رؤى في ثورتيْ تونس ومصر

لقد أكدنا في المقال السابق على أن دور الثورة يتجاوز تحقيق مآربها السياسية، إذ أنها - في المحصلة النهائية - تدلّ على حراك تاريخي واجتماعي، هو الذي ينبغي أن نُعنى به في تحليل quot;الثوراتquot;، وخطورة ثورتي تونس ومصر اللتين لا تزالان في مرحلة المخاض (رغم ما حققتاه حتى الآن من تغير في المشهد السياسي) ينبغي أن يقاس بما أنجزاه من حراك يمكن أن يتم رصد بوادره فيما نشهده من تغير لبعض الرؤى والأفكار السائدة اجتماعياً وفكرياً في الفضاء العربي.

وهذا - في تقديري - هو quot;العنوان الأكبرquot; وراء هاتين الثورتين، وهو ما يمكن أن نختزله بـمنشيت واحد هو: quot;سقوط الأصنامquot;... فلم تسقط ثورتا تونس ومصر الحاكم، ولكن أسقطت كذلك كثيراً من الأفكار والآراء التي كانت تقيد العقل العربي من أن ينطلق في رحاب الممكنات، أكثر من أن يقيد نفسه في أغلال المستحيلات...!

أول ما يسترعي انتباهنا هو -أنهما بخلاف ما سبقهما من انقلابات - قد سعتا إلى إزالة quot;السياسيquot; من حيث كونه quot;نظاماًquot;، لذلك لم يكن مطلبهما - في البدء - سقوط quot;حاكمquot;، ثم الآتيان بحاكم آخر، ولكن من حيث أن هذا الحاكم هو quot;رمزquot; لنظام متكامل، حتى لو كان هذا النظام من صنع هذا quot;الرمزquot;، وقد كان تعاطي صاحب السلطة مع الاحتجاجات الشعبية بشيء من التنازلات المتدرجة كما فعل كل من زين العابدين أو حسنى مبارك خطأ فادح في تقدير مطالب quot;الثورةquot;، ولا شك لدي بأن هذا ناتج عن نظرة تعبر عما يكنه النظام السياسي العربي للشعوب العربية من نظرة احتقار وتقليل، تلك النظرة التي تظن بأن بالإمكان إخماد أوار quot;الغضب الشعبيquot; بشيء من الترقيع والتطويع، أو ببعض من العطايا والمكرمات، وهو ما سعى له الرئيسان المخلوعان في البدء، ولكن قد ذهب سعيهما هباء منثوراً!

إن هذا الإدراك لخطورة quot;النظامquot; أكثر من quot;الفردquot; في منظومة الاستبداد، هو الذي كسر حاجز الخوف، لأن الاستبداد من حيث أنه منظومة هو مجرد تصورات عقلية مطبوعة في العقل الجمعي، وبمجرد أن نجح شعبا تونس ومصر من القبض على هذا quot;التصورquot; ومن ثم تفكيكه، سرعان ما تبدد الفزع التي كان يبثه الاستبداد فيهما، وهكذا رأينا روحاً جديدة انبعثت في هذين الشعبين، رأينا إرادة جبارة تمثلت بكل وضوح في مسيرات الاحتجاج والرفض، وسقط المستبد لا من حيث أنه فرد وحسب، ولكن من حيث أنه منظومة استبداد، وهذا صنم آخر يسقط في سلسل متتالية من سقوط الأصنام في هاتين الثورتين...!

إن الاستبداد منظومة أدلوجية أي أنها مجموعة من الأفكار التي تسند بعضها الآخر، كي تحقق مصالح معينة، لطبقة معينة، وتمارس هذه الأفكار تزييف للواقع من خلال استنادها على تصورات معينة، يتم تعزيزها في العقل الجمعي، حتى تكاد تصبح هي التي تماثل الواقع وتحل محله. وهكذا فإن شبح هذه المنظومة، لابد أن يتلاشى في الوعي أمام جموح الرفض الشعبي الذي تمثل في مسيرات الاحتجاج ووقفات الاعتصام، وهو ما بدا جلياً في ثورتيْ تونس ومصر، فالخوف الذي كان يحمله العقل الجمعي (وظل يفعل فعله في جزء كبير من الشعبين، ولعل هذا يفسر لنا: لماذا في الثورات يبقى الجزء الأعظم من الشعب صامتاً، ولكن - في واقع الأمر ndash; هو صمت متواطئ مع الثورة ndash; أي سكوت الراضي، وهو ما يجعل للثورة شرعيتها الشعبية في مثل هذه الحالات، حتى لو كان 10% من إجمالي الشعب هو من خرج كما هو الحال في مصر) سرعان ما بددته همة شباب هذه الثورة، فهدر وراءهم بعد ذلك الجموع من كافة الأطياف!

وإصرار الشعب التونسي والمصري على إسقاط quot;منظومة الاستبدادquot; أكثر من سقوط quot;المستبدquot; يدل على ما انطوت عليه هاتان الثورتان من عمق وتبصر، يوازي عمق الفكر النخبوي، وإن يكن صادراً من quot;النخبquot;، بل من الشعب الذي استطاع أن يتعمق في مفهوم الاستبداد باعتباره منظومة فكرية أكثر مما هو فرد أو شخص. وهو الأمر الذي يدل على أن هناك وعياً شعبياً جديداً - وعياً عالياً يلامس الفكر السياسي أكثر من ملامسة quot;السياسةquot;، وهذا الأمر يدل على تقدم خطير في وعي الفرد العربي!

هذا الوعي - كما أرى - قد يحطم ثنائية قد عشنا ردحاً من الزمن في رحاها، أقصد ثنائية النخب والشعب والفكر الذي يمثلانه: كثير من الأقلام حاولتْ - وهي واقعه في فخ هذه الثنائية ndash; التأكيد على أن quot;الشعبيquot; منفصل انفصالاً مطلقاً عن quot;النخبيquot;، وهو أمر خاطئ في تقديري، إذ لا توجد هنا معادلة ثنائي القطب يمكن الفصل بينهما هذا الفصل الخرساني من الأساس، بينما لا يزال البعض يحمل أوهام النخب بحكم أنه المحرك لكل شيء، فإن البعض الآخر يحمل - في الطرف الآخر - أوهام الفكر الشعبي التي لابد أنها منفصلة عن النخب، كأنهما خصمان لدودان من المستحيل أن يتصالحا، وهي نظرة quot;تحقرquot; من quot;الشعبيquot; وكأنه بالضرورة ndash; بحكم أنه نقيض النخبي ndash; لا يمكن أن يتعاطى مع فكر النخبة، أي كأنه لا يمكنه أن يقدم اهتمامات جادة بمصيره ومستقبله، ومثل هذه النظرة في حد ذاتها تدل على أن أصحابها سواء من هذه الضفة أو من الأخرى يحملون عقلية حدية لا تنظر إلى الأمور إلا بالأسود أو الأبيض، وهي أسطورة الأدلوجة التي تخيل لنا quot;الأفكارquot; كأنها مفاهيم أزلية تشكلت بصورة دوغمائية شكلاً ومضموناً.

إن الشعبي هنا هو ما يُستوحى من quot;الشعبquot; حتى لو كان في قالب نخبوي، ومن ثم فإن النخبوية هي طريقة في الخطاب، بينما الشعبية هي تمثيل هذا الخطاب في الواقع على مستوى الإرادة العامة (إن استعنا بمصطلح جان جاك روسو) التي تعبر عن المجتمع ككل، من هنا نفهم كيف أن بعض الآداب والفنون تعتبر quot;شعبيةquot;، رغم أن مبدعيها في الأساس هم من quot;النخبquot;... ربما أغاني الكفاح سواء التي تغنت بها أم كلثوم أو عبدالحليم حافظ هي ذاتها التي تغنى بها فنان quot;شعبيquot; جداً هو الشيخ إمام وشاعره أحمد فؤاد نجم، وكلها في واقع الأمر يمكن أن توصف بالنخبوية والشعبية بهذا المعنى، إذ هي - في المحصلة النهائية - تعبر عن صوت الشعب.

وصحيح أن هاتين الثورتين كانتا بلا رأس كما لحظ الكثيرون، وهو الأمر الذي أسقط صنم نظرية quot;الكرزما quot; وquot;البطلquot; وquot;الزعيمquot; التي عبرت عنها بعض الأطروحات (مثل توماس كارليل في الفضاء الغربي وعباس العقاد في الفضاء العربي). وهي نظرية كانت متأصلة في الثقافة العربي ndash; فكرة قائد الأمة وزعيمها الأوحد وخليفة المؤمنين المستفرد، إلا أنه لا يمكن أن نتطرف في تغييب دور quot;النخبquot;، وكأنها لم تساهم في تشكيل وعي الثورة لأنها فقط لم تشارك في تنظيمها وترتيبها، ولعل هذا الرأي المغالي في استئصال quot;دور النخبquot; متعلق بما يتصوره هؤلاء من دور أدلوجي طالما أثقل به عاتق quot;المثقفquot;، هذه الفكرة التي تأتت من الثورة البلشفية التي قادها مفكرون كبار بحجم لينين أو تروتسكي. فدور المثقف لا شك أنه مطلوب، ولكن ليس بالضرورة على أنه دور quot;الفاعل باليدquot; إن صح التعبير، ولكن على أنه فاعل بالقلم والفكر، وهذا دور للنخب لا نستطيع أن ننكره...!

إرادة الشعب لم تتمثل - كما قد يظن للوهلة الأولى - بزحفها كجحافل معارضة ومحتجة ولم تتمثل كذلك بالصدع بحريتها وكرامتها في وجه الطغيان بلا خوف أو وجل، ولكن أيضاً في تحطيم quot;صنمquot; طالما كان يقيد الإنسان العربي، أقصد بذلك تعليق فشلنا على شماعة الآخرين، إذ دوماً ما يحلو للبعض أن ينسبوا quot;أزماتناquot; وquot;كوارثناquot; إلى قوى خارجية، لن ترضى لنا بالنهوض والصعود، ولعل في هذا الأمر كثيراً من الصحة، فموقف الدور الغربي كان واضحاً ميله منذ البدء إلى الأنظمة واستقرارها لأنه يحقق مصالحها ويقيها شر الخوف من المجهول، إذ هو فكر سياسي quot;برجماتيquot; بكل ما توحي الكلمة، ولم تكن لمطالبهم إلى الإصلاح في الشرق الأوسط إلا مرمى كبح الثورة الشعبية، وبالتالي، يمكن أن تطول أعمار هذه الأنظمة الهرمة في المنطقة العربية، ولكن أن نربط إرادتنا برغباتهم (سواء كانت سلبية أو ايجابية) هو الخطأ بعينه، فللأمم أرادة خاصة بها، وهذا الإدارة قد لا تتضح - كما تفيد نظرية المؤرخ الانجليزي آرلوند توينبي في التحدي ndash; إلا في مواطن التحدي التي تشحذ الأنفس وتحمس القلوب.!

ومن الملاحظ أيضاً إن الانقلابات التي حدثت في تاريخ الأمة العربية كانت انقلابات مسلحة، فكان العنف لها سبيلاً، ولكن ثورتي تونس ومصر تبنتا منهج quot;اللاعنفquot; والاحتجاج المدني التي تشكلت أفكارها في حركة اللاعنف التي قادها الزعيم الهندي المهاتما غاندي وحركة النضال المدني لدى مارتن لوثر كنج المناضل الأمريكي المعروف، ولم يكن هذا عجزاً منهما للحصول على السلاح، إذ كان في سعتهما أن تفعل ذلك - على الأقل - في منتصف مسار ثورتيهما، بعد أن صرعا قوات الأمن المدججين بالسلاح، ولكن كان هذا إستراتيجية ملاصقة لثورتهما لا يمكن التفريط بها لأنها تعبر عن تطور في التفكير، لذا ظلتا على هذا العهد حتى في أحلك الأمور التي مرت بهما ndash; كما شهدنا ذلك في غارة quot;بلطجيةquot; الجمال على ثوار ميدان التحرير في مصر.

ورغم أن التيارات اليسارية لعبت دوراً هاماً في هاتين الثورتين سواء في الجانب التونسي أو المصري إلا أنها لم تساير الأطروحات الماركسية التقليدية التي تتبني منهج الثورة الحمراء المضرجة بالدماء، بل انتهج منهجاً ديمقراطياً، وهو يدل على تغير حتى في الأطروحات اليسارية لدى العالم العربي بخلاف ما كان في النصف الأول من القرن العشرين، هذا المنهج السلمي في الواقع قد أجبر العالم على احترام ثوار تونس ومصر، سيما من قبل العالم الغربي، فقد تحدثتا بلغة يفهمها النظام الدولي - أو على الأقل لا يجرؤ على أن يغض الطرف عنها، وهكذا نستطيع أن نقول - بغض النظر عن النوايا الحقيقة في دعم الحكومات الغربية لهاتين الثورتين التي لم يسبق لهما من مثيل في العالم العربي ndash; أن النظام الدولي لم يجد من بدّ إلا الاعتراف بهما، بل والإشادة - كما ورد في خطاب quot;أوباماquot; الذي تغني بشبيبة ثورة مصر، ولم يجد بأساً من أن يعترف بأن العالم كله بما في ذلك العالم الغربي بإمكانه أن يتعلم منها دروساً في الاخاء والإنسانية.

بل إن الخطاب النخبوي الذي ساد في العقل السياسي العربي منذ عصر التحرير الوطني والذي اعتاد أن يتحدث بلغة التخوين لكل ما يعارض مصالحه الخاصة وجد نفسه عاجزاً على أن يخترق هاتين الثورتين، وكل الدعوات التي حاولت أن تلطخ من نقاء وطنية الثوار بحجة أنها خيانة أو إرهابية أو متطرفة أو عميلة أصبحت مدعاة للتندر والسخرية أكثر من كونها أي شيء آخر.

وهاتان الثورتين يدلان أيضاً على أن العالم العربي تجاوز الأدلوجة القومية والإسلامية على حد سواء، تجاوز الأدلوجات الفكرية التي سادت في العالم العربي منذ عصر التحرير إلى عهد قريب، فلم تعد تبهره الشعارات الأدلوجية البراقة سواء في الخطاب القومي أو الإسلامي أو حتى اليساري، فهذه الأدلوجات قد انتعشت في ظل زخم اليأس والقنوط الذي أصاب العالم العربي بكافة أطياف شعبه.

لقد أسقطت هاتان الثورتين quot;صنمquot; أن الأمم العربية غير جاهزة في أن تعانق فكرة الديمقراطية، بحكم أنه متراخٍ عن زمن عصر الحداثة وفلسفتها. لقد استطاع البعض أن يتحايل على هذه الفرضية عندما شهد نجاح الثورة التونسية، فرد الأمر إلى أن سواد المجتمع التونسي متعلم، ولكن سرعان ما تهشمت هذه النظرية في شأن ثورة مصر، لأن جزءا كبيرا من المصريين يرتعون في الجهل والأمية. ولم تشب الثورة - حقيقة - في المركز وحسب، بل لقد شبت في الأطراف أيضاً، بل أنها في الحالة التونسية قد بدأت من الأطراف حتى بلغت المركز.

إن بعض الأصوات التي كانت ترى بأن الأمة العربية غير قمينة بعد بالديمقراطية تتذرع بحجة أن الأنظمة (أياً كانت) - بحكم أنها تنشأ في ظل سياق تاريخي وثقافي معين - لا يمكن أن تُبعث في سياق آخر، فالديمقراطية التي نشأت في السياق الغربي - من ثم - لا يمكن ndash; بموجب هذا الرأي - تطبيقها في السياق العربي، لأن الشروط التاريخية التي ولّدتها في أوربا هي غير تلك الشروط التاريخية في العالم العربي. غير أن ما نشهده في هاتين الثورتين يدحض هذا الرأي على أرض الواقع، إذ نجد فهماً وامكانية ضخمة لتقعيد الديمقراطية في الثقافة الشعبية لدى كلا الشعبين التونسي والمصري، وهو أمر قد يدعم القائلين بأن ثمة quot;قيماً كونيةquot; (الأصح أن تسمى قيماً تاريخية لأنها مرتبطة بالسياق التاريخي أكثر من الكلي)، أصبحت بالإمكان معانقتها اليوم أكثر من أي وقت مضى، بحكم ما نشهده من تقارب عولمي بين الأمم.

وارتكاز ثورة شباب تونس ومصر على وسيلة من وسائل العولمة (هي المواقع الاجتماعية في النت) قد يرجّح من صحة هذا الرأي، فلم تعد المجتمعات تعيش في جزر منعزلة، بل لقد أخذت تتفتح بعضها على الآخر، وغالباً ما تهفو الأمم إلى الثقافة التي تعبر عن العدل والحرية والإرادة العامة (المصلحة العامة)، وهذا ما جعل الديمقراطية حلماً للكثيرين في العالم العربي والإسلامي، وفي ظل كثافة التواصل الحضاري الذي وفرته وسائل العولمة والاتصال بالإمكان جعل هذا الحلم واقعاً على الأرض بواسطة تأثير التلاقح الثقافي والحضاري في عصر العولمة. ومرة أخرى تدور quot;الثورةquot; حول الحراك الاجتماعي والتاريخي الذي لا ينبغي أن نستعجب أن كان مدفوعاً - في بعض الأحيان - حتى بالأحلام quot;الصغيرةquot;، فما بالك بقوة الأفكار والرؤى التي لابد أن تجد لها منفذا في عقول الشعوب وquot;أحلامهاquot;.

الرياض

[email protected]