بعد اندلاع الأول من شرارة الإنتفاضة السورية، في الخامس عشر من آذار مارس الماضي، بدأ النظام السوري إعادة النظر في حسابات سياساته الشوفينية، الإقصائية، quot;الخارج وطنيةquot; العتيقة، التي اتبعها ضد أكراد(ه) السوريين، طيلة نصف قرنٍ من الزمان.

صعود درعا في الجنوب، دفع النظام إلى اللعب في الشمال، حيث الأكراد الذين يعيشون على هامش وطنهم السوري، كquot;أجانب حمرquot;، أو quot;مكتومينquot; بلا انتماء ولا هوية.

الجنوب السوري المشتعل، أيقظ النظام ونبههُ، بأنّ هناك أكراداً في الشمال القصيّ، على وشك الإشتعال، في أية لحظة، فبدأ على الفور بquot;الهجرة إلى الشمالquot;(والعبارة هي عنوان الرواية الأشهر للروائي السوداني الكبير الراحل الطيب صالح)، حيث موطن الأكراد السوريين، الذين يستقّرون في الشريط الحدودي الطويل، المحاذي لتركيا، من عين ديوار شرقاً إلى عفرين غرباً.

قبل نوروزهم بأيام، اجتمعت قيادات بارزة في النظام، مع الأكراد من كافة التيارات والتوجهات، أحزاباً وشخصيات وطنية وعشائر وجماعات، لتطرح عليهم خطة القيادة السورية الجديدة، في التعاطي الجديد مع قضية الأكراد القديمة، في كونهم quot;جزءاً من النسيج الوطني السوريquot;، حسب توصيف الأسد لهم قبل سعبة أعوام، الذي وعدهم آنذاك بُعيد انتفاضة 12 آذار 2004، بالنظر في قضيتهم كquot;مواطنين سوريينquot;، ودراستها على أعلى المستويات.

بعد نوم الأكراد في أدراج الرئيس، وبين أضابير ودفاتر نظامه سبعة أعوامٍ إضافية، تذكّر الأسد الآن للتو، أنّ هناك أكراداً quot;محرومينquot; في الشمال، لا بدّ من النظر في أحوال quot;مواطنتهم المكتومةquot;، ودراستها بquot;السرعة الكليةquot;، حسب تعبير quot;خطاطةquot; النظام الأخيرة في الإصلاح.

سذاجة العقل السياسي الكردي السوري في التعاطي مع النظام، كلّفت(ولا يزال) أكراد الأحزاب، الكثير من الفشل، فضلاً عن قتلها للكثير من الوقت، والكثير من الحزب والجمهور والمصداقية والإنتظار على أبواب وعودٍ شفوية، كُتب عليها، أن تظلّ أقوالاً، دون ترجمتها إلى أفعال.

قبل نوروز بأيام، حيث كانت الإنتفاضة في الجنوب الحوراني، وبعض المدن الساحلية مشتعلةً، سقط أكراد الأحزاب، ككل مرة، في الفخ الأمني ذاته، للنظام ذاته، الذي طالما تعاطى مع الأكراد بوصفهم قضيةً quot;أمنية استخباراتيةquot;، بدلاً من الجلوس إلى أهلها، بإعتبارهم ممثلين لquot;قضية شعبٍquot; يريد حقوقه المشروعة، التي تنص عليها كلّ المواثيق والصكوك الدولية ذات العلاقة، في إطار سوريا واحدة موحدة.

النظام السوري، خطف نوروز هذا العام من أكراده، ليتحوّل هذا العيد الكردي القومي بإمتياز، من عيد للحرية، يجسد رمزاً لإنتصار الحق على الباطل، والنور على الظلام، إلى quot;عيدٍ ربيعي ترفيهيquot;، لممارسة طقوس الدبكة والرقص والغناء.
تحت هذا العنوان quot;الترفيهيquot; العريض، حضرت رموز أمنية وإدارية من أجهزة النظام مراسيم العيد، وباركت النوروز على أكراده quot;الراقصينquot; للربيع. وبالمعنى quot;الترفيهيquot; ذاته، نشر الإعلام الرسمي المرئي والمسموع والمقروء، بمباركة كردية طبعاً، أخباراً ترفيهية عن الأكراد في عيدهم، الذي سميّ رسمياً، حسب quot;فقهquot; النظام، لأول مرة في تاريخ سوريا، بquot;العيد الحضاري السوريquot;.

لكن خروج quot;فقيهةquot; النظام السوري، ومستشارة الأسد السياسية والإعلامية، الدكتورة بثينة شعبان، على الأكراد، وتراجعها عن تسميتها لهم بquot;الأخوان الأكرادquot;، وقفزها على خصوصيتهم الإثنية، وثم quot;تصحيحهاquot; لوجودهم السوري، بإختزالها إياهم إلى مجرد quot;شريحةquot; ضمن نسيج المجتمع السوري، أثار حفيظة الأكراد، أحزاباً وجماهير. فلم يبقَ للأكراد، بعد quot;خروجهم من مولد دمشق بدون حمصquot;، إلا النفخ في الهواء، فأمطروها بوابل من quot;الكلام الهوائيquot;، المشبع بالبيانات والتصريحات والتنديدات والإنزعاجات.

أما خروج الأسد على السوريين والعالم، بخطابه الأخير الذي كان quot;قولاًquot; في الإصلاح، أكثر من أن يكون فعلاً فيه، والذي غاب فيه الأكراد تماماً، دون أن يتطرق الرئيس(ولا بنصف كلمة)، إلى وجودهم السوري المؤجل، في قضيةٍ لم نعرفها في سوريا، إلا quot;أجنبيةًquot;، quot;مكتومةًquot;، quot;ممنوعةًquot;، quot;مقموعةًquot; مؤجلة، هذا التغييب الكردي في خطاب الأسد الأخير، زاد من الطين بين النظام والأكراد في الشمال بلّةً، ما دفع بالأكراد في فوق السياسة وتحتها، إلى المزيد من الغضب، والمزيد من اللاثقة بوعود النظام.

هذا الغضب الكردي على النظام، تمّ ترجمته في quot;جمعة الشهداءquot;، الماضية، حيث شهدت بعض المدن في المناطق الكردية مثل قامشلو وعامودا، اعتصامات واحتجاجات سلمية، عبّر فيها الأكراد عن وحدة دمهم مع دم حوران، وعن كونهم جزءاً لا يتجزأ من الشعب السوري الواحد، وذلك من خلال رفعهم لشعارات ترجمت وطنيتهم السورية، من قبيل quot;بالروح بالدم نفديك يا درعاquot;، وquot;الشعب السوري واحد..واحد..واحد..واحدquot;، وquot;الله..سوريا..حرية وبسquot;.

الواضح من سلوك النظام السوري، هو إصراره على إبقاء قضية الوجود الكردي في سوريا، كقضية quot;شعبquot; له حقوق، في دهاليز الدولة الخفية، ودوائر أمنها المغلقة.
النظام في دمشق، تعوّد طيلة أكثر من أربعة عقودٍ، من إدارته السرية للملف الكردي في الشمال، على التعامل السري مع أكراده، تعاملاً أمنياً بحتاً.

هو، بدلاً من الجلوس إلى الأكراد، لمناقشة قضيتهم ومطالبهم، كquot;شعب علنيquot;، اختلى بهم على الدوام، في الغرف السرية المغلقة، كquot;أكراد ممنوعينquot; من الصرف في quot;سوريا العلنيةquot;.
طيلة أكثر من أربعة عقودٍ، من هذا التعاطي الأمني للنظام السوري، مع القضية الكردية، لم نسمع، إلا نادراً جداً، بإجتماع مسؤول رفيع في الحكومة وما حواليها، مع الأكراد لدراسة قضيتهم أو مناقشتها.
ما كنا نسمعه دائماً، هو اختلاء مسؤولي الفروع الأمنية(من أمن الدولة إلى الأمن العسكري مروراً بالأمن السياسي) لquot;تدجينquot; القضية الكردية وترويضها، كما تقتضي ظروف quot;المعركة المصيرية مع العدو الصهيونيquot;.

لكنّ انقلاب quot;ربيع دمشقquot; على النظام السوري، وظهور بودار quot;ربيع سوريquot; جديد، انطلاقاً من درعا وحواليها، أجبر النظام السوري على إعادة النظر في بعض أوراقه، وأصول لعبه مع الشعب.
واحدة من أكثر هذه الأوراق أهميةً في حسابات النظام، والتي يوليها في الآونة الأخيرة، أهميةً جدّ خاصة، هي الورقة الكردية. تلك الورقة القديمة الجديدة، التي طالما استخدمها النظام، وخرج من الملعب، منتصراً على أهلها، بأكثر من هدف، وأكثر من نجاح.

من هذا الباب بالضبط، وبناءً على أصول لعب النظام السوري الجديدة، يمكن فهم لعب الأسد الأخير في الشمال.

أمس، سمعنا خبراً جديداً في هذا السياق، يفيد بأنّ quot;طائرةً قد حطت في مطار قامشلي، قادمة من دمشق، بناء على أوامر شخصية من بشار الأسد، للقاء بأكثر من 30 شخصاً أكثرهم وجهاء عشائر ورموز أمنية، منهم 18 كردياً، عرف منهم اثنان هما حميد درويش وعزيز داود(سكرتيرا حزبين كرديين)، ووجهاء آخرين معروفين على السلطةquot;.
لقاء من هذا النوع، على أرفع مستوى، لم نسمعه من قبل، لا في زمن الأسد الأب الماضي، ولا في زمن الأسد الإبن الراهن.

لم تترشح من اجتماع الأسد مع quot;سادةquot; النظام في الشمال، حتى الآن، أية معلومات رسمية عما دار بين الطرفين من نقاشات. ما ترشح إلى ساعة كتابة هذه السطور، هو أنّ بعضاً ممّن اجتمعوا بالرئيس، قالوا على الفضائيات، أنّ quot;كلّ المطالب التي تقدم بها وجهاء الشمال، هي في طريقها إلى التحقيق، وستصبح قريباً جزءاً من الماضيquot;.
الجدير ذكره، هو أنّ الأسد قد قفز في دعوته هذه، على غالبية أحزاب الحركة الكردية، وتياراتها، ما يعني التفافاً واضحاً على quot;وجودهاquot; السياسي، وسقوطها الصريح عن شرعه.
اختيار الأسد الجلوس إلى quot;الوجهاءquot; بدلاً من quot;الأمناءquot;(أمناء الأحزاب الكردية)، هي رسالة واضحة، إلى الحركة الكردية، بأنّ كلّ طرقها، ليس لها إلا أن تؤدي إلى كواليس الأمن.

ليس مضموناً ولا مؤكداً بعد، فيما إذا كان quot;النظام الجرةquot; سيسلم من شماله كما في كلّ مرّة.
ولكنّ المؤكد، هو أنّ اللعب في الشمال وعليه، سيشكّل حيزاً كبيراً في القادم من لعب الأسد، للهروب بديكتاتوريته إلى الأمام، إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.

بعد غضب الجنوب وجهاتٍ أخرى من حوله، سيحاول الأسد جاهداً quot;تحييدquot; الشمال، عن القادم من الغضب السوري، وتهدئة شارعه، بلغة العصا حيناً والجزرة حيناً آخر.
الآن، هو موسم هجرة تفكير الأسد إلى الشمال.
الآن، هو موسم جلوس الأسد مع الشمال.
الآن، هو موسم لعب الأسد على الشمال.
الآن، هو موسم الأسد، لضرب الجنوب بالشمال.

فهل سينجح الأسد، في فصل حرية quot;سوريا الجنوبquot; عن حرية quot;سوريا الشمالquot;، أم أنّ الشمال والجنوب سيصيحان، في أقرب غضبٍ قادم، بشعبٍ واحدٍ، في سوريا واحدة، لحريةٍ واحدة؟

ليس لنا إلا أن نتوقع من قامشلو إلى درعا، الحرية لكلّ سوريا.


[email protected]