إن العلاقة الجدلية التي تحكم الأشياء في طبعها وطبائعيتها لاتكمن، على الإطلاق، في واحديتها ولا في وحدة الإئتلاف فيما بينها، إنما في السمة السائدة، ذات العلاقة الوحيدة المستحكمة في مفهوم التناقض، والتي لاتقف عند حد البنى التحتية، بل تتجاوزها لإنجاب الوعي المرادف وتمثيله في ما بعد تمثيلها، هي بالذات. كما إن هذه العلاقة الجدلية لاتظهر على السطح دائماُ، بل هي تبقى على الأرجح مثل اللاشعور المعرفي، يرانا ونحن لانراه، يتجسد فينا كما يتجسد الضوء في الظلام ونحن نعتقد، بل نحن واثقون كل الثقة، كالأغبياء، من إننا أحرار مدركون، الإدراك كله، لقوة النفاذ إلى ( الحقيقة )، وكأننا جزء سرمدي من الوعي الذي يتأبد ويقهر التناقض ويهشم السمة السائدة و يهرس تلك العلاقة الجدلية، بل وكأننا ذاك السر الدفين في الذات الإلهية، كذروة الإئتلاف في مبدأ وحدة الوجود. وإذا كانت هذه العلاقة الجدلية لاتظهر، لاتستبان، فلإن، من زاوية أولى، وعينا ليس جزءاُ من التاد الصيني،ولا من دهارما في الفلسفة الهندية، ولا من اللوغوس الهيراقليطيسي، ولا من النوس الأناكساغوراسي، إنما هو وعي للتاريخ البشري، ليس مفارقاُ عنه، وعي للتجربة الإنسانية كبعد مولود منها وبها لكنه فاعل ينجب، كألوحدة في اللاكثرة، كأللاكثرة في الواحد ( بعكس ما أعتقد لالاند، وليفي شتراوس )، ومن زاوية ثانية، الوعي البشري مسكون، للأسف، وربما من حسن الحظ، بالمكان، مقهور بأبعاده، منتهك بمكنوناته، مستباح بأجتياحه، ومن زاوية ثالثة، الوعي الإنساني تكاملي وليس تفاضلياُ، وهذه هي السمة والخاصية الأكثر سلبية في ماهيته، والأكثر قبحاُ وشناعة في آدائه، وفي اتساقه.

إن هذه الزوايا الثلاثة تميط اللثام عن مدى الغبن والإجحاف اللذان لحقا بالعلاقة الجدلية على يد فيلسوفين، أحدهما، كبير وهو هيجل، والثاني، أقل شأواُ وعظمة منه، لكنه لايقل أجتهاداُ، وهو هربرت ماركيوز. فالأول، أي هيجل، أخضع بصفة مطلقة مفهوم العلاقة الجدلية لمحتوى الفكرة المطلقة، وجعله وسيلة لتطور هذه الفكرة، بحيث أمسينا إزاء الأنتقال من مقولة إلى أخرى بأصطناع حالة سيولية لاتمت إلى الحالة الوقائعية الفاعلة، حسب تعبير جان بول سارتر، وكأننا إزاء تاريخ الفكرة نفسها لبلوغ العقل الكلي أو الوعي المطلق. أما الثاني، أي هربرت ماركيوز، فقد سعى جاهداُ إلى إنقاذ العلاقة الجدلية من التهيش الباهت بتقويم مسارها لدى سيده هيجل، ومنحها شيئاُ من أبعاد الفلسفة و التاريخ والتمازج فيما بينهما، بل حتى التماهي، إلا إنه حينما أجتهد بإضافة منطوق الوعي، أضحى فريسة لهذه الثلاثية ( الفلسفة، التاريخ، الوعي )، وأنكمش ضمن إشكالية الوعي السلبي، فغدا التاريخ لديه تاريخ الأستلاب، والفلسفة لديه هي فلسفة النفي، والوعي كبح وأبطل لديه الحيوية المفترضة للعلاقة الجدلية. وفي الجانب الآخر، المعاكس، لتأصيل هذه المسألة، برز كارل ماركس وصاحبه أنجلس، وكل من غرامشي، وأرنستو كلاو، ومهدي عامل.

لم يدرك كارل ماركس ولاصاحبه أنجلس، في البداية، الدور الوظيفي المناط بالعلاقة الجدلية ما بين الموضوع والمحمول، أو الدور التاريخي في الأنتقال من مرحلة أدنى إلى مرحلة أعلى، وحينما أدركا عظمة ووظيفة هذه المقولة، أدركا بالتوازي وبصورة أفضل أرتباط المقولات السابقة فيما بينها، لأنها ترسخت، لديهما، على قاعدة أكثر ( تاريخانية، فلسفية، علمية )، وتأكدا فيما بعد إن المقولة الوحيدة التي كانت تنقذهما، على طول المتقاطعات، هي الأستغلال. أما غرامشي فقد أضفى إليها شيئاُ من العلمية في أدراك عظمة هذه العلاقة من خلال مفهوم الوظيفة الإفرازية لطبقات ( وشرائح ) المجتمع، وأما أرنستو كلاو فقد أستكشفها من خلال محتوى مقولة القمع، وأما مهدي عامل فقد أستنطقها من خلال تناقضات الواقع الفعلي.

وهذا المحتوى الإيجابي والأكيد للعلاقة الجدلية، فيما يتعلق بالأحداث ( الثورات ) التي تجتاح الآفاق العربية، هو مايبدو غائباً في ذهن المفكر العربي. هذا الذهن الذي يسعى خطأ إلى ربط ( هذه الثورات ) سواء بإحدى هذه المفاهيم أو كلها مجتمعة ( الفقر والجوع، العطالة والبطالة، القمع والعنف، الأستبداد والظلم، القهر والضغط، الغبن والإجحاف ) أو ( عدم وجود أصلاحات، تطبيق حالة الطوارىء، عدم وجود قوانين للأحزاب، عدم وجود تقنين للحريات العامة، الأعتقالات التعسفية ) أو ( السلب والنهب، أستشراء الفساد، المحسوبية ) أو ( السياسة ومضامينها ومجالاتها المتعددة والمتباينة بالمعنى المحض لها ) أو ( أحتجاز كرسي الحكم إلى الأبد ). من المؤكد إن هذه العوامل جميعها مجتمعة، أو بصورة متفرقة، ساهمت وتساهم في نفي العلاقة ما بين السلطة والنظام وبين مجمل شرائح المجتمع وأطيافه وفئاته، لكن الذي يجري على الساحة العربية الآن تحديداُ يتعدى هذه الأمور رغم أهميتها القصوى بل القاتلة، لإن العلاقة هنا هي علاقة تبادل، توازن، مقادير كمية، فعل ورد فعل، لاترتقي إلى مستوى العلاقة الجدلية التي هي جزء أصيل من فحوى الحدث وقيمته الإدراكية، لذلك كيلا نغدر بها نحن، نعتقد إنها، أي العلاقة الجدلية، في الحدث ( الثورات ) تماهت وتتماهى من ثلاثة مسائل هي، المسألة الأولى، إن الشعور العربي حايث كلياُ حالة الأغتراب ليس في مكنوناته، إنما في كينونته، فهو في الحقيقة لايتمرد على ( السلطة والنظام ) فقط، إنما هو يتمرد قبل ذلك على ذاته، على فشله التاريخي، على تبعيته المقيته، لذلك تصرف ( ولم يقرر، لإنه أصلاُ لايستطيع أن يقرر، ومن هنا لم يدرك المفكر العربي عمق الحدث ) كي يقطع مع الحاضر على كافة الصعد، السياسية، الأجتماعية، المعرفية، الفكرية، وكأن المسألة أنتقلت من مرحلة التراكم الجيولوجي ( التعويض الأجتماعي، السياسي، الإقتصادي ) إلى مرحلة التعويض الجيولوجي ( أريد ذاتي حية، أريد كليب حياً )، ومن هنا تحديداً، هو يرفض مفهوم الإصلاحات، وينادي بإزاحة رأس السلطة، ونظام السلطة، وإنشاء دستور جديد، لإن كل المعطيات الأخرى ( الديمقراطية، حقوق الأنسان، الحريات العامة، العيش بكرامة.. ألخ ) ستحقق بعد أن تتحقق الأمور الثلاثة السابقة. فإعادة الحياة إلى المستقبل ( والذات المستلبة ) لامحيص من إيقاف الحاضر أولاُ. المسألة الثانية، إن اللاشعور العربي العام ( اللاشعور النفسي الفرويدي، اللاشعورالمعرفي ndash; جان بياجه، اللاشعور العام اليونغي ) قد تهدمت وأنهشمت مرتكزاته، وولج، هو، في مرحلة الموت السريري، ليبلغ نقطة اللارجوع، نقطة التي عندها لم يعد له أي تأثير على النظام العام ولا على تحديد مقومات العقل، المنطق، ولا على أبعاد تحديد الهوية، لذلك فإن التمرد لم يخضع للمقايسة، ولا لمفهوم الشرط، ولالمحتوى الركن، ولا للأساليب السياسية المعهودة، ومن هنا بالذات كان التمرد ضد ( المعارضة ) مثلما هو ضد ( النظام القائم )، ضد السياسة، ضد الفكر، ضد السوسيولوجيا، ضد التاريخ، ضد الكل لولادة الكل، لولادة لاشعور جديد، ( قد يستغرق لأكتماله عدة قرون )، وليس أدل على ذلك من، أولاُ، إن هذه الثورات بدأ بها أناس ( فتيان ) لا لون سياسي لهم ولا إتجاه معرفي مسبق، هم فتية يصرخون من الأعماق، يصرخون وكفى، يصرخون صرخة من اللاشعور ضد اللاشعور، ثانياُ، إن ( النظام، والأجهزة الأمنية، والشرطة ) يعترفون بضرورة ( الإصلاحات ) حتى لو كان ذلك نفاقاُ ودجلاُ، والآن لو بقي القذافي، وصالح، ورجع مبارك و بن علي إلى دست الحكم، فإنهم سيكونون ( أشباه ثوار). المسألة الثالثة، إن الغرب الرأسمالي لايستطيع، ولم يستطع إلا أن يتعامل مع الأحداث وفقاً لمعادلات مغايرة، لإن الواقع جديد، ولبروز عنصر جديد، عنصر يغاير القديم، عنصر لم يكتمل بعد، لكنه قادم بكل ثقة، بكل موضوعية، وبصورة بنيوية، عنصر صادر الحاضر لمصلحة المستقبل.

[email protected]