إيران: ثورة تصادر و اخرى تولد من جديد

التطرف الديني وفق رؤية مؤدلجة
مرت المنطقة و العالم بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية وخلال 60 عاما تقريبا، بالعديد من المتغيرات و المتعرجات المتباينة، فقد تأسست دولة اسرائيل على الارض الفلسطينية و تبعتها سلسلة حروب و مواجهات و شهدت المنطقة العربية صعود و أفول التيار القومي متمثلا بأنظمة عربية راديکالية اتسمت بطابع شمولي رغم أنها سعت لکي تتوشح بدثارquot;عدم الانحيازquot;الفضفاض التي برزت هي الاخرى في اواسط الخمسينيات من القرن العشرين ثم أنزوت شيئا فشيئا حتى لم تعد لها ذلك الوزن و الحضور السابق، و کذلك حروب مهمة کالحرب في فيتنام و الحرب بين الکوريتين و الحرب بين باکستان و الهند والحرب في أفغانستان و العراق، کل ذلك و امور و متغيرات و احداث مهمة عديدة أخرى، ترکت تأثير کبير على الخارطتين السياسية و الاقتصادية في العالم مثلما عکست تأثيراتها المفرطة على الجانبين الاجتماعي و الفکري، وبحکم التأثير الکبير للنظام الدولي السائد في العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية و إنقسام العالم الى معسکرين مختلفين، فإن التنافس و التجاذب و المناورة بين المعسکرين، حدد کثيرا من شکل و مضمون التحرکات الاقليمية و الدولية و جعلتها تصطبغ بسياقات معينة لم يکن من الهين أبدا أن تخرج عنها، ومن هنا، فإن منطقة الشرق الاوسط التي کانت وبعد سقوط الدولة العثمانية تشهد صراعا و تکالبا استعماريا فريدا من نوعه، کانت محکومة بظلال هيمنة نفوذ قوي لدول غربية رأسمالية من جهة و نفوذ الاتحاد السوفياتي السابق، من جهة ثانية، لکنها في نفس الوقت کانت تعيش واقعا مأساويا متخلفا من معظم النواحي وکان هنالك عملية خلط و لفلفة مابين مصطلحات الحرية و الديمقراطية و الثورة و الاشتراکية و حقوق الانسان، حتى ان الامر وصل الى حد الالتباس و سوء الفهم و الرؤيا لحقيقة و واقع هذه المصطلحات الانسانية المهمة و الحساسة، وقد کان إنعکاس ذلك واضحا في الطروحات و التنظيرات الفکرية السياسية لمختلف الاحزاب و الحرکات و التجمعات السياسية في المنطقة، لکن، وکما أن لکل مقطع او مرحلة من التأريخ سننها و قوانينها الخاصة المحکومة بظروفها الذاتية و الموضوعية، فإن ثمة أحداث تأريخية بالغة الحساسية و الخطورة بإمکانها أن تؤثر على العديد من تلك السنن و القوانين و تحدث شرخا او خللا فيها بحيث تمهد لسنن و قوانين جديدة تؤسس للإنتقال لمرحلة تأريخية أخرى، ويمکن النظر الى حدثين تأريخيين في المنطقة کمنعطف حساس جدا بالسياق الذي أشرنا له، حيث أنهما أحدثا تحولا استثنائيا ليس على صعيد المنطقة وانما حتى ترك ذلك التحول تأثيرا على الصعيد الدولي أيضا، والحدثين هما:
1ـ الاحتلال السوفياتي لأفغانستان.
2ـ الثورة الايرانية و صعود التيار الديني.

ونحن نقدم الحدث الاول على الثاني رغم أن للثاني الاسبقية التأريخية، لأننا نعتقد بالدور التمهيدي الاستثنائي الذي قام به لکي يؤدي الحدث الثاني دوره ضمن السياق السياسي الفکري المرتبط به و الذي سنأتي عليه لاحقا.

لقد کان للاحتلال السوفيتي لأفغانستان و ماخلفه من آثار کبيرة على هذا البلد الفقير بشکل خاص، و دول المنطقة بشکل عام، بمثابة ناقوس خطر طفق يقرع و يؤذن للدخول في مرحلة من اللااستقرار و عدم الوضوح و الضبابية، سيما وان الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي و الولايات المتحدة الامريکية کانت تمر هي الاخرى بمنعطف حساس حيث کانت الاخيرة تجد في الخطأ الاستراتيجي الذي أرتکبه السوفيات بغزوهم لأفغانستان فرصة مواتية للإنتقام و النيل منهم على دورهم الکبير في إلحاق الهزيمة بهم في فيتنام، ولقد توسلت واشنطن بمختلف الطرق و الوسائل لإلحاق أشنع هزيمة بخصمهم اللدود، وقد کان لتحريك ورقة الدين و اللعب بها ضد الاتحاد السوفياتي واحدة من أهم الوسائلquot;النوعيةquot;التي استخدمتها الاستخبارات الامريکية المرکزية ضد الجيش السوفياتي حيث بدأت من خلال وجوه معينة جندتها من أجل هذا الغرض، بالدعوة لقضية الجهاد ضدquot;الملحدين الروس الکفرةquot;، وطفق الشباب المسلم من مختلف البلدان العربية و الاسلامية يتهافتون على أفغانستان ليؤدوا فرض الجهاد ضد المحتل السوفياتي، وفي الوقت الذي کان الامريکان يطربون جذلين للنتائج الکبيرة التي تم تحقيقها على الارض ضد الجيش السوفياتي، لکنهم في نفس الوقت لم يکن يدرکوا حينها بأنهم يوقظون ماردا کان من الافضل لهم أن يدعوه و شأنه، غير ان سباق الامريکان مع الزمن للنيل من عدوهم التقليدي، جعلهم يهتمون بظاهر المسألة وليست بباطنها، لقد ظنوا بأن حماس الشباب العربي المسلم، سوف يخفت و يتلاشى مع إنتهاء العامل الذي تحرکوا من أجله، لکن الذي حدث کان العکس تماما، خصوصا عندما إقترنت حملات تجنيد و إعداد الشباب العربي المسلم لجهاد ضدquot;الروس الکفرةquot;، بصعود تيار ديني و إمتطائه لصهوة جواد الثورة الايرانية، مما وفر أفضل الاجواء و أکثرها ملائمة لنشوء و بروز تيارات دينية متطرفة توظف العامل الديني من أجل مآرب و مرام سياسية محضة، ذلك أن خروج المحتل الکافر من أفغانستان دفع المجاهدين العرب المسلمين للإلتفات صوبquot;الحاکم العربي الکافرquot;بحکم و شرع الله و بدأ اسلام جديد و غريب يقرع ابواب المنطقة، اسلام يکفر الانظمة و الشعوب و يحدد خطا فاصلا مابين اسلام حقيقي و اسلام مزيف او غير حقيقي. والحقيقة أن موجة الاسلام المتشدد المطعم بنمط مميز من التطرف و الجنوح الى القسوة و العنف المفرط، ساعد الغزو السوفياتي لأفغانستان و ماأعقبه من تصدي أمريکي غير مباشر له عبر الورقة الدينية، على ترسخه رويدا رويدا في المنطقة بشکل خاص و على الصعيد الدولي بشکل عام بحيث أصبح ظاهرة تکاد أن تفرض نفسها کأمر واقع، لکن، ولئن کان الاسلام الراديکالي المعد في أقبية و مختبرات المخابرات الامريکيـة المرکزية، مصنع أساسا لمواجهة السوفيات في أفغانستان، لکن إندلاع الثورة الايرانية في نفس عام الغزوquot;1979quot;، وماأعقبه من صعود لتيار ديني متزمت في طهران،جاء متوافقا و منسجما مع هذا المسعى الامريکي و تلاقفه بذکاء و تمکن من إعادة صياغته و برمجته و توجيهه خارج السياق و الغاية الامريکية. ولم تکن صدفة أبدا بروز تيارات اسلامية متطرفة في مصر و تونس و الجزائر و المغرب و لبنان و العراق و بعض من دول الخليج، وقد قام التيار الديني ومن خلال جهاز الحرس الثوريquot;الذي هو في الاساس اليد العقائدية الضاربة للنظام الديني في طهرانquot;، بالاتصال و التنسيق مع معظم تلك الحرکات و التيارات الدينية المتطرفة عبر قسم خاص سمي بقسم حرکات التحرر في الحرس الثوري الايراني.

ان سقوط نظام الشاه، و إنسحاب الجيش السوفياتي من أفغانستان و سقوط و تلاشي الکتلة الشيوعية، ساعد النظام الديني الراديکالي الايراني على إعداد خطاب مؤدلج على سياقين:
السياق الاول: موجه للمسلمينquot;السنةquot;، حيث ترکز خلاله على خطاب ديني عام يؤکد على الاسلام کمنهجا و طريقا وحيدا للحل وفي ضوء ذلك يؤکد على عدم شرعية الانظمة و معظم التيارات السياسية الفکرية القائمة في تلك الدول(وهو أمر ترافق معه صعود مد متطرف تزامن مع تفجيرات لبنان ضد المارينز و کذلك أخذ الرهائن و قتل و إغتيال المعارضين من دول مختلفة و العمليات الإرهابية في الکويت و السعودية و في الارجنتين و دول أخرى)، وقد سعى النظام لنشر و توزيع مختلف الکتب و المطبوعات التي تتفق و نهجه الفکري هذا بل وحتى أنه کان يقوم بتوزيع هکذا کتب مجانا من خلال تنظيمات و خلايا و أحزاب و هيئات مرتبطة به بشکل او بآخر وفي العديد من الدول و المناطق ومعظم هذه الکتب و المطبوعات کانت تدعو و تحث بطريقة او بأخرى للتطرف الديني.

السياق الثاني: موجه للمسلمينquot;الشيعةquot;بوجه خاص جدا من حيث توحيد صفوفهم و إعادة أدلجة النصوص المذهبية بما يتوافق مع أطروحة ولاية الفقيه وکل ذلك من أجل جعل الورقة الشيعية عامل ضغط و نفوذ للنظام بوجه المنطقة و العالم.

لکن، عمل النظام المتشدد أيضا و بصورة منفصلة من أجل تهديد الامن الاجتماعي لدول المنطقة من خلال سعيه للتبشير للمذهب الشيعي و دفع المسلمين السنة للتشيع من خلال ماأسماهquot;الاستبصارquot;، وقد کان واضح سعي النظام الديني بهذا الخصوص في دول مثل السودان و مصر و تونس وحتى المغرب، وقد أثار هذا السعي الکثير من الامتعاض و ردود الفعل السلبية تجاه النظام الايراني مما دفعه الى أخذ الحيطة و الحذر و تنفيذ خططه بهذا الخصوص بمنتهى الدقة و الحذر. وعمل النظام الايراني أيضا ومن أجل تمرير خطابه الديني المؤدلج للطائفتين السنية و الشيعية، على التأکيد على ماسمي وقته وفي بداية العقد الثامن من الالفية الماضيةquot;الصحوة الاسلاميةquot;، لکنه حرص کثيرا على إرجاع خيوط کل المسائل و القضايا المتعلقة بالاسلام و المسلمين إليه، إذ کان يعمل حثيثا من أجل طرح نفسه کمرجعية فکرية سياسية للأمة الاسلامية جمعاء، ولم يکن من العسير معرفة نواياه و مقاصده الخاصة بسحب البساط من تحت قدمي المملکة العربية السعوديةquot;بما تمثله من ثقل لدى الامة الاسلامية من خلال کونها مهبط الوحي و فيها الکعبة المشرفة و قبر النبي الاکرمquot; ومن تحت قدمي الازهر الشريف في مصر عندما بدأ هذا النظام ينعت الاسلام المتبع في السعودية و مصر بأنهما اسلام امريکي وانهquot;أي النظام الايرانيquot;، يمثلquot;الاسلام المحدي الاصيلquot;! ولم يقف النظام الديني عند هذا الحد، وانما تجاوزه الى ماهو أبعد و أکثر خطورة و عمقا عندما بدأ يترجم مواقفه و طروحاته الفکرية من خلال ممارسات و نشاطات سياسية غريبة و طارئة على الاسلام و العالم الاسلامي، کما کان الحال مع ما کان يسميه عملية الحجquot;العبادية السياسيةquot;، عندما کان يقوم بإرسال المئات من الحجاج الايرانيين المعبئين بأفکار و توجهات فکرية عقائدية محددة من أجل إحراج السلطات السعودية و دفع الامور في هذه الشعيرة الاسلامية بإتجاه آخر مختلف تماما لما تتطلبه وفق الموازين الشرعية و الفقهية الاسلامية، وفي غمرة الهجمة الاسرائيلية على لبنان و محاصرة منظمة التحرير الفلسطينية هناك و الاخطار المحدقة تبعا لذلك، کانت انظار الشعوب العربية و الاسلامية مصوبة بإتجاه طهران وتنتظر موقفا مميزا منها بهذا الاتجاه، إلا أن النظام الايراني وقتها کان منهمکا بالاعداد لعمليات الحج العبادية السياسية کما کان يسميها و کذلك کان يحضر لتشکيل تنظيم سياسي شيعي خاص في لبنان بالاضافة الى أمور متباينة أخرى تصب کلها في خانة التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وقد کان التطرف الاسلامي هو الخط و السياق العام الوحيد الذي يکاد أن يجمع بين کل هذه الامور، ولو أجرينا عملية مقارنة بسيطة بين الاتجاهات الاسلامية الراديکالية في الخمسينيات و الستينيات من القرن الماضي بوجه خاص و بين الاتجاهات الاسلامية المتطرفة التي نشأت بعد سيطرة رجال الدين في إيران، لوجدنا البون شاسعا و غير قابل للمقارنة، فلم تکن هنالك عمليات استشهادية ضد الانظمة و الحکومات عبر قنابلquot;بشريةquot;، کما لم يکن هناك مزاعم بتکفير شعوب و أنظمة و لا برفض اسلام و طرح بديل له کما هو الحال مع هذا النظام، وللموضوع صلة.