من المفارقات الغريبة على الساحة السياسية في العراق في تاريخه الحديث، استمرار الاحتلال فيه باساليب وأشكال مختلفة ومتنوعة عن المألوف، فتارة احتلال بالقوة العسكرية وتارة بالقوة الاقتصادية، ومثالنا على الاحتلال بالقوة هو التدخل العسكري لأمريكا وبريطانيا لاسقاط النظام عام الفين وثلاثة، واما مثالنا على الاحتلال الاقتصادي فهو ايران وتركيا ولكل منهما أساليب متنوعة للدخول في مفاصل الاقتصاديات العراقية.
ونعلم اننا شهدنا وعاصرنا احتلال الولايات المتحدة الامريكية لانقاذ البلاد من نظام الطاغية صدام بأحداث مريرة ومأساوية، مع استمرار تواجد المحتل لسنوات كقوة عسكرية باقرار واعتراف رسمي منه ومن مجلس الأمن، ثم تبعه خروج القوات العسكرية من العراق وفق اتفاقية امنية تراعي مصالح الطرفين في بغداد وواشنطن، ولا ينكر خلال فترة التواجد الامريكي كان للمحتل مكاسب كبيرة لصالح العراق منها اطفاء الديون الكبيرة على الدولة والتي قدرت بمئات المليارات، وتثبيت نظام ديمقراطي دستوري تعددي لنقل السلطة سلميا وفق خيار الشعب، واطلاق الحريات والحقوق الدستورية للمواطن، والحفاظ على البنية التحتية والصناعية للنفط العراقي الذي يشكل المورد الرئيسي للدخل الوطني.
ومع كل هذه الانجازات للولايات المتحدة لصالح العراق الا انها بقيت كقوة محتلة رغم دورها في انقاذ البلاد من ازمات مالية واقتصادية كبيرة كادت ان تمحو الدولة العراقية من الخارطة بسبب ضخامة الديون التي تراكمت عليها من قبل النظام البائد وتهدم البنية التحتية نتيجة حروب النظام طوال عقود مع الكرد ومع ايران وغزوه للكويت.
هذا الواقع للاحتلال الامريكي شهده العراقييون بكل احداثه ووقائعه المؤلمة، ولكن مع هذا الاحتلال تزامن احتلال اخر، احتلال من الدول المجارة لكنه ليس من خلال القوات العسكرية بل من خلال الاجهزة الاستخباراتية والميليشيات والشركات والمكاتب والوسائل الاقتصادية والتجارية، ونتيجة لهذا تكمنت هذه الدول من فرض ارادتها السياسية على القوى العراقية السياسية وان تؤثر عليها وتسيرها وفق مصالحها بعيدا عن مراعاة مصالح البلد، وقد اتسم هذا الاحتلال عكس الاحتلال الامريكي بنهب موارد الدولة واللعب بمصير مواطنيها وادخالهم في حروب مذهبية وطائفية وارهابية واجرامية وزرع الفتنة في كثير من بقاع العراق، واعترافات المسؤولين العراقيين عن التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية دليل على وصول تلك التدخلات للدول المجاورة الى درجات عالية ومديات مؤثرة خاصة في القرار السياسي والاقتصادي والتجاري للكتل والاحزاب العراقية في بغداد.
هذا هو الواقع المؤلم للاحتلال المتنوع في العراق، لكن تبقى حساسية العراقيين مع قوة الاحتلال العسكري مسألة في غاية الأهمية، والشارع العراقي في حين انه لا يدرك المخاوف الحقيقية لتدخلات الدول المجاورة ولكنه يمنح بقاء القوات الامريكية أهمية قصوى رغم منافعه لصالح العراق لحماية مصالحه الاستراتيجية، وهو ليس بخاطيء لأنه لم يلتمس فوائد الاحتلال الامريكي على حاضره ومستقبله على أرض الواقع بصورة مباشرة، رغم تحول الاحتلال الى تعاون أمني وعسكري بين بغداد وواشنطن وفق اتفاقية مصدقة من الحكومة ومن مجلس النواب.
وقادة العراق لا يجرؤن على الجهار بأهمية بقاء القوات الامريكية رغم إدراكهم بانهم بامس الحاجة الى هذا البقاء في ظل التغييرات الدراماتيكية للأزمات الإقليمية والدولية مع وصول شرارة الاحتجاجات الشعبية الى مشارف حدود ايران، وتخوف القيادة الدينية في طهران من وصول امتداد الثورات اليها تجعلها ان تعمل بكل جهد لمنع وصولها اليها من خلال تأزيم الوضع في العراق بعد ان بدت على مشارف فقدان حليفها الاستراتيجي سوريا التي بدأت تترنح تحت صيحات ثورة الاحتجاجات في مدن كثيرة في بلاد الشام.
والمؤسف ان روسيا والصين تلعبان دورا سيئا تجاه الشعوب المتطلعة الى الحرية وتقفان دائما ضد الطموح الشرعية للمجتمعات التي ترضخ تحت حكم الانظمة المستبدة، وتعملان على حماية الانظمة الدكتاتورية والبقاء عليها خاصة في عهد النظام البائد، لهذا لا يبقى مجال تعامل العراق الا مع الولايات المتحدة والدول الاوربية للاستفادة من هذه الدول مع مراعاة المصالح المشتركة، وما يربط بغداد بواشنطن هو أكثر حجما ومساحة مع ما يربطه مع دول أخرى، لهذا نجد ان توثيق العلاقات بين العراق والولايات المتحدة يعتبر من الحاجات الملحة للحفاظ على المصالح العليا للبلاد مع الحفاظ على السيادة الوطنية.
لهذا نجد ان الوضع العراقي في ظل التطورات الراهنة بحاجة الى تفكير جدي وحرص شديد لابعاد البلاد من شبح الازمات الامنية والسياسية والاقتصادية التي ستختلقها الدول المجاورة للعراق خاصة ايران في المستقبل القريب، ولابد ان يكون الاهتمام بحماية المصالح العليا للبلاد من أهم الاولويات الحالية للقادة العراقيين للوصول الى قرار سليم، ولا شك ان مسألة بقاء القوات الامريكية احد الامور المرتبطة بهذه المصالح والاقرار ببقائها ليس من السهولة اتخاذ القرار بشأنها، ولكن يبقى أمر تحمل المسؤولية التاريخية في هذا الظرف مسالة في غاية الأهمية لكل قيادي سياسي عراقي لاخراج البلاد من الازمات الراهنة، لذا نأمل ان تكون القيادة العراقية بمستوى هذه المسؤولية.
التعليقات