من يراهن على إصلاحات بعثية سورية تُحقق طموح الشارع السوري واحدٌ من اثنين، إما حسَن النية لحد السذاجة أو البلادة، أو منافقٌ يحاول التدليس والترويج لمعجزة ٍغير قابلة للوجود. فالخير لا يأتي إلا من خيِّر، والشرير لا يفعل غير شر.
فالحلم بإصلاحات يحققها بشار الأسد وحرسُه القديم والجديد يكون مشروعا لو كان بشار مخلصا، فعلا، في السعي من أجل إقامة دولة قانون ومؤسسات مدنية وقضاء مستقل ومجتمع عدالة وكفاية وسلام. لكنه منذ وفاة والده، قبل أحد عشر عاما، وهو يحكم سوريا بأداوت الوالد نفسها، وبعنجهية حزب البعث وقسوته وهمجيته ذاتها. وحتى لو حاول أن يتمرد قليلا ويعمل َعمل َخير واحدا فلن يستطيع. لأن من حولِه ومن أمامِه إرثَ الوالد العزيز الذي لا يستطيب العيش إلا في بيئة البعث العصية على التغيير والتطور والانفتاح.
مناسبة هذا الكلام الوعد الذي قطعته حكومة بشار الأسد الجديدة على نفسها بإلغاء قانون الطواريء وحل محكمة أمن الدولة العليا.
وقناعتي أن البعثي، بطبعه، لا يحتاج إلى قانون طواريء، لأنه هو نفسُه طواريء، من نوع خاص.
فحزب البعث لم يتغير. هو هو، من يوم ولادته في سوريا وإلى اليوم، حزب العنف العربي الأول والمتميز في فنون القتل والاغتيال والانقلاب العسكري والتصفية لقادته الكبار وأعضائه الصغار وخصومه، على حد سواء.
إن الأنظمة الديكتاتورية العربية الأخرى كلها تحكم بالحديد والنار، لكنها تستر قبحها ببعض الرحمة والديمقراطية، على مضض، إلا حكم البعث، عراقيا وسوريا معا، فهو يفاخر ويجاهر بأنه نظام الحزب الواحد الأحد، ودولة الخنجر والسوط والعصا، ويسخر من ضعف رفاقه الحكام العرب الآخرين ونفاقهم وخوفهم من غضب الجماهير.
فتاريخيا ثبت أن حزب البعث، بخلاف أغلب الأحزاب العربية الأخرى، قد اتخذ من القسوة والخشونة أسوبا وحيدا للعمل السياسي للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، بدل السلوك الديمقراطي الحضاري الذي يعتمد على قوة الفكر والعقيدة وسيلة للإقناع، ويستهجن النصب والاحتيال، ويرفض لغة الخنجر والساطور.
وباستعراض أسماء الذين تسلقوا سلم الدرجات الحزبية القيادية، منذ أوخر الأربعينيات وإلى اليوم، وبلغوا مواقع متقدمة فيها بسرعة غير اعتيادية، يتبين أن مواهبهم في الشتم والضرب بالعصي والسكاكين وبالشاي المسموم كانت هي جواز مرورهم السريع نحو درجات حزبية أعلى.
وقد أصبح عرفا سائدا في الحزب أن البعثي الجدير بالثقة والتكريم من قبل قادته ومسؤوليه الحزبيين هو الصِدامي الجريء الصلب العنيف. وهي صفات رجولة في نظر الرفاق.
ولا يُقرُّني على هذه القناعة سوى من كان بعثيا، في يوم من الأيام، ثم خرج غير نادم.
كان هذا ديدن الحزب في بداياته، في أواسط أربعينيات القرن الماضي، ثم زاد وضوحا وثباتا وتنوعت أساليبه وتضاعفت قوته بعد أن تمكن من انتزاع السلطة في العراق وسوريا عام 1963 بقوة السلاح. وظل يتفاقم سنة بعد سنة، ويوما بعد يوم، بالتصفيات الجسدية والانشقاقات والصراعات بين قادته وبين أجنحته المتنازعة.
في سوريا، مثلا، أقام حافظ أسد نظامه بالقهر والسحق والإرهاب. واختراعُه لفكرة سرايا الدفاع بقيادة شقيقه رفعت كان اختراعا شيطانيا دشنه بمحو مدينة حماة من الوجود، والسماح بإعادة بنائها بعد أن تلقن أهلُها الناجون من المحرقة درسا من دم ودخان وعويل.
من عام 1963 وحزب البعث السوري يحكم بقانون الطواريء الذي وعد النظام بإلغائه. وينص هذا القانون على ما يلي:
1- وضع قيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والإقامة والتنقل والمرور في أوقات معينة، وتوقيف المشتبه فيهم أو الخطرين على الأمن والنظام العام توقيفاً احتياطياً، والإجازة في تحري الأشخاص والأماكن في أي وقت، وتكليف أي شخص بتأدية أي عمل من الأعمال.
zwnj;2- مراقبة الرسائل والمخابرات أياً كان نوعها، ومراقبة الصحف، والنشرات، والمؤلفات، والرسوم والمطبوعات والإذاعات وجميع وسائل التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها وضبطها ومصادرتها وتعطيلها وإلغاء امتيازها وإغلاق أماكن طبعها.
zwnj;3- تحديد مواعيد فتح الأماكن العامة وإغلاقها.
zwnj;4- سحب إجازات الأسلحة والذخائر والمواد القابلة للانفجار والمفرقعات على اختلاف أنواعها، والأمر بتسليمها، وضبطها، وإغلاق مخازن الأسلحة.
zwnj;5- إخلاء بعض المناطق أو عزلها، وتنظيم وسائل النقل وحصر المواصلات وتحديدها بين المناطق المختلفة.
zwnj;6- الاستيلاء على أي منقول أو عقار، وفرض الحراسة المؤقتة على الشركات والمؤسسات، وتأجيل الديون والالتزامات المستحقة والتي تستحق على ما يجري الاستيلاء عليه.
وإذا ما صَدق النظام فألغى هذا القانون الذي مضى عليه نصف قرن فهل سيمتنع، كليا أو حتى جزئيا، عن وضع قيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والإقامة والتنقل والمرور في أوقات معينة، واعتقال من يراه خطرا عليه وعلى أمنه، وتحري الأشخاص والأماكن في أي وقت، وتكليف أي شخص بتأدية أي عمل من الأعمال، ومراقبة الرسائل والمخابرات أياً كان نوعها، ومراقبة الصحف، والنشرات، والمؤلفات، والرسوم والمطبوعات والإذاعات وجميع وسائل التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها وضبطها ومصادرتها وتعطيلها وإلغاء امتيازها وإغلاق أماكن طبعها، وتحديد مواعيد فتح الأماكن العامة وإغلاقها، وسحب إجازات الأسلحة والذخائر والمواد القابلة للانفجار والمفرقعات على اختلاف أنواعها، والأمر بتسليمها، وضبطها، وإغلاق مخازن الأسلحة، وإخلاء بعض المناطق أو عزلها، وتنظيم وسائل النقل وحصر المواصلات وتحديدها بين المناطق المختلفة، والاستيلاء على أي منقول أو عقار، وفرض الحراسة المؤقتة على الشركات والمؤسسات، وتأجيل الديون والالتزامات المستحقة بذريعة الحفاظ على شرف العروبة وحماية الأمن القومي؟؟
ماذا يؤمل من نظام ألقى القبض قبل شهور على مواطن سوري كتب مقالا عن حقوق الإنسان السوري، وحينما فشل القضاء البعثي (المستقل) في العثور على مستمسك قانوني واحد معقول يدينه به تفتحت قريحته عن تهمة مبتكرة حكم بها على ذلك المسكين بالسجن خمس سنوات، لأنه (أضعف الشعور القومي). ويومها كتبت بمناسبة ذلك الحكم مقالا بعنوان ( حكومة حيا سز).
وبشار الذي روجت مخابراتُ النظام السوري ووكلاؤها العرب المزروعون في لبنان والعراق ودول الخليج لكذبة ِكونه رجلَ علم وتقدم وحقوق وسلطة قانون لم يدرك إلى الآن، برغم انتفاضة مدن سوريا وقراها بأجمعها على ظلمه وظلم نظامه، أن أساليب المشاكسة مع الجماهير وأسلحة التهديد بالقتل والتدمير والسحق لم تعد نافعة ولا قادرة على الحسم في عصر الجماهير الجديد.
فهو لم يثبت أن الولد على سر أبيه، بل فاق والده في القسوة والخداع والمراوغة. ولئن خاض القذافي حربه التدميرية التقتيلية الغبية مع شعبه بـ (كتائب القذافي) صراحة وعلنا ودون مواربة، فبشار خاضها بفكرة شيطانية مبتكرة لا تصدر إلا عن بعثي أصيل. فقد أفرد شرائحَ مختارة بعناية من أفراد مخابراته وأجهزته القمعية تميزت بالولاء المطلق (علويا) و(قرداحيا)، ويعتقد بأن فيها متطوعين من حزب الله اللبناني، وأطلقها بقسوتها وهمجيتها لتقتل المتظاهرين، ثم زعم، إعلاميا، أنها عصابات سلفية مندسة بين المتظاهرين تقتل المدنيين ورجالَ الجيش والشرطة على حد سواء. وهو بهذا تميز عن رفيقيه معمر القذافي وعلي عبد الله صالح بكثير. فقد ذبح المئات من الذين تظاهروا، كما فعل رفيقاه، وأنذر من لم يتظاهر بعد، بنفس المصير، دون أن يغضب أصدقاءه في مجلس الأمن الدولي والحلف الأطلسي، ودون أن يحرج حليفيه الدائمين الروسي والصيني بشيء. فقد أعلن أن من يقتل المدنيين السوريين المتظاهرين عصاباتٌ سلفية متمردة تستحق القتل والذبح من قبل أجهزة الدولة، لحماية الدولة ومواطنيها. طبعا لم يَمسَّ أحدا من القتلة الحقيقيين بسوء، بل اعتقل، بدلا عنهم، متظاهرين مسالمين زاعما أنهم هم القتلة السلفيون المتمردون على الدولة وأهلها وحكومتها الرشيدة العادلة.
وبسهولة وبسرعة انطلت هذه الفرية المضحكة المبكية على العالم الخارجي الغربي الأمريكي الإسرائيلي الراغب في تصديق الأسد، والمتطلع إلى بقائه في السلطة، لضمان حماية أمن إسرائيل، وخوفا من بديل ٍقادم ٍ يقال إنه قد يكون إسلاميا سلفيا، أو ديمقراطيا وطنيا متشددا غير مضمون الولاء. فأمريكا أعلنت أنها لن تُقوض نظام الحكم في سوريا، وبريطانيا رحبت بإصلاحاته، وفرنسا بلعت صوتها، وإسرائيل أعلنت خوفها من البديل السفلي المتشدد في سوريا. وبين هذا وذاك كانت إيران هي الأكثر خوفا على حليفها المدلل الأثير، والأشد غضبا على المتظاهرين السوريين المخربين الذين وصفت تظاهراتهم بالفعل المشين. فهل بعد هذا كله يمكن أن نجد في الدنيا بأسرها من ينكر أننا نعيش في عالم بدون أخلاق ولا شرف ولا ضمير؟
- آخر تحديث :
التعليقات