قبل أن يتوجه الرئيس بشار الأسد، إلى السوريين من شعب الغضب الأخير، بخطابٍ آخر، ربما السؤال الأبرز الذي سأله العالم مع الشارع السوري، بعد خطابه quot;رقم صفرquot; الذي كان من المفترض به أن يكون quot;خطاباً أوّلاًquot;، هو: لماذا لم يفهم الأسد الغضب السوري، وما يشتعل الآن من حوله؟
أما مفتاح هذا quot;اللافهمquot;، الذي ربما يقدّم بعض جوابٍ، لبعض ما لم يفهمه الأسد لquot;سوريا الآنquot;، التي يريد أهلها منذ 15 آذار مارس الماضي، فكّها من أسر quot;الأسدينquot;(الأسد الماضي والأسد الحاضر)، الذَين يلازماها منذ أكثر من أربعين عاماً، فيمكن قراءته في خطابه الأخير ذاته، الذي كان من المتوقع أن يكون خطاباً مفهوماً، يمشي على الأرض إلى quot;حرية سوريةquot; مفهومة، أكثر من أن يطير في فضاء المفاهيم quot;الطائرةquot; ولّي أعناقها، كعادة الرئيس في اللف والدوران حولها، أو quot;التفلسفquot; فيها.
الجملة المفتاح، التي اختزل فيها الأسد، قليلاً أو كثيراً من quot;لافهمهquot; لما حدث في سوريا، منذ حوالي أربعة أسابيع، ولا يزال، هي قوله: quot;لم نفهم في البداية ما كان يحدث حتى بدأ التخريب، حتى أنه في بعض الفضائيات أعلنوا عن تخريب أماكن قبل تخريبها بساعة كاملة فكيف حدث؟quot;
إذن، الأسد quot;لم يفهمquot; حسب قوله، quot;ما كان يحدث حتى بدأ التخريبquot;. فquot;التخريبquot;، لا غيره، هو الذي أفهم الرئيس ما يحدث.
فهو، رغم إصراره على أنه quot;يفهمquot; الإصلاح، وضرورة الإصلاح، ولماذا الإصلاح، لكنه quot;لم يفهمquot; ما حدث ويحدث الآن في سوريا، إلا في كونه quot;تخريباًquot; وquot;مؤمراةً تستهدف سوريا الممانعة وسياساتها المقاوِمةquot;.
والحال، فإنّ الأساس النظري الذي ارتكن إليه quot;لافهمquot; الأسد لquot;سوريا الشعبquot; الآن، هو quot;نظرية المؤامرةquot; الصالحة لتبرير كلّ سياسات النظام السوري، الماشية على الداخل السوري، كخارجه، منذ أكثر من أربعة عقودٍ من الزمان الديكتاتوري.
الأسد، فهم كل ما حدث ويحدث وسيحدث، على أنه quot;مؤمراة خارجيةquot; فحسب.
هو، فهم تصفيق quot;مجلس الشعبquot; الحار، الذي هتف بإسمه قائلاً: quot;الله..سوريا..بشار وبسquot;، إلا أنه لم يفهم الشعب السوري الذي اختار الآن الشارع مجلساً متحركاً ومتغيّراً له، ويهتف في وجهه ووجه مجلسه بالشعار الضد quot;الله..سوريا..حرية وبسquot;.
هو، فهم شطحة quot;مجلس المختارينquot; الذي هتف بأنه quot;يستحق أن يكون رئيساً للعالم، لأن الوطن العربي عليه قليلquot;، لكنه لم يفهم الشعب السوري، الذي يرفع صوته الآن ضد ديكتاتوريته، المنتهية صلاحيتها، والتي ليس لها إلا أن تترك سوريا لحريتها.
هو، فهم quot;تصحيحquot; والده الذي عاث أكثر من أربعين عاماً، في أرض سوريا، فساداً وخراباً، لكنه لم يفهم مطلب الشعب السوري الجديد، في تصحيحٍ حقيقي جديد، لنقل البلاد من الديكتاتورية الأسدية إلى الحرية والديمقراطية.
هو، فهم كيف يحارب شعبه بالتي هي quot;أسوأquot;، ويمارس عليه أشنع صنوف القتل المجاني في الشوراع، لكنه لم يفهم أنّ للقتل في تاريخ الإنسان الجديد، فاتورة باهظة، سيطالبه التاريخ في القادم من سوريا، بدفعها، عاجلاً أو آجلاً، كما دفع كثيرون من قبله، الفاتورة ذاتها.
هو، فهم إسرائيل quot;العدوّة التاريخيةquot; التي quot;تتآمرquot; عليه، مثلما كانت تفعل مع والده، ولكنه لم يفهم لماذا quot;صلّتquot; إسرائيل للرّب بأن يحفظ النظام السوري، ورئيسه، الذي سمي في إعلام quot;العدو الصهيونيquot;، بquot;ملك إسرائيلquot;(صحيفة هاآرتس: 30 مارس 2011).
هو، فهم إشارة إيران وجيبهما المسلح حزب الله في قمع أية حركة شعبية احتجاجية، لكنه لم يفهم إشارات المجتمع الدولي، الذي دعاه إلى الكف عن quot;الإستخدام المفرط للقوةquot; ضد المتظاهرين العزّل، وحذّره على مستوى أكثر من دولة عظمى، مثل أميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، من مغبة الإستمرار في قمع الشعب وحقه في التظاهر السلمي.
هو، فهم مجاملات أمير قطر(المحمي من التغوّل الإيراني المحتمل بقواعد أميركية) الأخيرة له وquot;دعمه الكامل لبلادهquot;، لكنه لم يفهم الغضب الأميركي الأخير له، وتحذير البعض من القائمين على مراكز قراره(مثل السيناتور الجمهوري جون ثيون)، بquot;سحب السفير الأميركي من دمشق على الفور، احتجاجاً على استخدام العنف ضد المتظاهرينquot;.
هو، فهم الصراع بين أقطاب عائلته الحاكمة، التي اتفقت على الديكتاتورية طريقاً quot;أبدياًquot; إلى quot;سوريا اللاحل واللاإصلاحquot;، لكنه لم يفهم صراع سوريا الشعب، الآن مع quot;سوريا الأسدquot;، التي اتفق الشعب السوري، بكل مكوناته، ضدها، لأجل العبور إلى سوريا ديمقراطية حرة.
هو، فهم بأنّ لا بد من إسراع نظامه في رفع قانون الطوارئ ومشتقاته من القوانين الأخرى المؤجلة منذ عشرات السنين، إلا أنه لم يفهم أنّ استبدالها بقوانين أخرى، تحت مسميات أخرى، لن يغيّر من غضب السوريين بشيء، بل على العكس، سيزيدهم غضباً وإصراراً للمضي قدماً نحو سوريا حرّة، لأنّ الحرية لها قوانين تحفظها وتحميها، لا ترفضها وتعاديها.
هو، فهم بعض quot;وجهاء الشمالquot; المحسوبين على أجهزة نظامه، والمعروفين بولائهم الأعمى لكلّ رئيس يؤمّن لهم بعض مالٍ وبعض سلطة، لكنه لم يفهم quot;شعب الشمالquot;، لا سيما الأكراد منهم، الذين حفظوا حقوقهم، كquot;شعب الجنوبquot;، عن ظهر قلب، في سوريا واحدة موحدة: سوريا الحرية ضد سوريا الديكتاتورية.
هو، فهم بعد حوالي نصف قرنٍ من حجب المواطنة عن الأكراد السوريين، أنّه لا بدّ من quot;منحهمquot; الهوية العربية السورية، لكنه لم يفهم أنّ حقوق الأكراد في سوريا، كما يقول لسان حالهم، هي حقوق شعب، له خصوصيته التاريخية والثقافية والإجتماعية والسياسية، ولا يشكل حق أبناءه في التجنس بالمواطنة السورية، إلا جزءاً بسيطاً جداً جداً من مجموع حقوقهم المتمثلة في الحرية والمساواة والديمقراطية لعموم سوريا، من درعا إلى قامشلو، ومن اللاذقية إلى البوكمال.
هو، فهم كيف يضرب(ولايزال) الشعب بالشعب، لكنه لم يفهم أن الشعب السوري الآن واحد في واحد، ولا يقبل على نفسه أن يكون أكثر من واحد.
هو، فهم كيف يلعب على اللامسلم بالمسلم، وعلى هذا الأخير بثنائية quot;السني/ العلويquot;، لكنه لم يفهم أنّ سوريا الآن هي أكبر من كلّ دينٍ وإثنية، ولم يفهم بأنّ أولوية السوريين الآن، هي سوريا فوق الجميع، ومن الجميع إلى الجميع.
هو، فهم نفسه في quot;سوريا الأسدquot; ديكتاتوراً واحداً، لا قبل قبله ولا بعد بعده، لكنه لم يفهم الشعب السوري الكثير، الذي يكثره الآن في كلّ شيء، إلا في ظلم واستبداد وبطش وطيش ديكتاتوريته.
هو، فهم كيف يستعبد الشعب السوري ويقتل حرية أفراده، quot;زنقة زنقةquot;، لكنه لم يفهم أن quot;آدم لم يلد عبداً ولا امة ان الناس كلهم احرارquot;، كما قال الإمام علي، يوماً.
هو، فهم لماذا عيّنه والده quot;رئيساً خليفةًquot; من بعده، مصارعاً quot;سوريا الحقquot;، على رؤوس الأشهاد، لكنه لم يفهم ما قاله الإمام علي، في الحق وأعدائه: quot;من صارع الحق صرعهquot;.
الأسد، فهم الواحد رقماً يساوي الديكتاتور فحسب، لكنه لم يفهمه، كفردٍ يساوي الإنسان: كثيرٌ في واحد، وواحدٌ في كثير.
فهل سيفهم الأسد، في القادم من سوريا، أنّ الشعب السوري لم يفهمه فحسب، بل حفظه عن ظهر قلب أيضاً؟
التعليقات