في المقدمة، نحن الكتاب السياسيين العراقيين المغتربين الذين يضعون أيديهم في الماء البارد، كما تفضل أحد القراء بشتمنا ذات مرة، نعرب عن تقديرنا البالغ لظروف المتظاهرين العراقيين الشرفاء، وتفهمنا الأكيد لحساسية أوضاعهم في مواجهة تحفز حكومي جاهز للتنكيل بهم، بأكثر مما فعل القذافي بشعبه، إذا تجاوزت التظاهرات حدودها التي يمكن أن يتحملها السيد نوري المالكي وأجهزته الأمنية التي أثبتت أنها لا تقل همجية ودموية عن أجهزة الراحل أبي عدي، ولا عن كتائب القذافي عند الضرورة.

ولكن المطالبة بإصلاح النظام بأيدي قادة النظام أنفسهم أمر يشبه النفخ في قربة مثقوبة. (وللحرية الحمراء بابٌ بكل يد ٍمضرجة يدقّ). فالنظام تعدى مرحلة الإصلاح والترقيع، ولم يعد هناك أي أمل في إمكانية حدوث معجزة حيث يتكرم المالكي وشركاؤه في العملية السياسية فيقلبون ما يسمونه (العملية السياسية) رأسا على عقب، ويطهرون (نظامهم) من الفاسدين المُفسدين، ويحققون مطالب المتظاهرين جميعَها، وفي مقدمتها توفير الخدمات وتشغيل العاطلين، في مئة يوم، ويعود الوطن بعد ذلك ديمقراطيا وبلد َ مؤسسات وسلطةِ قانون وقضاء ٍحر مستقل ونزيه.

بدون لف أو دوران، إن العملية السياسية التي يقدسها المالكي ورفاقه، سواء كانوا في السلطة أو في معارضتها، والتي لا يتساهلون في المطالبة بإسقاطها، عملية ٌ فاشلة بامتياز. بل هي أصل المشكلة، بل هي المشكلة الحقيقية الوحيدة في حياة العراقيين اليوم، وفي حياة أجيالهم القادمة كذلك. فهي صانعة جميع المصائب والمآسي والمآتم والحرائق التي ذاق مرارتها كل شارع في كل مدينة وقرية من هذا الوطن السليب.

تذكروا أيها المتظاهرون الشجعان. حين دخل الجيش الأمريكي مدن العراق وقراه، وبالأخص محافظات الوسط السني، قوبل بالترحاب الصامت في بعضها، وبالزهور في بعضها الآخر، واختفت عصابات النظام، لا خوفا من الأمريكان بل هربا من الجماهير الناقمة على ظلم الديكتاتور وأقاربه وأيتام مخابراته وأجهزته القمعية الأخرى. فلم تشهد مدن المنطقة وقراها، ومنها تكريت، وحتى العوجا نفسُها بالتحديد، وسامراء وبيجي والشرقاط والموصل والرمادي، أية حوادث تذكر. وعاش المواطنون أجواء فرح حقيقي بالحرية التي أشرقت عليهم أخيرا بعد غياب طويل.

ولم يبدأ عصر المفخخات والاغتيالات إلا بعد تشكيل مجلس الحكم ووزارته الأولى، وفق نظام المحاصصة سيء الصيت، وهيمنة النهج الطائفي العنصري الثأري التهميشي الانتهازي للمجموعة الرئيسية الحاكمة من أحزاب الدين السياسي ومليشياتها، أو من أحزاب المعارضة العراقية الأخرى المتشاركة معها.

تلك التشكيلة المنحازة جيشت ضد العهد الجديد آلافا من العاطلين الحاقدين الذين همشهم دهاقنة الديكتاتورية الجديدة، وأغلبُهم كانوا عسكريين مهنيين، فرحين، كغيرهم من العراقيين، بسقوط النظام، وكارهين لديكتاتورية صدام وأسرته ومخابراته وفدائييه. دفع بهم رفاقنا الطائفيون الحاقدون إلى أحضان البعث والقاعدة دفعا، طلبا لانتقام ولإثبات الوجود أو الارتزاق، وشجعوهم على استيراد الإرهابيين من دول عديدة أخرى.

وبسبب ضعف الدولة الفتية، وعمق الانقسام الشعبي الطائفي والقومي والمناطقي تسابقت أنظمة حكم ٍ مجاورة إلى اللعب الحر بالعراق والعراقيين لتعميق الانقسام في صفوفهم، فمدت هذا الفريق، وخصمَه أيضا، بالسلاح والمال والمتطوعين، لحسابات حاقدة، منها تركيع أمريكا وإغراقها في الوحل العراقي، ومنها أيضا منعُ الدولة العراقية من العودة إلى عافيتها التي تهدد مصالح هذه الأنظمة الشقيقة والصديقة في الصميم.

وطيلة ثماني سنوات لم يشهد العراقيون يومَ هناء وراحة. من خراب إلى خراب. ومن اقتتال إلى اقتتال. وحتى حين وضعت حروبهمُ الطائفية اللعينة أوزارها، وانخرط الأعداء الألداء في حكومات الشراكة الوطنية لم يتوقف القتل بالمفخخات، ولا السرقة ولا الفساد ولا تزوير الشهادات.

أما ما يسميه أصحاب الشراكة الوطنية بـ (الديمقراطية الوليدة في العراق)، فليست سوى حالة فوضى إعلامية وحزبية ومليشياتية وتهريبية وتزويرية، وكذبة كبيرة دفع العراقيون، كلـُّـهم، شيعة ًوسنة، عربا وأكرادا، مسلمين ومسيحيين، ثمنها الباهض، وما زالوا يدفعونه، وسيظلون، إلى أن تسقط هذه العملية الفاشلة كلها، بدستورها وقوانينها ورئاسة جمهوريتها ورئاسة وزرائها وبرلمانها.

وحين يتذرع السيد نوري المالكي بالانتخابات لإثبات شرعيته، وتبرير قيام أجهزته الأمنية بقتل المتظاهرين وسجنهم وتعذيبهم، فهو ينسى أنه لم يحترم نتائج تلك الانتخابات، رغم أن للشعب العراقي عليها ألفَ سؤال وسؤال. مع أن الديمقراطية لا تعني فقط انتخابات، خصوصا إذا كانت مرتبة ومبوبة ومقننة النتائج سلفا، بل هي ثقافة شاملة، أول قواعدها القبولُ بالرأي الآخر، واحترامُ التعددية، والنزاهة ُ والشفافية في إدارة الشأن العام.

لكن قتلَ مواطن، أي مواطن، لأنه يخالف رأي الحاكم، جريمة ٌ بحق الديمقراطية لا تختلف عن جرائم القذافي وسيف الإسلام بحق الشعب الليبي الشجاع.
هذه العملية السياسية الفاشلة حرمت العراق من الأمن والأمان، وأشاعت الفساد، ونشرت الجريمة، وأنتجت الإرهاب، وأنعشت قتلة القاعدة والبعث والمليشيات الشيعية المتطرفة، وقصّرت في أبسط واجباتها تجاه المواطن، ومنها توفير الحد الأدنى من الخدمات، وشجعت على سرقة المال العام، وتسترت على اللصوص والمرتشين والمختلسين، وفرطت بالسيادة الوطنية حين ارتضت بالتبعية لدول مجاورة، وحين استعان قادتها، في صراعهم الداخلي المصلحي، بدول وقوى من الخارج، وسمحت لأميين وجهلة ومزوري شهادات بأن يتقلدوا أعلى مراكز القيادة، فيكونوا وزراء وسفراء، وسخرت الدولة، بأموالها وثرواتها وجيشها وقوى أمنها وإعلامها ونفطها، لخدمة مصالح بعض قادتها، أو لمحاربة مخالفيه في رأي أو عقيدة.

ليس من حل لإخراج الوطن من حالة العجز والشلل هذه إلا بتشكيل حكومة تكنوقراط انتقالية مستقلة عن جميع الأحزاب الحالية وتنظيماتها ومليشياتها، تتولى تنظيم انتخاب مجلس تأسيسي يقوم بوضع دستور جديد يتيح لكل العراقيين، من شمال الوطن إلى جنوبه، أن يختاروا رئيسَ جمهوريتهم، ورئيسَ وزرائهم، ونوابـهم، بعيدا عن قواعد اللعبة التي فصلها المتحاصصون على مقاساتهم، ليمنعوا غيرهم من دخولها.

وهذا الحلم العصي لا يتحقق بالتماس ٍ يقدمه الشعب العراقي، بعضُه أو كله، إلى السيد نوري المالكي وحكومته وبرلمانه العتيد، وكأننا نطلب من القذافي وسيف الإسلام التكرم بترك السلطة عن طيب خاطر، والدخول في سين وجيم في المحاكم، على ما اقترفاه من موبقات، كما يحدث اليوم لحسني مبارك وعلاء وجمال وسوزان.

إن هذا لا يتحقق إلا بثورية حقيقية جادة وشجاعة لا ترضى بأنصاف الحلول، بل تطلب العنب كلَّه والسلة أيضا، أو لا شيء. فمن كان على قدر هذا العزم، عارفا، سلفا، فداحة ثمن الخلاص النهائي فليتقدم، وعلى وقع خطاه ستهب ملايين العراقيين، في الداخل والخارج، والعالم الحر الديمقراطي كله، لنجدته والوقوف معه، تماما كثورة الشعب الليبي البطل هذه الأيام.

لقد أعطى شعبنا فرسان َ المحاصصة كثيرا جدا، بل أكثر من اللازم. فقد سكت عن الفقر، وعن شحة الدواء، ووساخة مياه الشرب، وظلام البيوت والشوارع والميادين، وقلة الأمانة، وفساد الضمير، وتحملَ المفخخات وإرهابَ القاعدة والبعثيين ومليشيات بدر والصدريين.
صبر عليهم ثماني سنوات، بأيامها ولياليها، وهم يتقاتلون، لا على أسلوب ٍلخدمة المواطن، ولا على طريقة لتحقيق عدالة، بل على مناصب ومكاسب ورواتب. حتى فاض به الكيل، وحان يوم الحساب.

ظل العراقيون بلا خدمات، ولا أمن، ولا وظائف ولا عدالة، طيلة ثماني سنوات، فأين كان المالكي وفطنته وحكمته وعدالته كل هذه السنين؟ وإذا عجز النظام الجديد ثماني سنوات عن إصلاح الخلل فكيف يريد أن يرفع الزير من البير في مئة يوم؟

أما أؤلئك الذين لم يستحوا من إصدار بيانات أو تصريحات منافقة تتملق المتظاهرين وتؤيد هتافاتهم، وتعترض على قتلهم من قبل المالكي، فهم، جميعا، شركاء متساوون في تمزيق أرض الوطن وشعبه، وأباحة حدوده، وتشتيت شعبه الصبور في منافي الداخل، ومنافي الخارج، بالملايين.
فأين كان عمار الحكيم وإبراهيم الجعفري وأياد علاوي ومقتدى الصدر وغيرُهم، قبل انتفاضة الجماهير؟

الخراب تأسس في العراق (الجديد) من أيام وزارة أياد علاوي التي شهدت عشرات الملفات المتعلقة بالفساد، مثل الدفاع ووزيرها حازم الشعلان، والمواصلات ووزيرها لؤي حاتم سلطان العرس، والكهرباء ووزيرها أيهم السامرائي. والله وحده يعلم بما كان سيستجد من ملفات وملفات لو طال به العهد رئيسا للحكومة، كما طال بغريمه نوري المالكي.
فكلهم مسؤول. نعم. كلهم. كل واحد منهم شارك بنصيب في صنع هذا الخراب، وشارك في نشره وتعميق خيوطه في مفاصل الدولة، لا فرق بين من هو اليوم داخل حكومة الشراكة الوطنية العتيدة وديمقراطية الموائد المستديرة، أو كان فيها يومَ سقوط الصنم الكبير، أو حتى قبل ذلك بكثير.