في اكثر من مقال او بحث او حوار تطرقنا الى واحدة من ابرز تعقيدات الموروث الاجتماعي والسلوك السلبي المتراكم بالخوف والعادات البالية، التي أنتجتها حقب من القهر والرعب والاستلاب والحاجة والفاقة والعوز، تلك هي الاستكانة وثقافة القطيع ابتداء من القرية والقبيلة وانتهاء بالوالي والسلطان والملك والأمير والرئيس والقائد الضرورة وحروب قاهرة لا أول لها ولا آخر، وفي جميعها لا علاقة لها البتة بالمواطن العادي الذي يشغل 99% من السكان المغلوبين على أمرهم والمنقادين دوما خلف القائد والمنقذ وقبله الشيخ والأغا وإمام المسجد والباشا والبيك وغيرهم من ولاة الأمور عبر الأزمان والعصور الذين لا يناقشون ولا يعارضون وإن اختلفت معهم فأنت كما يقولون حتى يومنا هذا جزء من مؤامرة وعميل او كافر وملحد، حتى تكلست الاستكانة والعبودية وغدت منهجا مدغما في سلوكيات الأفراد لتنتج أقبح الصفات في التدليس والنفاق والمديح الكاذب ومن ثم إنتاج الدكتاتوريات الصغيرة والكبيرة؟

لم تثبت الأحداث او حقب التاريخ او علوم الحياة والوراثة، ان الدكتاتور من رحم امه يحمل تلك الصفات، ولا احد يستطيع ان يجزم ان فلانا من هؤلاء الطغاة ولد هكذا، بل قل ان الظروف شاءت ان تسهل اموره في بيئة ساعدت على صناعة شخصيته الدكتاتورية من خلال مجاميع من هؤلاء الذين مازالوا يهتفون بالروح بالدم نفديك يا قائد والذين ما نزال نسمعهم ونشاهدهم في زنقات طرابلس وحارات دمشق وساحات صنعاء، ولقد شهدنا وما زلنا آليات وكيفيات وأساليب تحويل او تصنيع هذه النماذج الرئاسية التي تسلقت الى سلم السلطة في كنف الليل بانقلاباتها المعروفة واحتضنتها هذه الموروثات الاجتماعية والسلوكية وصورها في البطانات التي حولها ومقربيها التي لا شغل لها غير تقديم آيات التبجيل والتصفيق قعودا وقياما والمديح حد الإسفاف والتبجح في الوصف والتوصيف!؟

ويقينا لا احد يولد وهو دكتاتور بل الأشخاص هم من يصنعونه بالتبجيل والتصفيق والمديح المستمر، وتستوقفني هنا واحدة من أروع مواقف مقاومة تلك العملية التي مارسها الرئيس مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان بعيد انتخابه رئيسا لولاية ثانية، ففي أثناء زيارته الى جامعة دهوك رفض تسلم شهادة دكتوراه فخرية قدمت اليه من قبل الجامعة احتراما للعرف الأكاديمي ومنعا لإشاعة مثل هذا السلوك، والأروع من ذلك تعامله مع اقتراح ان يكون يوم زيارته للجامعة يوم عيد جامعي يحتفل به سنويا حيث قال زاجرا:

( أحد الأمور القبيحة.. بل أكثر الأشياء قباحةً.. هنالك بعض الأشياء تَعّودنا أن نُقّلِد بها الآخرين... يوم جاء صدام الى المكان الفلاني.. فيحتفلوا به كُل سنة.. بالنسبة الى يوم الجامعة.. إختاروا مثلاً يوم تأسيس الجامعة.جئتُ الى دهوك.. ماذا يعني؟ لم تخرب الدُنيا.. هذا واجبي.. أحبُ ان يُحترم المناضلون وأن يُقّدَرون... ولكن ليس بهذهِ الطريقة.. هذا ليس في قاموسنا... هذا التمجيد المُبالَغ بهِ... حتى انه مُمكن ان يُؤثر على اي بشر.. ويدفعه ربما الى إرتكاب الأخطاء... يؤدي الى صناعة دكتاتور... كفوا عن صناعة دكتاتور ).

كفوا عن صناعة دكتاتور!؟

حقا انها صرخة اطلقها البارزاني بوجه تلك الثقافة البائسة التي انتجتها سنوات القهر والخوف والاستعباد، ليست ضد تلك الثقافة سياسيا بل حتى اجتماعيا وعلى مختلف درجات الهيكل الإداري للدولة، لنكف فعلا عن صناعة دكتاتوريات وشخصيات مشوهة كان بالإمكان ان تكون غير ذلك تماما في أجواء صحية لا تسمح بتمادي او انحراف أي منها في ظل دولة القانون والمؤسسات وحقوق الإنسان وعلى مختلف الصعد والمستويات.

كنت أتمنى دوما أن يكون رد أي رئيس او وزير او مدير او مسؤول بهذا الشكل الأخلاقي السامي على اولئك المتملقين الذين يهدمون بتدليسهم ومديحهم أي بادرة خير او نبتة إصلاح عند المسؤول من أجل أن ندرأ عن بلادنا خطر ظهور دكتاتور آخر يدمر ما تبقى من بلادنا، وليس بالضرورة ان يكون شخصا واحدا او رئيسا بل كل الأشخاص وفي كل مستويات الإدارة والمسؤولية الاجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية.


[email protected]