بمظهر الواثق من نفسه، وقف فضاح خنفر المدير الفلسطيني لقناة الجزيرة الفضائية، وسط جمهور امريكي كبير في منتدى عقد بكاليفورنيا ايام قليلة بعد تنحي مبارك، ليتحدث بانكليزية ذات لكنة عربية عن اعظم التحولات التي تشهدها المنطقة، وعن كيفية صناعة التاريخ في هذا اللحظة، وعن مايجب ان يفعله ولايفعله الغرب تجاه مايميل الكثير منا الى تسميته تبسيطا بـ quot;الثورة العربيةquot;. تلقت كلمة خنفر تصفيقا وترحيبا كبيرين من الحضور، ولايخطئ المراقب في ادراك ان تلك اللحظة كانت الى حد كبير quot;لحظة الجزيرةquot;. هذه القناة فرضت شروطا جديدة على صناعة الاعلام في المنطقة، بل وفي العالم، وبرزت كمصدر لاعادة توزيع السلطة الاعلامية وتأمين قدر كبيرا من الهيمنة على صناعة الحقيقة حول الشرق الاوسط.
عندما قالت كلينتون ان الجزيرة (وهي تقصد النسخة الانكليزية تحديدا ) تفوقت على الاعلام الامريكي في مواكبة تطورات المنطقة، كان ذلك اقرار بقبول الجزيرة، ومن ورائها دولة قطر، عضوا في نادي اصحاب القرار. فعبر الجزيرة تمكنت قطر الصغيرة من تحقيق quot;هيمنة ثقافيةquot; من خلال صناعة الوعي عوضت الى حد كبير افتقارها للهيمنة القمعية. قوة القمع تسمح لك بان تجبر الاخرين على ان لا يقولوا علنا ما يقولونه سرا، اما الهيمنة الثقافية فتجعلك قادرا على تشكيل قناعات الناس بحيث يقولون علنا مايقولونه سرا.
الجزيرة فرضت سطوتها حينما نجحت بان تخلق اعتقادا واسعا بين الجمهور العربي بانها صوت لهم، فجعلت هذا الجمهور يتماهى معها ويصدق انها صوته، ربما الوحيد. لذلك كتب مارك لينج قبل سنوات محتفيا بظهور المحطة كصوت للرأي العام العربي، ودرس النموذج العراقي حيث نجحت تغطية الجزيرة بجذب تعاطف الجمهور العربي نحو محنة الشعب العراقي في ظل الحصار، بينما فشلت quot;المعارضة العراقيةquot; في ان تستغل منبر الجزيرة لكسب هذا الجمهور لقضيتها (واليوم وبعد ان تحولت هذه المعارضة الى quot;سلطةquot;، يبدو فشلها تعبيرا عن عجزها على فهم ادوات التواصل مع محيطها ومع العالم وربما مع شعبها).
من بين من كان يدرس او يبحث في علم الاتصال السياسي في جامعة ليدز، كنت اقف وحيدا بمواجهة زملائي وبعض من الاساتذة، محذرا من تضخيم ظاهرة الجزيرة ومن السلطة الهائلة التي ستتراكم في رصيدها وتحولها تدريجيا الى أداة هيمنة. اليسار الاوربي كان مفتونا بتجربة الجزيرة ويقاوم النظر باهتمام في مفارقات جمعها بين الخطاب المعادي للسياسة الامريكية، وقربها الجغرافي من واحدة من اكبر القواعد الامريكية في المنطقة، دعمها للديمقراطية في مكان معين، وسكوتها عنها في مكان اخر، ميلها الديمقراطي الليبرالي تجاه بعض القضايا، وحسها quot;الاخوانيquot; المحافظ تجاه قضايا اخرى.
في كتابه المهم عن تغطية الميديا الامريكية لحرب فيتنام، قدم دانييل هالين نظرية مهمة في مجال تحليل التغطية الاعلامية للحدث السياسي حيث ان الميديا تقوم بخلق تمييز بين quot;مجال النقاش المشروعquot; و quot;مجال الانحراف (او اللامشروع) quot;، وهي في تغطيتها وفي تعبيراتها وفي برامجها الحوارية تحصر حدود النقاش في حيز معين بحيث يبدو وكأن مايطرح في هذا الحيز يمثل كل مايمكن طرحه، وفي الحقيقة انها تهمش طروحات اخرى واضعة اياها في مجال اللامشروع.
هذه الفكرة شبيهة بمفهوم الشباك (ترجمة غير حرفية لـ (Frameوالذي يعد تحليله اليوم احد الوسائل العلمية لكشف طبيعة تحيزات الوسيلة الاعلامية. الميديا لاتقوم بنقل الحقيقة quot;كما هي الحكمة السائدةquot; ولاتشتغل كـ quot;مرآة للحقيقةquot; بقدر ماتعمل كـ quot;شباكquot; ترى من خلاله الاشياء التي تستطيع رؤيتها محاولة تصويرها على انها quot;كل شئquot;. لينتمان عرف الشباك بوصفه quot;عملية اختيار نواح معينة من الواقع القابل للادراك وجعل هذه النواحي اكثر وضوحا في النص (او التقرير) الاعلامي، وبهذه الطريقة تستطيع تأكيد تفسير معين للمشكلة ولاسبابها ولتقويمها الاخلاقي وسبل معالجتها... انها عملية انتقاء وتسليط الضور على جزء من الواقع واخفاء جزء اخرquot;. الحقيقة في الميديا، كما يقول ريس، هي مورد نادر، وامتلاك سلطة تعريفها واظهارها لابد وان يؤدي الى امتلاك سلطة في الواقع السياسي والاجتماعي. لذلك يرى البعض اليوم انه مع الحدث المصري تحديدا، كانت الجزيرة صانعة له وليس فقط ناقلة له.
ولكن مع تحول الجزيرة الى سلطة اقليمية وعربية، واستثمار تلك السلطة سياسيا من الدولة الراعية والممولة لها، فانها اليوم في موقع التصرف كأي سلطة، مسعاها الاساسي الحفاظ على الوضع القائم دون تغيير راديكالي فيه، وبالتالي صناعة quot;حقيقةquot; ملائمة لذلك دون خسارة ميزتها الاولى. بالطبع القرار في ذلك ليس بيد مذيعي او محرري او معلقي القناة الذين ربما يمتلكون حماسا مخلصا لحركات التحرر والديمقراطية، وينتمون الى ايديولوجيات مختلفة بعضها مدني حداثي (عزمي بشارة مثلا)، وبعضها ديني (القرضاوي مثلا)، لكن القرار بيد صاحب المال الذي هو صاحب السلطة الفعلية.
المسألة ليست ببساطة القول ان الجزيرة لاتريد حصول ثورة في قطر، ففي تلك الامارة التي تعيش بحبوحة اقتصادية ومالية كبيرة لن تحدث ثورة، ولن يخرج الملايين الى الشوارع لانه لايوجد ملايين اصلا. الموضوع يتعلق بطبيعة النظام الاقليمي الذي تتحرك قطر فيه وحدود الحرية التي تمتلكها بالمناورة دون ان تدفع الاخرين الى رد كبير ودون ان تضر باوضاع هي في النهاية احد المستفيدين منها. فقطر التي ستنظم كأس العالم عام 2022 هي دولة تطمح لاغراء القوى والمصالح العالمية الكبرى وكسبها لا الدخول في حرب معها، ولذلك فان عليها ان تكبح النزوع المثالي لدى من يرفض سيطرة تلك القوى والمظالم الكثيرة التي انتجتها، وتوجهه بشكل لايضر ببنية النظام الاقليمي والمصالح التي سمحت لها بان تكون اليوم بكل هذه القوة، وهي لاتمتلك الكثير من مقومات القوة.
كانت الصفقة الكبرى هي في اطار النظام الاقليمي الخليجي، حيث حدود quot;النقاش المشروعquot; لاتتجاوز احتمال تغيير الانظمة في البلدان العربية غير الخليجية، اما عندما يتعلق الامر بالخليج بكل مايعنيه من نفط ومال ومصالح، فالشباك صغير والاطلالة التي يقدمها محدودة. |
نتيجة ذلك ربما ستكون خسارة الجزيرة بعض المساحات التي كانت قد ربحتها، كما خسرت من قبل الكثير من العراقيين عبر انحيازها لموقف واحد وتفسير واحد، وسلطتها الكبيرة لابد وان تشهد بعض التآكل لأن المهمشين الذين لايلقى صوتهم صدى في الجزيرة سيبحثون عن منبر اخر. فمع كل هيمنة ثقافية لابد ان تتشكل مقاومة، ومع كل سلطة لابد ان يتشكل نقيض. لايمكن لمن يعد العدة لتنظيم كأس العالم، ان يمثل صوت من يشقى عاما كاملا ليوفر لعائلته مايعادل سعر تذكرة مباراة واحدة في كأس العالم، وان حدث ذلك لبعض الوقت، فلأن المباراة الحقيقية ماكانت قد بدأت بعد. في تونس اطلق البو عزيزي الصفارة والكل يلعبون اليوم...
- آخر تحديث :
التعليقات