لا بأس أن نعود بالذاكرة قليلاً إلى اننفاضة الثاني عشر من آذار، خاصة ونحن نمرّ الآن بظروف مشابهة لتلك، ليس بالضرورة في المناطق الكردية، والتي لم يُسعفها quot;الحظquot; بعد لأن تُعيد إحياء تلك الوقفة المشرّفة في وجه النظام البعثي، وإنما في مناطق أخرى، عربية هذه المرّة، تكسّر جدار العزلة والخوف في سوريا، التي أصبحت تُعرف بـ quot;جمهورية الخوفquot;، وهي تستحق بكلّ جدارة هذا اللقب.
الشعب الكردي قدّم في انتفاضة 12 آذار أكثر من ثلاثين شهيداً، وعشرات الجرحى، واعتقالات على قدر استطاعة السجون السورية لاستيعابهم.
ماذا كانت النتيجة؟
رأس الهرم في النظام السوري، بشار الأسد، اعترف في حديث متلفز لفضائية quot;الجزيرةquot; القطرية، وللمرّة الأولى في تاريخ سوريا، بالكرد جزءاً من النسيج الاجتماعي السوري.
حاصل قسمة الحديث، وما تضمنه من quot;فزلكةquot; بات الأسد يكنّى بها، على ما قدّمه الكرد من دماء وتضحيات في تلك الانتفاضة كان دون الصفر، وسلبياً بكل تأكيد. الدمّ الكردي الذي أٌريق، دون وجه حقّ، في 12 آذار، كان أغلى بكثير من أن يعوّض بمجردّ اعتراف ساذج وبسيط كذاك، وفي مسألة من المفترض أن تكون محسومةً وغير قابلة للجدل، أو النقاش حولها.
ما حزّ، ولا يزال يحزّ في النفس، هو أن حتّى هذا الاعتراف لم يصدر عن نوايا صادقة، وكان تكتيكاً أراد به الأسد، ومن وجّهوه، لأن يُدلي بمثل هذا الكلام، الاعتراف، لتهدئة الكرد وامتصاص غضبهم الذي كان قد بلغ مبلغاً عارماً لم يكن في صالح النظام إلا تهدئته.
الانتفاضة الكردية تلك، والتي لم تجد أية مساندة عربية سورية، ولا عربية من خارج سوريا بطبيعة الحال ولا نريد هنا أن ننبش في الآلام والأوجاع والحسرات، أو ندعو إلى التعامل بالمثل بدعوة الكرد إلى الإحجام عن الانتفاضة الشعبية السورية الراهنة، والعزوف عن المشاركة فيها، حاشا وكلّا أن نكون بمستوى مثل هذا التفكير المنحط لم تكن فعلاً بقدر ما كانت ردّ فعل على همجية النظام السوري، وأعوانه وأزلامه الذين لم يتوانوا في إطلاق الرصاص الحيّ على المدنيين الكرد في القامشلي، في الحادثة التي لم تعد هناك حاجة إلى إعادة سرد تفاصيلها.
إذاً، المطالب التي ينادي بها الشعب الكردي في سوريا، منذ عقود من الزمن، لم تكن هي المحرّك والدافع الأساس للانتفاضة الآذارية، وإن تجسّدت هذه المطالب في الشعارات التي رفعها المنتفضون فيما بعد.
ولكن وبالتركيز على الانتفاضة، وغض النظر عن محرّكاتها، فإنها كانت مناسبة وفرصة جيدة لو استغلها النظام البعثي، وصحّح من المسار المعادي للشعب الكردي، والرؤية السلبية الرافضة للنظر إليه كمكوّن أساسي من مكونات المجتمع السوري، والمعتبرة أياه كجسم غريب عن هذا الوطن وجب اجتثاثه استناداً إلى الفكر البعثي الشوفيني.
على العكس من ذلك، فبمجرّد أن عاد النظام إلى توازنه الذي كان قد أُخلّ من هول ما تفاجأ به في الانتفاضة، حتى تمادى، وquot;تزعرنquot;، أكثر في التنكيل بالكرد. لقد تصاعدت وتيرة الاعتقالات العشوائية بحق النشطاء السياسيين، وزُجّ بالمئات منهم في السجون، بعضهم قضوا بداخلها تحت التعذيب، وتوالى إصدار المراسيم الجائرة التي خصّت الكرد ومناطقهم، وكان لها أبلغ الأثر في حالة الفقر والكساد الفظيعة التي سادت هذه المناطق، وتسبّبت في نزوح مئات الالآف منهم إلى المدن السورية الداخلية، بل في خيمٍ على أطرافها، للدقة والأمانة، وإلى خارج سوريا. وقائمة الويلات والفظائع التي جرّها نظام بشار الأسد على الشعب الكردي بعيد الانتفاضة تطول وتطول...
النظام السوري الآن ولدرايته ومعرفته الجيدة، مثلنا تماماً، بأنه آيل للسقوط، ولم يبق الكثير لكي يُزيح السوريون آخر أرجُل كرسيه، ليتهاوى أرضاً كأسلافه من الطغاة العرب المستبدين، أصبح يتودّد للكرد بإظهار التعاطف معهم، وإطلاق الوعود تلو الأخرى بقرب حلّ لمشاكلهم والردّ على جلّ مطالبهم، هذا عدا عن كيل الكم الهائل جداً من المديح والثناء بنعت الكرد بالوطنية، ودورهم في الحفاظ على وحدة البلاد.
النظام الأسدي يلعب الآن في الوقت بدل الضائع، وهذا الكلام المعسول والرنّان والطنّان، والوعود التي يُطلقها للكرد، حيث هو محشور في زاوية quot;زنقةquot; ضيقة جداً، وبحاجة إلى من يساعده ويخرجه من مأزقه الراهن، لم تعد تجدي نفعاً، ومصداقتيها لدى الكرد، هي بلاشك، في الحضيض. الحياة علّمتنا أن الفرصة تُتاح للشخص مرّة واحدة، وهي مُنحت للأسد في آذار 2004، كما قلنا، ولم يستغلها.
إذاً، الفرصة فُوتت، والنظام السوري خاطىء في الرهان على الشعب الكردي، في مثل هذا التوقيت، سبيلاً للخروج من أزمته، التي لا يلوح في الأفق ما يُبشر بخروجه منها منتصراً. الكرد ليسوا بتلك الدرجة من الغباء الذي يبدو أن النظام يتصوّرهم به، ولن تنطلي عليهم الحيل والخدع التي نجح في إيقاعهم بها، أو البعض منهم، بعيد انتفاضة آذار.
طريقة تعامل النظام الأسدي، المفعمة بالودّ، مع الكرد، في هذه الفترة الحرجة مما تبقى من عمره، معروفة المقاصد والغايات، ولا يحتاج تفسيرها إلى عبقرية سياسية أو عقول وقّادة، فهي جليّة حتى للمهابيل والمجانين. هو يحاول بهذا الأسلوب، الفاقد للجدوى والصلاحية، تحييد الكرد، وعزلهم عن المشاركة في الانتفاضة السورية التي تهزّ عرينه. متجاهلاً بذلك أن الشعب الكردي، الذي ضحك عليه في آذار 2004 واستخفّ بتضحياته ودمائه، يرى مصلحته، كما كان دوماً، مع الشعب السوري، ومستقبله في خندق انتفاضته، وليس مع نظام آل الأسد وأعوانه، وكل صوت كردي يخرج عن هذا النسق هو معادٍ للكرد قبل أن يكون معادياً للعرب.
- آخر تحديث :
التعليقات