في تعليقه بلهجته المعهودة على قرار مجلس الأمن (مساء أمس) القاضي باللجوء إلى بعض الوسائل العسكرية ضد ليبيا (عمل استعماري مفضوح، كما يقول) أعلن القذافي في مقابلة له مع التلفزيون البرتغالي، بما أن العالم مجنون فمن حقنا أن نجن أيضاً، وquot;سنرى من سيكون أكثر جنوناًquot;. وهذا ما لايمكننا نحن إلاّ اعتباره على شيء من صلابة الحجة: quot;إذا جنّ العالم ضدنا، نحن سنجن أيضاً. نحن سنرد. سنجعل حياتهم جحيماً لأنهم يجعلون حياتنا جحيماً. وهم لن ينعموا بالسلامquot;. هكذا يدعونا القذافي (المجنون أصلاً) بحجج متينة تتعلق بجنون اللعبة الدولية، ومنها لعبته، لأن ننظر بمعنى قرار مجلس الأمن من ناحية أخلاق العالم ومصلحة الشعب الليبي والشعوب العربية.
هذا ما علينا التركيز عليه، وبنفحة متشائمة إزاء هذا القرار الذي بررته الجامعة العربية الغائبة عن وعي كرامتها ومصلحة شعوبها، وحثت عليه بريطانيا وفرنسا اللتان جرّتا خلفهما الولايات المتحدة الأكثر تحفظاً منهما بلا شك، وبقية الغرب. علينا أن نرى الشبح الذي خيم على المغامرة العراقية التي أقدم عليها بوش وبلير في العام 2002-2003. ففي السابع عشر من آذار 2011 نلاحظ نفس الشبح مخيماً على أروقة الأمم المتحدة وكواليس مجلس الأمن.
من غزو العراق إلى غزو ليبيا
في الأيام العشرة الماضية منذ أعلن دايفيد كاميرون في مجلس العموم البريطاني دعوته إلى تحالف عسكري بوجه ليبيا وإقامة منطقة حظر جوي كدنا نظن أن توني بلير هو الذي يحكم في بريطانيا. لقد شهدنا نفس الكلام المنمق ونفس الزعم بالقيم الأخلاقية الرفيعة والنزعة الإنسانية المطلقة والدعوة إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان. والفرق الوحيد بين كلام كاميرون وبلير في دعوتهما إلى اللجوء إلى التدخل العسكري هو استبدال أكراد وشيعة العراق بالقوات المعادية للقذافي. إنها نفس رقصة الموت المجنون التي تحرك القادة البريطانيين والفرنسيين، وتلقى مباركة الجامعة العربية، وتلتحق بها مترددة الولايات المتحدة.
لا شك أن قادة الولايات المتحدة هم الأكثر تردداً في الأمر، فموضوع العراق ما زال فاعلاً فيهم، ناهيك عن الوضع في أفغانستان، حيث لا تعرف قواتهم العسكرية كيفية الخروج من هناك بأقل المضار. ومع ذلك التحقت الولايات المتحدة بالدعوة البريطانية الفرنسية، على الرغم من كل تصريحات وزير الدفاع روبيرت غيتس المتكررة والمعارضة للتدخل العسكري في ليبيا.
لقد اختارت الولايات المتحدة منذ اندلاع الانتفاضات العربية طريق تتبع الأحداث بدل قيادتها والتحكم بها. وهذا ما كان عليه موقفها من الأزمة الليبية. وليس من الصدف أن وزير الدفاع روبيرت غيتس، وهو الوحيد الذي استَبْقته إدارة أوباما من زمن بوش كخلف لدونالد رامسفيلد، جاء موقفه من الدعوة إلى فرض حظر الطيران في ليبيا بإعلانه أن هذه الدعوة هي بمثابة إعلان حرب قد يؤدي إلى التورط في حرب أهلية.
لماذا التردد الأميركي؟
لا شك بأن الفوضى العارمة التي أعقبت احتلال العراق ما تزال تلقي بظلالها على الموقف الأميركي. هذا بالإضافة إلى حذر الولايات المتحدة من مجموعات المعارضة الليبية التي طالبت بالدعم الأميركي. والحرب العراقية أنهكت القوات العسكرية الأميركية علاوة على الكلفة المالية الباهظة لهذه الحرب. وما تزال للولايات المتحدة هناك قوات تقارب الخمسين ألفاً. كما أن قوات الأطلسي الموجودة في أفغانستان هي بغالبيتها من الأميركيين والبريطانيين. وعليه تتحاشى الولايات المتحدة احتمال تورطها في خوض الحرب على جبهة جديدة، الجبهة الليبية، حيث ليس من السهل عليها توفير المستلزمات البشرية والمالية للجبهة الجديدة.
لقد دمر التدخل الأميركي في العراق، وقبله في أفغانستان، الثقة الوطنية الأميركية في قدرتها المطلقة. وما تم الإعلان عنه سابقاً كتدخل مبرر وبسيط في العراق تبين أنه لم يكن كذلك أبداً. وعليه فالضغط على الولايات المتحدة للتدخل مجدداً في حملة عسكرية يخلق لديها تردداً وإرباكاً خصوصاً وأن مسار الانتفاضات العربية فاجأ العالم كله، وخصوصاً الولايات المتحدة بالذات.
مكيالان في التعامل مع الانتفاضات العربية
ومن جهة أخرى من السهل جداً تبرير هذا التدخل ضد القذافي بالنظر إلى الحالة الليبية بمفردها، ولكن هذه الحالة هي مجرد حلقة في كل أوسع بكثير ويطال مجمل العالم العربي والإفريقي. ومن هذا المنظار، وهو المنظار الوحيد المقبول، فالتدخل العسكري في ليبيا يغامر في التباسات وتناقضات كبيرة. فكم جاء الموقف الغربي مختلفاً ومناقضاً لموقفه من التدخل العسكري السعودي في البحرين لسحق المعارضة البحرينية السلمية. فلا أحد في الغرب يفكر مجرد تفكير في مواجهة السعودية، بل على العكس فقد لاقى هذا التدخل تعاطف وتبرير الغرب. يتحالف الغرب لمحاصرة القذافي وفرض حظر جوي على ليبيا كمقدمة للقضاء عليه، وذلك كرد على مواجهته المسلحة للمعارضة الليبية، بينما نفس هذا الغرب يبرر قيام quot;درع الخليجquot; والسعودية في غزوها العسكري للبحرين لسحق المعارضة بكل خشونة.
ثمة الكثير من رجال السياسة الأوروبيين والأميركيين من الصقور والمحافظين الجدد والكثير من وسائل الإعلام كانوا يشددون على فشل الغرب في التدخل العسكري لدعم المعارضة الليبية. فجريدة التايمز ليوم الجمعة اتهمت أوباما لتردده في خلق quot;فجر الأملquot; بفرض منطقة الحظر الجوي في ليبيا.
إن غزو السعودية للبحرين وسعيها لسحق الانفاضة البحرينية السلمية يكشف أن ليبيا ليست المكان الوحيد المحتاج إلى quot;فجر الأملquot;، وليست المكان الوحيد لخنق الأمل بالتحرر من الاستبداد والظلم والطغيان. فأقرب حليف للغرب، السعودية، يحرِّم وجود الأحزاب السياسية في بلده، ويعتقل أكثر من ثمانية آلاف سجين سياسي سعودي، يرسل جنوده لدعم السلطة المستبدة في البحرين وليسحق المعارضة الديمقراطية والسلمية بامتياز.
وهل ثمة حاجة إلى ذكر الموقف الأميركي مما يجري في اليمن حيث يحاول الرئيس اليمني كل يوم سحق المعارضة اليمنية السلمية بالحديد والنار، بينما ينصح السفير الأميركي في اليمن قوى المعارضة بالتوقف عن الحراك ولو كان سلمياً!
وحول نتائج ومفاعيل المغامرة العسكرية والأخلاقية الغربية التي ستبدأ قريباً ثمة حجج وسوابق تدفع إلى تبني توقع أردوغان، رئيس الوزراء التركي، باعتباره هذه المبادرة العسكرية quot;غير مجدية تماماًquot; وquot;ستعقد الأزمةquot;.
أما الجامعة العربية؟!
تتسول الجامعة العربية تدخل حلف الأطلسي وكل قوى الاستعمار الغربي التدخل لسحق القذافي، وذلك تحت شعارات حماية المدنيين والديمقراطية وسوى ذلك من تعلة. بينما يقوم الكثير من دول الجامعة العربية بسحق شعبه، أو يستعجل لنجدة النظام الذي تهدده انتفاضات سلمية مطالبة بأبسط حقوق الإنسان. ولم تطلب هذه الجامعة في تاريخها الحديث لمرة واحدة من هذا الغرب ولو موقفاً بسيطاً بوجه الكيان الصهيوني. دمر الصهاينة لبنان مرات ومرات، ودمروا فلسطين مرات ومرات، وهم يستمرون في قضم الأرض الفلسطينية، ويعملون على تهديم المقدسات الإسلامية (بما فيها مسرى النبي) والمسيحية في فلسطين. ومع ذلك لم تطلب الجامعة العربية من حلف الأطلسي فرض حظر جوي على فلسطين، لإعاقة الجيش الصهيوني من إبادة الفلسطينيين. فما توصيف موقفهم من طلب الحظر الجوي على ليبيا؟
القذافي والمعارضة الليبية؟
لا شك ان العقيد القذافي من أعتى حكام العرب. وهو ديكتاتور عصري فاق بامتياز شتى أشكال الديكتاتورية وجنونها المطلق. ولكن لا شك ايضاً أن ما كان يربط هذا الديكتاتور بالغرب من الروابط الكثير والكثير. وكلها روابط مشبعة بالفساد العالمي وعلى حساب حقوق الإنسان والديمقراطية وكل ما يتبجح به الغرب من حجج واهية يستعملها لتبرير سياساته الاستعمارية ليس إلاّ.
ولا شك أن المعارضة الليبية مظلومة في ما تتعرض له من تقتيل وتشريد وتدمير. ولكن انزلاق المعارضة الليبية إلى شكل الكفاح المسلح غير المتكافئ (ولنظام القذافي بالطبع دور أساسي في هذا الانزلاق) كان غلطاً جسيماً جعلها تمد اليد إلى كل حلفاء القذافي في الغرب. وبالتالي هي تطلب العون اليوم من حلف الأطلسي الذي يسعى خلف مصالحه فقط، ولا يهمه ما سيجنيه الشعب الليبي والمعارضة الليبية بالذات. ولعل هذه المعارضة لم تتعلم من التجربة العراقية. وإذا كانت الجامعة العربية قد شجعت هذه المعارضة على القبول بالعون الغربي، فما ذلك إلاّ لأنها لم تتعلم الدرس مما جرى في العراق عندما طلبت هذه القوى العربية من الولايات المتحدة التخلص من الرئيس العراقي صدام حسين. وكانت النتيجة أن الجميع استفاد من القضاء على نظام صدام حسين ما عدا الشعب العراقي والمجموعة العربية. ونحن اليوم سنرى أن الجميع سيستفيد من محاولة القضاء على نظام القذافي ما عدا الشعب الليبي والمجموعة العربية.
التعليقات