحد من الأنبياء الصغار في العهد القديم. وينحصر تفكيرنا في الأصحاح التاسع في الأعدد الثمانية الأولى. هذا النص من الكتاب المقدس نبوة توصف الهجوم العسكري للإسكندر الأكبر على شمال وغرب فلسطين، سنة 333 ق.م تقريبًا.

وكثيرون يعرفون من هو الإسكندر الأكبر، فقد بدأ حكمه بعد اغتيال فيليب الثاني والده، وقت أن كان الإسكندر مدربًا كقائد حربي للجيش الذي كان قد أعده والده لفتح الشرق الأدنى والاستيلاء عليه. اعتلى الإسكندر العرش، ووجد نفسه محاطًا بالأعداء ومهددًا بالتمرد والعصيان من الخارج، فتخلص مباشرة من المتآمرين عليه وأعدائه بإعدامهم. وابتدأ الإسكندر في غزوا البلد، فاتسعت مملكتة اتساعًا عجيًبا، من مقدونية (اليونان) حتى مصر والهند.

هزم الإسكندر داريوس ملك فارس وبذلك قوّض أركان مملكته، في معركة إسوس. وتحرك ناحية سورية، فاستولى على مناطق سورية الداخلية وحتى نهر الفرات. واتجه نحو الساحل السوري غربا ومن سورية اتجه جنوبا إلى مصر داعيًا المدن الفينيقية ( صور ndash; صيدون - أشقلون- غزة ) لفتح أبوابها حتى لا تستخدم سفن الجيش الفارسي موانيها، إلا أنه قد قاوم أهل مدينة صور المحصنة بحريا مقاومة قوية وثابتة أمام الإسكندر. فاقتحمها بعد حصار دام سبعة أشهر وأخربها وألقي بأنقاضها في الماء ليعمل منها طريقًا ليصل إلى المدينة الجديدة الموجودة في الجزيرة، فقد استولى على صور القديمة والجديدة.

لقد أحدثت تحركات الإسكندر الأكبر العسكرية وانتصاراته وهزيمة المدن رعبًا لكل منطقة الشرق الأدنى، ونقرأ وصف زكريا للحالة التي انتابت البلاد.. quot; ترى أشقلون فتخاف، وغرة فتتوجع جدًاquot;. لم تكن هاتين المدينتين فقط بل أورشليم أيضًا. ووصل الرعب إلى واقع حيث احتل الإسكندر غزة بعد حصار دام شهرين، وبعدها أمّن السيطرة على خط الساحل الشرقي للبحر المتوسط.

بعد أن أمن السيطرة على ساحل البحرالأبيض المتوسط اتجه الإسكندر ناحية أورشليم، ولم يكن راضيًا عن اليهود في ذلك الوقت، لأنهم رفضوا تقديم الجزية له، وهي الجزية التي كانوا اليهود يعطونها للفرس. ماذا يفعل اليهود أمام جبروت الإسكندر؟ وماذا سيكون مستقبل أورشليم وشعبها؟.... بالتأكيد أسئلة كثيرة كانت حِملاً ثقيلاً على الشعب والقادة. وهل من خطة للتخلص من هذا الآتي، وهم لا حول ولا قوة لديهم؟

قراءة الأحداث
أمام الإحساس بالخوف والقلق وعدم الشعور بالاطمئنان والراحة، والمستقبل الظلامي والمجهول، يذكر المؤرخ اليهودي المعروف يوسيفوس، أن رئيس الكهنة إزاء الوضع الراهن قد نادى أهل أورشليم بالصوم والصلاة، وقدم ذبائح في الهيكل طالبًا حماية الله الخاصة لشعبه.

قبل أن يصل اسطول الإسكندر الأكبر إلى أورشليم بليلة واحدة حلم رئيس الكهنة حلمًا يترأى له الله فيه ويكلفه بما يفعله مع الإسكندر الأكبر. كانت الرسالة والتكليف هي: زيّن أورشليم، وقل للناس أن يلبسوا ملابس بيضاء، وافتح أبواب المدينة لاستقبال الملك الزائر، والبس أنت والكهنة اللباس الكهنوتي المقدس، ويخرج الشعب كموكب مع الكهنة وتتقدم أنت الموكب في استقبال الإسكندر حين وصوله إلى المدينة غدًا. يا لها من مسؤلية سياسية وروحية في آن واحد!

تجاوب وتفاعل رئيس الكهنة مع القراءة النيرة للحدث، وأدرك دوره كقائد فنادي ونظّم الموكب وبادر بالتحرك والاستقبال. كان موكب الاستقبال مُبهرًا للإسكندر الأكبر، فكان رد فعله قبوله وترحيبه لموكب الاستقبال في سلام داخلاً إلى أروشليم. في ذلك الحين أخبره رئيس الكهنة بنبوة دانيآل الذي تنبأ عنه.

إن قراءة الأحداث الصحيحة، واتخاذ المبادرة الإيجابية، جعلت الإسكندر يدخل إلى الهيكل ويقدم ذبائح لله عن رضى. ولم يستول على أورشليم مخرّبًا، ولم يؤذ الشعب، ولا طالب بالجزية، وأكثر من ذلك ترك لهم الحقوق التي اكتسبوها تحت حكم فارس. ومن هنا تحققت كلمة الله مع شعبه حين قال: quot; أحل حوْل بيتي بسبب الجيش الذاهب والآئب، فلا يعبر عليهم بعد جابي جزية..... quot;.

لقد ذكّرني رئيس الكهنة بما كتبه ستيفن كفي في كتابه quot;العادات السبع للناس الأكثر فاعليةquot;، يقول فيه: quot;إن أردنا أن نغير الوضع علينا أن نغير من أنفسنا أولاً، ومن أجل التغيير الفعال من أنفسنا، علينا أولا أن نغير توقعاتناquot;. فنحن نعيش ما كانت تعيشه مدن فينيقية، ومدينة أورشليم من إحساس بالخوف والقلق وعدم الشعور بالاطمئنان والراحة، والمستقبل المجهول. فهل لنا أن نعمل على تغيير أنفسنا وتغيير توقعاتنا؟ وهل لقادة الكنيسة وشعبها الأفاضل أن ننمي العقل بالمعرفة، والروح بالإيمان والقيم الروحية والإنسانية، وننمي العواطف بالتواصل مع المجتمع لشحذ ملكات الانتماء.

هل نتخذ ككنيسة - قادة وشعب - دورنا الحقيقي في الرجوع إلى الله، ليس طلبًا للروحنة في ظروف حرجة جدًا تمر بها الكنيسة والبلاد، بل طلبًا للاستنارة الروحية، والإيمان العميق لاستشارة الله ومعرفة ماذا ينبغي أن نفعل فيمدنا بقراءة صحيحة للأحداث المعاصرة، فنتبصّر طريقنا لمعرفة كيف نخرج من عنق الزجاجة؟.
هل نحتاج بالفعل إلى الصوم والصلاة من الإسكندرية إلى أسوان لطلب وجه الرب وحمايتنا وحماية كنيستنا وبلادنا؟. أم نستجدي قراءة الأحداث من واقع الذكاء السياسي والخطط الاستراتيجية، وإن كانت مطلوبة، لكنها لا تسبق الاستنارة الروحية، ومعرفة ماذا ينبغي أن نفعل؟.

هل تلّمع الكنيسة في مصر ما بُهت لونه أو خبأ من قيم روحية وإنسانية، كانت أولويات رسالتها؟ وهل تعيد مبادراتها الجادة في المجتمع، لا لمجرد اثبات وجود، أو إعلان حضور مجتمعي فقط، بل تقديم نموذجًا حيًا إيجابيًا لمواطن ذى رسالة روحية ومجتمعية في آن واحد؟

أم مازالت الأمية الروحية تقتحم حياتنا فنحيا أسرى الخوف والترقب، وتشل حركتنا، وتفقدنا تفكيرنا الإيجابي تجاه الواقع وتضلل طريقنا فلا ترى أعيننا من نحن؟ وإلى أين ذاهبون؟...... لأن الأمية الروحية جندي أعمى يعجز عن قراءة الأحداث، وبالتالي يستخدم سلاحة بطريقة خاطئة، أو قد لا يعرف كيف يستخدمه.

[email protected]