لا جدال في أن نظام الأسد في سوريا فاسد وشرير وانتهازي ودموي وغدار ومتآمر بكل الحسابات والمقاييس. وحين يفقد السوريون الطيبون الصبورون المعروفون بأنهم كاظمون للغيض آخر ما ادخروه من صبر ومن قدرة على احتمال المزيد من الفقر والظلم والفساد، فإن هذا يعني أن سوريا وضعت قدميها على طريق حريتها بجد، ولن تنتهي انتفاضتها إلا بالنصر الكامل في نهاية المطاف.

وطبيعي جدا أن يفقد نظام الأقلية العلوية التي تحتكر السلطة منذ أربعين سنة توازنه، وأن يفشل في إدارة الأزمة بشيء من الحكمة والواقعية والعقلانية فيغير أسلوبه المعتاد في مواجهة المعارضة والمتمثل بقتل القتيل والسير في جنازته.

فحين خرج أهالي مدينة درعا لمواجهة رصاص النظام المتوقع سلفا فمعنى هذا أن ثورة شعبية حقيقية شاملة قد اكتمل نصابها وراحت تعلن عن نفسها، ولن تكتفي بتظاهرة أو تظاهرات سلمية عابرة، هنا وهناك، يفضها النظام بوعود ليس لها ضامن بتحقيق المطالب، ثم يسارع، فور ارفضاضها، إلى اعتقال قادتها وتغييبهم، كما تعود أن يفعل من عشرات السنين.

وما يجعل النظام أضعف طرفي هذه المواجهة المصيرية الحاسمة هو أن هذه الثورة وضعه في مأزق حقيقي ليس له مَخرجٌ منه سوى الانهيار، في النهاية. فهو أمام خيارين لا ثالث لهما، وكلاهما يعني بداية سقوط حقيقي ومؤكد، بدون جدال.

فإن هو لجأ إلى القسوة، وهو ميال إليها بطبعه الدكتاتوري المتوارث، وقام باغتيال أو اعتقال متظاهرين، وأحرق مساكن، ونسف َ مساجد، ومحا مدنا وقرىً كاملة، كما فعل بحماة سابقا، فهو إنما يصب مزيدا من الزيت على حطب الحريق، ويضع الحبل حول رقبته بإحكام، وينسف جسور العودة.

أما إذا لجأ إلى أسلوب النفاق وحاول مسايرة الجماهير بالرحمة والحكمة (المفتعلة)، واعترف ببضعة من أخطائه، وأبدى استعدادا كاذبا للحوار، فسوف يقنع الجماهير بأنه فقد جبروته، وكشف عورته، وبرهن على أنه نمر من ورق أدرك طبيعة العصر وحتمية التغيير. وهذا ما سيدفع بالمعارضة إلى رفع سقف مطالبها، شيئا فشيئا، حتى نقطة النهاية، مهما كانت التضحيات والخسائر من الطرفين.

وهذا هو المأزق الحقيقي للنظام السوري الذي لم يواجه مثله طيلة حياته بهذه الجدية وبهذه الحدية والإصرار.

لقد عاش هذا النظام، أكثر من غيره من الأنظمة العربية القائمة على الظلم والفساد والانفراد بالسلطة، معتمدا على نفاق الجماهير ودغدغة عواطفها بالخطاب (الثوروي) القومجي عن والصمود والتصدي، أربعين.

وإذا كان هذا نافذا فيما مضى، فإنه اليوم، في عصر التكنولوجيا الحديثة وأجيال الإنترنيت ووهج الحرية الذي تفجر في المنطقة، لم يعد كافيا لخداع الجماهير. خصوصا وأن سوريا، في ظل هذه الشعارات القومية البراقة، أفقر من غيرها بكثير، وأكثر فسادا ورشوة وعنفا وقسوة.

حتى أصبح الحديث عن العروبة وعن شرفها و(صمود) فرسانها بوجه الإمبريالية والصهيونية مملا جدا، بل مقززا ومثيرا للاشمئزاز. فأية عروبة تلك التي تبيح لحاكم أن يقمع مواطنيه ويهدر كراماتهم ويسرق ثرواتهم ويشرد الملايين منهم طلبا للرزق أو حفاظا على الكرامة؟؟

وأية عروبة تلك التي تجيز لحاكم أن يمنح الدولة لإخوته وأولاد أعمامه وأخواله وأفراد حرسه وحمايته، بكامل أرضها وشعبها، ليحولوها إلى مزرعة خاصة يعيثون فيها فسادا، ويجعلوا أهلها رهائن، وأذلة، ولا يسمحون لأي ٍ من أبنائها بأن يأكل خبزه أو ينام ليلته بين أولاده إلا إذا بلع لسانه وأغمض عينيه وسد أذنيه وتحول إلى بيدق في مسيرات الحزب الهاتفة بحياة القائد العظيم؟؟
ويقول التاريخ إن حافظ الأسد قام باختطاف الحكم في سوريا في أعقاب نكسة حزيران وإفرازاتها النفسية على الجماهير، مع ظروف انتصارات إسرائيل، وعودة عبد الناصر عن استقالته الشهيرة، وإعلانه أن (ما أخذ بالقوة لا يسترد إلى بالقوة)، وحاجة الغرب، وأمريكا وإسرائيل في المقدمة، إلى قيام نظام عسكري قوي في سوريا، بواجهة مدنية حزبية قومية لمحاصرة قومية عبد الناصر وعرقلة مشاريعه القومية المتطرفة.

وليس صعبا تصديق الحكاية التي تقول إنه حين كان وزير دفاع البعث السوري سلم الجولان في حرب حزيران 1967 دون قتال. وهذا ما أرضى عنه إسرائيل، وأمريكا ضمنا، وأمريكا، وأقنع الغرب بالقبول به رئيسا لسوريا الجارة المهمة والحيوية والخطيرة لإسرائيل. وقد أثبت أنه حليف مؤتمن. فقد منع أن تطلق ولو رصاصة واحدة من الأراضي السورية على إسرائيل، واحتضن جميع الفصائل الفلسطينية المتطرفة، بل راح يشرف على نشاطاتها واتصالاتها، وتمكن من تدجينها وتحويلها إلى أدوات قمع وتخريب وإرهاب يستخدمها لتحقيق مصالحه الخاصة، عند الضرورة.

ومن أول أيام إنقلابه الشهير الذي أسماه بـ (الحركة التصحيحية) في تشرين/ نوفمبر 1970 وإلى وفاته عام 2000 ألقى برفاقه في السجون المظلمة، دون محاكمة، ولاحق َ الهاربين منهم، لاغتيالهم، حتى آخر الدنيا، واعتمد سياسة كسر العظم مع المعارضين. وخاض حروبا لا أخلاقية ضد الشعب العراقي، نكاية بصدام حسين، ومارس كل ألوان التآمر والدس والوقيعة والإرهاب ضد الشعب اللبناني، وجعل لبنان بوابته المُشرَعة لممارسة التهريب والممؤامرات وافتعال القلاقل ضد الدول العربية، وليس ضد إسرائيل، رغم خطابه المُزايد على الجميع في الثورية والمقاومة، والمُصر على خوض حروب التحرير الكامل، والرافض لأية حلول سلمية مع إسرائيل، ولكن دون أن يفعل أي شيء جدي لتنفيذ أي ٍ من شعاراته تلك.

ومنذ أول أيام سلطته في سوريا وضع يده في يد إيران الخميني، رغم تناقض الهوية القومية العلمانية (المعلنة) للنظام السوري مع هوية نظام الخميني الدينية الطائفية المتشددة، وأصبح متعهدها الوحيد لتهريب السلاح و(المجاهدين) والخبراء لحزب الله، وجعل سوريا معبرها الآمن إلى لبنان وفلسطين والعراق ودول الخليج العربية.

وقد أشاع الغرب عن حافظ أسد تفردَه بالحنكة والدهاء بين قادة الأنظمة العربية الأخرى. ولعل أبرز ما يثبت تلك الحنكة وذلك الدهاء أنه اتخذ من الورقة الإيرانية منجم ذهبه الدائم الذي جعله أغنى من عرب البترول. فقد عاش حياته كلها يقبض من إيران الكثير، مقابل خدماته لها، ويقبض من العرب أكثر، تارة بتخويفهم من البعبع الإيراني، وتارة بحمايتهم من مؤامرات طهران ومخططاتها. وقد دأبت أنظمة الحكم الخليجية، بشل خاص، على الإغداق عليه لفك ارتباطه بإيران، ولكن دون جدوى.

بالمقابل، ورغم كل هذا الكسب غير المشروع، ظل الشعب السوري يزداد فقرا وحرمانا، يوما بعد يوم.

وعلى يد حافظ أسد ووريثه بشار شاعت الرشوة في سوريا، وعم الجوع والتخلف، وصار الخوف هو الخبزَ اليومي لكل مواطن سوري، حتى وهو بعثي، وحتى وهو من عظام رقبة النظام نفسه.

بعبارة أوضح. إن نظام الأسد كان وظل سكينا في خاصرة الأمة العربية يتكسب من مصائبها ويعيش على ابتزاز حكوماتها. والذين عانوا من ظلمه وفساده وانتهازيته ونفاقه أكثر من السوريين هم اللبنانيون والعراقيون والفلسطينيون.

لقد آن لهذا النظام أن يرحل. فرحيله ليس تحريرا للشعب السوري وحده، بل هو كسر لأهم وأخطر حلقات السلسلة الحديدية التي تخنق هذه الشعوب.

فقيام نظام ديمقراطي عقلاني مدني في سوريا يعني فقدان حزب الله لخطوط إمداده المالية والعسكرية والسياسة الخارجية، وإعادته إلى حجمه الطبيعي حزبا لبنانيا كغيره من الأحزاب وتسليم سلاحه للدولة اللبنانية وتسهيل قيام الدولة الديمقراطية الموحدة في لبنان.

ويعني أيضا عودة (حماس) إلى منطق العقل والواقع، وبدء مرحلة جديدة من وحدة الشعب الفلسطيني وقدرته على المواجهة الموحدة مع إسرائيل.

ويعني أيضا غلق الحدود السورية مع العراق بوجه الإرهابيين الذين يشاع أن مخابرات الأسد تدربهم وتمولهم مخابرات إيران.

ويعني أيضا إضعاف النظام القمعي الديكتاتوري المتخلف في إيران وإشغاله بنفسه، ومنعَه من تمويل القتل والإرهاب وتوقفه عن تدخله في شؤون الدول الأخرى، وخلق الأزمات في المنطقة، وإطلاق المعارضة الإيرانية الديمقراطية ودعمها وتمكينها من تغيير النظام.

ومؤكد أن عالما بدون بشار الأسد وخامنئي وحسن نصر الله واسماعيل هنية وخالد مشعل ومقتدى الصدر ونوري المالكي سيكون أكثرَ أمنا وسلاما، وأجمل وأفضل للعيش من عالم الجنون الحالي الكريه.