ماذا لو نجحت الانتفاضة الشعبية وازيح الديكتاتور في بعض البلدان العربية وانتقلنا الى مرحلة الصراع على السلطة بين فصائل المعارضة والتي آلت لها ثمار الثورة الشعبية ودخل العالم العربي في حالة من النزاع بين هذه الفصائل المتناحرة فكرياquot; من اسلاميين او قوميين الى يساريين الى يمين متطرف؟

الخوف من quot;ركوب موجة الثوراتquot; الذي سمعنا عنه كثيراquot; مؤخراquot; يتلخص بواقع ان المئات من الشباب العربي يتوقون للتضحية بارواحهم في سبيل التغيير يقابلهم العشرات من المعارضة الذين يترصدون لسرقة الثورة وركوب موجتها... وهذا كان واضحاquot; جداquot; من قبل بعض quot;المتلونينquot; من بقايا النظام السابق الذين رأيناهم يرفعون شعارات الثورات وينزلون للميادين بعد سقوط الحكم في مصر وتونس...

فماذا اذاquot; بعد سقوط الديكتاتور حسني مبارك وزين العابدين بن علي في كل من مصر وتونس؟ ماذا لو سقط غداquot; كل من معمر القذافي وعلي عبدالله صالح وبشارالأسد في ليبيا واليمن وسوريا؟ ماذا لو كتب لثورة البحرين أن تطيح بالنظام الملكي هناك؟ ماذا لو تهدّد وجود نظام عربي حاكم آخر قريبا؟ الاحتمالات كلّها مطروحة في زمن أصبحت فيه الثورات العربية تتحرك على صفحات المواقع الاكترونية، كالفايسبوك وتويتر، بسرعة قياسية وتجمع تأييداquot; شعبياquot; بتأثير لبعة quot;الدومينوquot; وتصمد في الشارع بقوة الضرب والعنف والدم الذي يسيل من المتظاهرين والثائرين والمعتصمين بسبب قمع السلطة والنظام...

بات معروفاquot; في البلدين العربيين الذين تم خلع رأس النظام الحاكم فيهما أن الشعوب هناك منشغلة حالياquot; باختيار الرئيس المقبل وقانون الانتخابات الأفضل وشكل النظام المقبل بأكمله... ولكن الحديث عن شكل النظام يفرض علينا النظر الى البحث عن الأشخاص الذين يمكنهم أن يضعوا شكل النظام القادم أو يشاركوا فيه أو يحاسبوا من يخالفه او يراقب مسار ادارته لشؤون البلاد...

ولو أردنا الحديث عن الأشخاص الجديرين فعلاquot; بتوّلي السلطة او الحكم او ادارة شؤون البلدان العربية في مرحلة quot;ما بعد الثوراتquot; فلا بدّ من التطرّق ليس الى أسماء المرّشحين او الشخصيات الأكثر ظهوراquot; اعلامياquot; أو وجوه المعارضة للنظام السابق، بل يجدر بنا الحديث عن بعض من كان مطلوباquot; منهم في المراحل السابقة ان يحاربوا الفساد أثناء حكم الأنظمة السابقة وبعض من اعتبرهم الاعلام والشعب محرّكا في الثورات القائمة... انّهم طبقة المثقفين والناشطين والمدوّنين...

المثقف...هو ذلك الذي تعوّد الناس أن يرونه في المقاهي حيث يجلس مع زملائه quot;المثقفينquot; ومن يعرف شارع الحمرا في بيروت يفهم معنى الصورة النمطية لquot;مقهى المثقفquot; في لبنان... وquot;المثقفquot; هو ذلك الذي يعرّف عنه الاعلام بكونه شاعر او صحافي او روائي او باحث ولكن الشعب لا يفهم من كلماته واشعاره الا القليل...وهو ذلك الذي يتحدث باللغة العربية الفصحى quot;حفاظاquot; على الارث التاريخي للغة العربية quot;كمّا يدّعيquot; لكنه نسي انه يخاطب شعباquot; نسي اللغة العربية الفصحى منذ زمن بعيد بل أصبحت ثقيلة على quot;شباب الفياسبوكquot; وquot;قوم المنتدياتquot; حتى في طباعتها على لوحة مفاتيح الحاسوب... طبعا هذا ليس التعريف الحقيقي للمثقف... لكنه الأكثر واقعيةquot; وقرباquot; من الصورة التي احتزلها الراي العام quot;للمثقفquot;، انها الصورة النميطة الصادمة حول المثقف الذي عجز طوال عقود، منذ استقلال الدول العربية عن المستعمر الأوروبي، ان يغيّر في واقع بلده او مجتمعه او حتى قريته...بل انّه ظل بعيداquot; عن الشعب وابتعد شيئا فشيئا عن الراي العام وquot;الناس البسيطةquot; في بيوتها وشوارعها واحيائها الى ان زادت الهوّة بينهما واصبحوا معزولين تماما فكريا وحواريا وثقافيا واصبح لهم تجمعات ومقاهي ولقاءات ومؤتمرات وورش عمل لا يفهمهما ولا يتشارك فيها ولا يكتب عنها سوى المثقفون...

أمّا النوع الآخر من المثقفين فقد اعلن انه ملّ مخاطبة الشعب البسيط الذي لا يفهم quot;حسب قولهquot; شيئا عن التغيير، فباع القضية والتصق بالنظام الحكام واصبح مثقف النظام...
اليوم ومع اندلاع ثورة الشعب والتي مهما اختلفت اسبابها من بلد عربي الى آخر ومهما احتفلت نتائجها بين بلد عربي وآخر فانّها تحركت بقناعة شعبية وارادة شعبية كان الشعب قد فهم، قبل اشعالها، الحاجة للتغيير مما ابطل نظرية المثقفين بان الشعب quot;لا يفهمquot;... واتّصح لنا ان المشكلة كانت ان المثقف لم يعرف كيف يخاطب الشعب بلغة يفهمها الشعب...
اليوم اسماء كثيرة من المثقفين مطروحة للحكم الجديد ومنهم من له اعمدة راي أومساهمات في التحركات الشعبية أومناظرات تلفزيونية حيّة أوغيرها من سبل الدعاية المشروعة طبعا، فهم من ابناء هذا الوطن، ولكن هل هم جديرون بالحكم؟ او بالاحرى هل فهموا لغة الشعب او انهم سيعيشون عزلةquot; جديدةquot; بعد توليهم الحكم فيتكرّر ما حصل مع الانظمة السابقة التي خاطبت شعوبها بلغة القمع، ولكن المثقفون هذه المرّة، اذا استمروا على حالهم، فسيخاطبوا الشعوب بلغة خشبية لعلّها هي الأخطرمن لغة القمع لانها غير معروفة....
اما الحاكم الآخر quot;المنتظرquot; بعد كل هذه الثورات فهو quot;الناشطquot; او ما يسمى بquot;أهل المجتمع المدنيquot; الذين ينقسم رأي المجتمع حولهم عموماquot;... فمنهم من يعتبر أنهم يقومون بدور تغييري تصحيحي اصلاحي منذ ما قبل الثورات ومنهم من يعتبرهم جماعة تخاطب quot;اهل المجتمع المدنيquot; فقط لا غير بلغة مثالية هي لغة حقوق الانسان وقيم المواطنة والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون والحريات الفردية والعامة وغيرها من الشعارات التي يرفعها المجتمع المدني... ومنهم من يتهمهم انهم يجلبون امبريالية ثقافية الى العالم العربي لانهم يعملون بتمويلات اوروبية اميركية في معظم الاحيان وبالتالي فانّ عملهم ليس حرّاquot; من شروط الممول الاجنبي...

والسؤال الاهم عن مستقبل quot;الناشط العربيquot; هو هل يملك اليوم فعلاquot; الفرصة للوصول الى السلطة اذا بقي خارج الاحزاب السياسية القائمة؟ وهل جلبت الثورات فرص جديدة لهؤلاء من quot;ابناء الشارع الحقوقيquot; وquot;مؤتمرات المدافعةquot; وquot;ورشات عمل التوعيةquot; للمشاركة في صنع القرار في مرحلة ما بعد الثورات؟

اما الفئة الثالثة هنا فهي المدونون والمقصود هنا أصحاب المدونات والمواقع الالكترونية وكتّاب الاعلام الالكتروني وأولئك القيّمين على quot;صفحات الفايسبوك الثورجيةquot; وغيرهم من الذين يجلسون ويكتبون لساعات طويلة مقالات واخبار تساهم في مسار الثورات لا سيما من الناحيتين الاخبارية والتعبوية... فهل سيكونل لهؤلاء نصيب في المراحل القادمة؟ وهل سيكون لهم اي مشاركة فعلية في ادارة الحكم؟ ام انهم سيشكلون سلطة جديدة تراقب وتخبر وتعلم هي quot;سلطة العالم الافتراضيquot;؟

وللحديث عن فرص وانكامنيات خؤلاء لالمثقفين والناشطين والمدوّنين في الوصول للساطة، لا بدّ من العودة الى تحليل معوّقات التقدمّ في العالم العربي بعيداquot; عن اطار الثورات القائمة...فإذا أخذنا بعين الإعتبار الواقع الفكري والإجتماعي والإقتصادي والثقافي المتدّني في البلدان العربية اليوم لنقارن به أي مجتمع أوروبي أو أميركي أو آسيوي نجد أن ما يُكبل الوطن العربي اليوم من المضي في مسيرة التقدم والحداثة والمعرفة أكثر من أي عامل أخر هو الدين والنقصود هنا الفكر السلفي والرجعي في ذلك الدين.. فالحواجز الدينية المرهقة التي يرفعها رجال الفكر الإسلامي السلفي المتشدّد هي العامل الرئيسي في تخلف هذه المجتمعات، والمعركة الأساسية اليوم تكمن في التخلص من هذا الفكر و إصلاح المناهج التعليمية والثقافية والمعرفية في هذه الأوطان.

وعندما نأخذ نظرة قريبة لجميع نظم الحكم العربية اليوم نرى أنه لايوجد حاكم أو ملك أو سلطان فيها لم يشجع ويدعم محاربة التطرّف الفكري في بلده. وإنتشار الجامعات الخاصة والمعاهد الدراسية العليا في هذه البلدان خلال العقود الزمنية القليلة الماضية مؤشر إيجابي نحو الإتجاه الصحيح. يظنّ البعض من دعاة الفكر التحرري والتقدمي في الوطن العربي أن الوسيلة الأساسية للإرتقاء بنظم الحكم العربية هي الدفاع عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وحثّ الحكومات العربية على تبنّي هوامش أوسع في الحريات العامة والفردية لدعم المشاركة الفعلية للمواطن العربي في إدارة شؤون بلاده.

ويذهب بعضهم من المعارضيين السياسيين الى تبني وجهات نظر مفكرين ومستشرقين غربيين يعملون لصالح جهات متعددة المآرب والأطماع في أوطاننا العربية وبذلك يخرجون من إطارهم وإنتمائاتهم العربية ليلبسوا لباس غريب الشكل والمضمون لايتقبله أحد في مجتمعاتهم وأوطانهم. وهنا علينا أن نسأل أنفسنا بصدق وشفافية تامة، هل يمكن لهذه النخبة من أبناء العالم العربي التي تدّعي المدنية والتقدّم وتطالب بالتغيير والإصلاح من أن تحكم هذه الشعوب العربية بجميع مذاهبها وتياراتها وانتمائاتها المختلفة من دون أن تلجأ أحياناً ألى قمع بعض الحريات التي طالما كانت الهاجس الرئيسي لهؤلاء المعارضيين السياسيين؟

المشكلة الحقيقة هي أنّ قوى المعارضة العربية بمعظمها، غير قادرة على تطوير أدواتها السياسية أو الإعلامية، وهي بذلك عاجزة عن إستغلال فرص الإصلاح المتاحة اليوم، والتي قد تختفي غداً، أو بعد غد...فالمعارضة كمفهوم، هي ليست وليدة هدف إجرائي مرحلي، بل هي ذلك الجهاز الذي يقوم بتوظيف حيوية الشعوب، نحو تحقيق إستراتيجياتها الكبرى، هذه الإستراتيجيات يعبر عنها في المفهوم السياسي الحديث بـ quot;مصلحة المجتمعquot;. بمعنى، أن تبّني أي منظومة معارضة، لأي خيار ما، كهدف نهائي، هو بالضرورة تحديد نهاية زمنية لها، فمتى تحقق الهدف الذي جعلت منه سبب وجودها، أصبح وجود المعارضة quot;غير شرعيquot;!!!

والمشكلة الأخرى أيضاquot; هي أن تجمعات المعارضة العربية، دائما ما تتكلس أمام الأهداف الآنية في صراعاتها السياسية، لذلك تجد سياساتهم الإعلامية عاجزة عن إنتاج خطاب موازي وقادر على اللعب من السلطة quot;الدولة الحديثةquot; في تجاذباتها السياسية من حقل لآخر بدهاء وتطور.

ثارت الشعوب العربية في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين وسوريا، وخيار الثورة لازال مشجع لبقية الشعوب العربية، من اجل حقوقها المغتصبة وكرامتها المهدورة، والشعوب قامت بما يمليه عليه ضميرها الانساني للتخلص من الظلم والاستعباد والبحث عن حياة افضل، ولكن من سيكون البديل؟ ومن سيقطف ثمار هذه الثورة الشعبية العارمة وهل هذا البديل سيكون افضل من الانظمة التي ثارت ضدها الشعوب؟

كلّها أسئلة تبقى الإجابة عليها رهن الرأي العام في العالم العربي، فهناك تكمن الحلول وهناك تتبلور أطر المشاكل... وعندها يمكن لنا معرفة ان كان المثقف او المدوّن او الناشط او المعارض السياسي بات جاهزاquot; نفسيا وفكرياquot; للحكم في المرحلة القادمة من تاريخ العالم العربي...

باحثة في العلاقات الدولية
المديرة التنفيذية quot;المركز الدولي للتنمية والتدريب وحلّ النزاعاتquot;
[email protected]
www.itcrcenter.org