مرة أخرى أشعل السلفيون النيران في مصر بسبب فتاة تدعى quot;عبيرquot; أسلموها ورفضوا عودتها للمسيحية. مرة أخرى هاجم السلفيون عدداً من الكنائس وقتلوا بعضاً من المسيحيين وأصابوا مجموعة أخرى وأضرموا النيران بالمنازل والمحال المملوكة لمسيحيين. بدأت الواقعة بعدما انتشرت شائعات بين السلفين وعلى مواقع التواصل الاجتماعي باختفاء فتاة تمت أسلمتها قبل عدة شهور. وقالت شائعات السلفيين أن الفتاة تواجدت في كنيسة بحي إمبابة بمحافظة الجيزة وأنها تتعرض لضغوط لإعادتها للمسيحية. على الفور تجمع الألاف من السلفيين حول الكنيسة وأطلقوا الرصاص وألقوا عبوات المولوتوف على المسيحيين الذين وقفوا للدفاع عن دور عبادتهم فقتلوا من قتلوا وجرحوا من جرحوا وروعوا من روعوا.
الغريب أن هجوم السلفيين على كنيسة إمبابة جاء بعد دقائق قليلة من ظهور السيدة كاميليا شحاتة على شاشة قناة الحياة المسيحية للتأكيد على مسيحييتها ونفي الشائعات التي أطلقها السلفيون بشأن إسلامها واختطافها وسجنها بأحد أديرة الكنيسة. ويعتقد المسيحيون في مصر أن مسألة الفتاة quot;عبيرquot; ليست إلا غطاءً يستغله السلفيون لتبرير هجومهم على مسيحيي إمبابة بعد أن هزمتهم السيدة كاميليا شحاتة بالضربة القاضية في المعركة التي استخدموا فيها كل ترسانة اسلحتهم التي تضمنت كل صنوف البذاءات لإهانة الكنيسة وقيادتها ومختلف أنواع الكذب لخداع الرأي العام المصري.
من المؤكد أنه لم تعد هناك مصداقة للسلفين بعدما كشفت السيدة كاميليا شحاتة عن كذب كل ادعاءاتهم بشأنها. أثبتت السيدة كاميليا أن مسألة إسلامها ليست إلا شائعة أطلقها السلفيون بمساعدة أجهزة أمن الدولة. كانت أجابات السيدة كاميليا على أسئلة الأخ رشيد على شاشة قناة الحياة مثيرة لأنها كشفت المستور بشأن العلاقة الخفية التي ربطت بين التيارات السلفية وأجهزة أمن الدولة في النظام السابق. وأوضحت كلمات السيدة كاميليا أن الأزمة التي قامت بشأنها كانت من نسج خيال حبيب العادلي ورجاله واستخدموها للضغط على الكنيسة ولإذلال البابا شنوده. وكشفت عن أن أجهزة الأمن هي من قامت بتسليم الوثائق والصور الخاصة بها للسلفين لاستخدامها في الترويج للشائعة.
ما حدث بالأمس في إمبابة ليس الأزمة الأولى التي يشعلها السلفيون منذ انهار نظام الرئيس السابق حسني مبارك. لم يعد يمر يوم واحد من دون أن نسمع عن أزمة مفتعلة وتظاهرات مبتزلة يقومون بها. في البداية حاول السلفيون تطبيق الحدود عندما قتلوا عدداً من المسيحيين وأصابوا أخرين كان منهم الرجل الذي قطعوا أذنه بعدما زعموا أنه يؤجر شقة لفتاة غير ملتزمة. وقام السلفيون كذلك بتوزيع الاتهامات الباطلة على المسيحيين، ومن ثم فرضوا الإتاوات الباهظة عليهم مقابل تركهم وحالهم. كما قام السلفيون بهدم كنيسة قرية صول، وأجبروا كنيسة أخرى على الانتقال من مكانها الى مكان أخر. وقام السلفيون أيضاً بتنظيم تظاهرات حاشدة لرفض محافظ مسيحي عينته الحكومة في محافظة قنا، في سابقة سيتوقف أمامها المؤرخون طويلاً في المستقبل.
لعل ما شجع السلفيين على التمادي في فرض نفوذهم وتطبيق أفكارهم المتطرفة هو أن الدولة المصرية انهزمت أمام قوة الشارع منذ نجحت ثورة الخامس والعشرين من يناير. المجلس العسكري، المنوط بمهمة إدارة شئون البلاد، أصبح مكتوف الأيدي، بينما قوات الأمن صارت تقف عاجزة تماماً بعدما quot;قصقصتquot; ثورة يناير أجنحتها ونزعت عنها شرعيتها كقوة لحفظ الأمن الداخلي. لم تعد الأجهزة القائمة على أمن البلاد قادرة على فرض كلمتها على القوى ذات الصوت العالي. ودعونا نقولها بصراحة أن لا القوات المسلحة ولا قوات الأمن ستتمكن من حفظ الأمن طالما بقيت الفكرة الخاطئة القائلة بأن الشارع قوة لا يمكن مواجهتها أو الاعتراض عليها أو رفض مطالبها.
لم يكتسب السلفيون قوتهم من ذواتهم ولكنهم اكتسبوها من الفراغ المؤسسي والقانوني والأمني الموجود الذي أوجدته ثورة يناير. ولعل المجلس العسكري يتحمل مسئولية هذا الفراغ لأنه ترك الأمور من دون تعامل حازم معها، فصار المجرمون يفلتون من العقاب، وأصبحت الأزمات تحل بمجالس الصلح العرفية والقضايا الطائفية تحل على أيدي المتطرفين. لم يضطلع المجلس العسكري بمسئولياته بالصورة الأمثل فلم يضع سقفاً للطموحات في هذه الفترة التي يفترض أنها انتقالية حاسمة في تاريخ مصر. لم يعد هناك حد معين يدرك المرء أنه لا يجب عليه أن يتخطاه. كانت النتيجة أن صارت السماء هي سقف الطموحات وتتحولت مصر إلى ساحة معارك للطموحات المتعارضة. ومن ثم لم يكن غريباً أن تتحول القوى السلفية إلى وحوش هائجة.
أدرك السلفيون أن باستطاعتهم تحقيق كل ما يريدونه. إن أرادوا إزالة كنيسة أزالوها، وإن أرادوا أسلمة امرأة أسلموها، وإن أرادوا تفتيش الكنائس فتشوها، وإن أرادوا منع محافظ مسيحي من استلام عمله منعوه. هكذا صارت تسير الأمور. اليوم ينادي السلفيون بتسليمهم السيدة كاميليا شحاتة رغم إدراكهم أنها لم تتحول إلى الإسلام. القضية بالنسبة لهم ليست السيدة كاميليا، القضية بالنسبة لهم هي إذلال المسيحيين وحجب كل حقوقهم ووضعهم تحت إمر أمراء السلف العتيق. السلفيون لا يرضون بأن تتم معاملة المسيحيين quot;الكفرةquot; كمواطنين متساوين في الحقوق، وهم يسعون لوضع أسسهم السلفية لهذه المعاملة. السلفيون لا يقبلون بأن ترتفع الصلبان على الكنائس، وهم يريدون إزالتها. السلفيون لا يريدون أن يؤمن المسيحيون بعقيدة الثالوث والإله المتجسد، وهم يريدون منعها. هذه هي القضايا الحقيقية التي يهتم بها السلفيون والتي يسعون لها.
السلفيون خطر داهم على مصر التي تمر اليوم بفترة عصيبة من تاريخها، فترة لا نعرف إن كانت انتقالية أم أنها تمهيدية لمرحلة أسوأ. السلفيون يهزمون الدولة المصرية مرات ومرات كل يوم من دون أن يهتم احد بمواجهتهم بالحزم اللائق. هم لا يريدون أن تكون مصر دولة مدنية يتساوى فيها الجميع أمام القانون. السلفيون يريدون أن تعود مصر إلى الوراء أربعة عشر قرناً من الزمان إلى عهد صدر الإسلام. هذا هو معنى كلمة سلفي. لا يريد السلفيون للمسيحيين أن يبقوا في مصر، هم يؤمنون أن وجود المسيحيين quot;الكفارquot; في بلاد المسلمين لا يتم إلا في عصور الجاهلية. بالطبع هم لا يريدون عصور الجاهلية، هم يريدون عهد صدر الإسلام الذي لم يكن لغير المسلمين فيه أي وجود. هذه رؤاهم التي يريدون تطبيقها عملياً في مصر والتي سينجحون في تطبيقها إن لم يضع المجلس العسكري الحاكم حداً لهذه الطموحات وغيرها من الطموحات الشريرة التي تعشش في كل ركن من أركان مصر اليوم.
التعليقات