كمبدأ لا أعتراض لي على خروج المواطنين الى الشوارع للمطالبة بحقوقهم، بل أؤيد ذلك الى حد النخاع،لأني جزء من هذا الشارع أشعر بنبضه وبحاجات المواطن المقموع الذي كرست شطرا كبيرا من عمري أدافع عنه بقلمي..
نعم للتظاهر، وألفين نعم لمطالب الناس، ومليون تأييد مني لهتافات الناس بسقوط الدكتاتوريات والفاسدين، ولكن ما نراه اليوم في شوارع المدن العراقية يثير الحيرة في الحقيقة،خصوصا عندما نسمع الهتافات تتصاعد من المتظاهرين أو نقرأ لافتاتهم وهي تطالب بإسقاط الحكومة، أوما يرافق تلك التظاهرات الشعبية من مظاهر العنف والهجمات ضد مراكز الدولة التي لا أشك للحظة بأن أي مواطن عاقل وحريص على وطنه لن يصل به الغضب مبلغا يدفعه ليحرق مركزا للشرطة أو يهجم على رجل أمن لأنه يعرف قبل غيره بأن رجل الأمن أو الشرطة إنما هما الضمان الذي حقق ويحقق له الأمن والإستقرار في البلد، وهما وحدهما من يواجهان مخططات الأعداء وويصدون بصدورهم هجمات الإرهابيين الذين ينتشرون في أرجاء العراق.
والحيرة تأتي من بعض المطالب غير المشروعة التي تطرح في تلك التظاهرات التي يركبها كل ساعة أو كل لحظة جهة سياسية أو حزب سياسي أو شخص ناقم من أجل مزايدة سياسية أو لتحقيق غرض شخصي او حزبي ضيق بعيد كل البعد عن مصلحة المواطن أو البلد.
من هذه الشعارات أرصد تلك التي تطالب بحل مجالس المحافظات أو البرلمان أو إسقاط الحكومة وهي بمجملها مؤسسات شرعية منتخبة، ولها مدة محددة للولاية تنتهي بنصوص واضحة في الدستور، وبإعتقادي لا يجوز لمن لا يرضى عن حكومة أو مجلس محافظة لغرض في نفسه أن يخرج بضعة مئات من أنصاره ويطالب بالإطاحة بالحكومة أو بحل البرلمان أو إلغاء مجالس إدارة محافظة وهي بمجملها مؤسسات شرعية منتخبة مباشرة من الشعب، لأن هذا التصرف مخالف تماما لمفهوم الديمقراطية الذي يعتمد على صناديق الإنتخابات.
لم تمض سوى سنتان على إجراء إنتخابات مجالس المحافظات، وبقيت لها سنتان فقط، فما المبرر الشرعي الذي يدعو ببضعة مئات يتجمعون في الشوارع للمطالبة بإسقاط الحكومة أو حل البرلمان والدعوة الى إجراء إنتخابات مبكرة في وقت أن هذه المجالس منتخبة ومفوضة من غالبية الشعب، ثم ما دامت ولاية هذه المجالس تنتهي بإنتهاء المدة الدستورية المحددة لها فما الداعي الى إستعجال إسقاطه لا لشيء إلا لمجرد ركوب موجة التغيير التي تعم البلدان العربية هذه الأيام.
المتظاهرون من حقهم الخروج الى الشوارع للمطالبة بتحسين أحوالهم المعيشية والدعوة لمكافحة الفساد المالي والإداري، ولكن رفع سقف المطالب الى حد المطالبة بحل وإلغاء مجالس منتخبة يقوض مفهوم الديمقراطية القائم على أساس حكم الأغلبية البرلمانية والتي نحاول تثبيته في العراق الجديد.
ولا أشك مطلقا بأن هذه الشعارات والمطالب ليست شعبية بقدر ما هي تأتي من أجندات معادية للشعب، أو من قوى وأحزاب لا تجد لنفسها موقعا على الخريطة السياسية بالعراق، والمثير للغرابة أن معظم هذه المطالب تأتي من أحزاب فشلت في تحقيق أغلبية برلمانية تتيح لها الوصول الى السلطة، وهذا بحد ذاته يعتبر دليلا على عدم شرعية تلك المطالب، وأن الأمر لا يعدو سوى ركوب الموجة وإستخدام هذا الاسلوب الملتوي للإنتقام من السلطة المنتخبة.أي أن معظم مشاريع المعارضة في هذه التظاهرات والتي تتغلف في كثير من الأحيان بشعارات براقة مثل مواجهة الفساد ليست سوى مشاريع إنتقامية تندرج في إطار الصراع على السلطة، وللأسف يدفع المواطن المخدوع والمغلوب على أمره ثمن هذه المواجهة السخيفة التي تتعارض مع الشرعية والديمقراطية من دون أن يدري غاياتها وعواقبها.
لو كانت هناك حكومة دكتاتورية جاثمة على صدور الناس، لكان من حقنا جميعا أن نسعى للتغيير حتى لو قدمنا من أجلها تضحيات بدمائنا في هذا السبيل، لأن النضال من أجل إسقاط الدكتاتورية هو نضال شريف ومشروع يهون معه تقديم التضحيات، ولكن أن يستغل البعض غضب الجماهير لتصفية حسابات سياسية عند ذلك يجب على الشعب الخارج الى الشوارع أن يقف وقفة مراجعة لكي لا يتسبب بوأد تجربة ديمقراطية وليدة في العراق تحقيقا لرغبة هذا الحزب أو تلك الطائفة.
لنفرض أن رئيسا منتخبا حصل على نسبة 75% من أصوات الشعب، وحزب حصل على نسبة 80% من مقاعد البرلمان، كيف يجوز للنسب المتبقية أن تخرج الى الشوارع وتطالب بتنحي هذا الرئيس أو إستقالة حكومة منتخبة تسندها شرعية دستورية؟. فما نفع وجود الدستور أصلا في مثل هذه الحالة، وما جدوى إجراء الإنتخابات الدورية إذن؟.
الإنتخابات هي ركن أساس في أي عملية ديمقراطية، وهذا مفهوم ثابت في دساتير جميع الأنظمة الديمقراطية بالعالم. في كثير من المرات نرى بأن بعض الإنتخابات الرئاسية أو البرلمانية تنتهي بفارق بسيط بين المرشحين، وقد حصل ذلك مرارا وفي معظم بلدان العالم،ولكننا لم نر أحدا يخرج للتظاهر ضد فوز هذا الرئيس أو إستعجال إسقاطه،بل أن احزاب تلك الدول الراقية تحترم إرادة الناخبين وتستسلم لنتائج الانتخابات وتنتظر الى حين أن يكمل الرئيس المنتخب مدة رئاسته الى الحد الذي يسمح به الدستور ثم تجرى الإنتخابات مرة أخرى ليختار الشعب غيره.
ان المعادلة بين الحزب الفائز بالإنتخابات بنسب كبيرة وبين حزب آخر حصل على نسبة صغيرة ستكون معادلة ظالمة وضد الديمقراطية، خاصة عندما يتحول هذا الحزب الفاشل في الإنتخابات الى أحد دعاة سقوط الحكومة، لأن هذا الأمر يخالف الديمقرطية والدستور.
وهناك دعوات أسمع بها في بعض الأحيان،خاصة تلك التي تدعو الى إسقاط حكومة منتخبة وتشكيل حكومة تكنوقراط بديلة عنها بشرط أن تتألف من شخصيات مستقلة، ومثل هذه الدعوات أعتبرها بمثابة كلمة حق يراد بها الباطل، لأن الأساس في تشكل الحكومات هو الإنتخاب، والإنتخابات البرلمانية تشارك فيها عادة الأحزاب التي تطرح كل منها برامجها على الناخبين، وعلى أساس هذه البرامج يصوت الشعب لصالح هذا الحزب أو ذاك، بمعنى أن الشعب يصوت لحزب معين ليمثله في السلطة للفترة التي يحددها الدستور، فكيف يجوز والحالة هذه أن تسقط هذه الحكومة التي حظي برنامجها الإنتخابي بتفويض من الشعب أو أكثريته وتأتي حكومة أخرى لم يخض أعضائها أساسا أية إنتخابات، ولم يحصل أعضائها على ثقة الناخب، هذه الحكومة ستكون والحالة هذه غير شرعية لأنها غير مفوضة من الشعب على عكس حكومة الحزب أو الأحزاب التي صوت لها الشعب في الإنتخابات.
إن ما يجري في بعض مناطق العراق من مظاهرات إحتجاجية هي كما قلت ستكون مقبولة بل ومطلوبة إذا كانت تهدف الى تقويم أداء الحكومة أو البرلمان، ولكنها تكون متعارضة تماما مع أبسط المفاهيم الديمقراطية إذا أستخدمت من بعض قوى المعارضة كمشاريع إنتقام أو لركوب موجة التغيير الحالية التي تعم المنطقة، وبناء عليه المطلوب من المواطن أن يعي حقيقة مواقف وأهداف تلك القوى قبل أن يتسبب بقتل ديمقراطية قدمنا من أجلها دماء غزيرة وتضحيات جسيمة.
التعليقات