منذ ان تم اجراء الانتخابات والاستفتاءات الشعبية، لكي تتحول السلطة الى امر شرعي وفقا لتوصيات هنري كيسنجر، بات العراق يفتقر لمقومات الثورة والانتفاضة، حسب تصريحات رئيس مجلس النواب أسامة النجيفي في مؤتمره الصحفي الذي عقده في النجف، على الرغم من وجود الاعتقالات ونقص الخدمات ومفردات البطاقة التموينية على حد قوله.
ويعزي النجيفي استحالة الثورة في العراق الى الطاقة الهائلة التي بات يتمتع بها المجتمع العراقي نتيجة الانتخابات والاستفتاءات التي جعلت العراق حسب تصور النجيفي في حالة تطور وانفتاح دائم.
ويشارك النجيفي في تصوراته كل اركان حكومة المالكي وانصارها الذين يقدمون صورة وردية عن العراق على الرغم من ان العراق قد عاد الى ما قبل الدولة الحديثة. وقد بنى هؤلاء استنتاجاتهم بان جماهير العراق قد حققت ثورتها وتخلصت من الاستبداد والطغيان، واصبحت حرة ومستقلة، لا تتلقى الاوامر الا من ذاتها، اما اميركا فهي صديقة، تقدم العون والمساعدة للعراق الديمقراطي الجديد..!
وهكذا يبدو ان الهدف الاساسي من الانتخابات والاستفتاءات هو لتاكيد شرعية الحكومة واسقاط شرعية المقاومة واستبعاد اي شكل من اشكال المعارضة لتغير النظام القائم بعد ان اصبحت الحكومة من خلال الانتخابات من حكومة يديرها الاحتلال الى حكومة تمثل ارادة الشعب ّكما يروجون لانفسهمquot;. وهذا الاقتراح مقدم من قبل بريمر في اجتماعه مع الرئيس بوش في البيت الابيض: quot;من المهم ان تقدم العملية السياسية الجديدة على انها فكرة العراقيين لا فكرتناquot;، كما جاء بمذكرات السفير بول بريمر (عام قضيته في العراق).
وهنا تكمن اهمية الانتخابات التي اصبحت تملك سيطرة على الفرد تتجاوز كل اشكال السيطرة التقليدية التي مارسها النظام السابق على افرادة. فسابقا كانت قوى السيطرة معروفة ومحددة بالحزب الاوحد الحاكم، وكان في وسع الشعب ان يدركها ويفضحها ويطالب بوضع حد لها، وهو ما تقوم به انتفاضة الشباب الدائرة حاليا في معظم البلدان العربية، ولكن بعد الانتخابات واختيار الشعب لحكومة تمثل ارادته، والتي تبدو انجازات عظيمة، اتخذت الهيمنة طابعا عقلانيا، يجرد من المعنى كل محاولة لمناوئة النظام القائم.
فهل من المعقول المطالبة بتغير نظام يعطي الحرية للمواطنين باختيار ممثليهم في البرلمان والحكومة؟ وهل يمكن المطالبة بتغيير نظام يثبت يوميا قدرته على تنمية النظام السياسي وتشكيل اللجان التحقيقية لمكافحة الجريمة والفساد واحالتهم الى المحاكم والاستماع الى مطاليب الشعب واحترام الدستور والرغبة في توفير الحياة الامنة لكل اعضاء المجتمع؟
ولكن هذا هو ظاهر الامور فقط. فالنظام السياسي والاقتصادي الجديد المصنوع من قبل الاحتلال هو برمته نظام غير عقلاني لانه (صُنع) ليس لتقديم الخدمات العامة البسيطة للمواطنيين، والتي تؤكدها معاناة الشعب المحروم من ابسط متطلبات الحياة، بل للمحافظة على النظام والامن بما يكفل صيانة وخدمة مصالح الاحتلال وحكومته الصنيعة وهو ليس لحماية امن المواطنين ولا لسيادة العراق وحفظ وحدة اراضيه المهددة بالانقسام والتجزئة وسرقة موارده.
وتكشف هذه (الحقيقة) الدراسة المنشورة عن مركز بيغن / السادات للدراسات الاستراتيجية، للمحل السياسي برادلي تاير، الذي يقول بان الاسباب العلنية التي جعلت الادارة الامريكية تطيح بالحكومة العراقية هي لاقامة دعائم الديمقراطية اما الاسباب الاخرى التي لم ترغب الادارة الامريكية بالتصريح عنها علانية بسبب تاثيرها على الشعب الامريكي وبلدان محددة مثل السعودية وإيران والمجتمع الدولي بشكل عام فهي ((ان سلطة الاحتلال الامريكية سوف تقيم قواعد عسكرية واستخباراتية على ارض العراق وعندما يتم انشاء هذه القواعد فان حكومة موالية لامريكا يعتبر امرا ضروريا للمحافظة على هذه المنشات وتقديم التسهيلات اللازمة لها.)) ويؤكد برادلي بان فائدة هذه القواعد، انها تقدم للولايات المتحدة تواجدا دائما في اعماق منطقة الشرق الاوسط، تستطيع من خلالها اظهار سلطتها ونفوذها.
وقد كشف ايضا البروفيسور الامريكي فرانسيس بويل أستاذ القانون الدولي والعلوم السياسية في جامعة إلينوي في شيكاغو بان ادارة بوش قامت بتزيف المجتمع العراقي وتضليله من خلال ايهامه بانها قد نقلت اليه السيادة! يقول البروفيسور بويل انه يموجب قوانين الحرب والفقرة 353 من الدليل الميداني للجيش الأمريكي المرقم 27-10 1956، لا يستطيع الاحتلال ان ينقل السيادة. وان الحكومة المؤقتة التي شكلها في العراق، تسمى وفق القانون الدولي، ودليل الجيش الامريكي حكومة تابعة أو حكومة دمية.
وحسب هذا التوصيف القانوني الدولي لحالة العراق المحتل، والمثبت في دليل الجيش الامريكي، فان العراق غير مؤهل لاجراء الانتخابات لان الحكومة المؤقتة التي عينها الاحتلال خاضعة لسلطته وهيمنته، وهي مشابهة لحكومة فيشي التي صنعها النازيون بعد احتلالهم لفرنسا. وان شرعية الحكومة ستاتي فقط بعد انسحاب قوات الاحتلال بشكل كامل من العراق وبعد اجراء انتخابات حرة ونزيهة غير خاضعة للهيمنة اجنبية.
وقد اشترت قوى الاحتلال الامبريالية حكومتها الدمية بفضل اموال العراق التي اخذن تغدقها عليها بلا حساب بينما يعيش الشعب على القمامة، وقد استخدمت قوى الاحتلال هذه الحكومة لتزييف وعي الجماهير وتضليلها يساعدها في ذلك الفتاوي التي اصدرها بعض رجال الدين وعلى راسهم السيد السيستاني، والتي ساهمت فتواهه في عدم دخول عرب العراق وخصوصا الشيعة منهم في مقاومة الاحتلال، حسب ما يقول الخبير الامريكي فريد زكريا في مقالته quot;فرصتنا الحقيقية الأخيرة quot; المنشورة في ( مجلة نيوزويك / 20 ابريل 2004 )
وفي مقالة اخرى تحت عنوان quot;حان الوقت لبعض الذكاء في العراق quot; ( نيوزويك 2 مارس 2004 ) يصف فريد زكريا السيد السيستاني بالذكاء لانه تجنب التحالف العلني مع قوات الاحتلال، أو مقابلة المسؤولين الأمريكان، لانه يدرك سوء صورة الولايات المتحدة في المجتمعات العربية والاسلامية، وما قامت به من رذائل في العراق لذلك، دعا الى العمل معها من خلال الأمم المتحدة حتى يتفادى الاحراج !
لقد كان للمرجعية الدينية دور اساسي في نجاح قوى الاحتلال بتحقيقا اهدافها السياسية والاقتصادية، وامتلاك السيطرة على العراق دون ان تتحمل اي مسؤولية على مسارها الكارثي في العراق.
وحول مسؤولية الاحتلال في جرائم الحرب والفساد المرتكبة في العراق يقول البروفيسور الامريكي فرانسيس بويل بانه بموجب قوانين الحرب، فإن ما يعرف باسم الحكومة المؤقتة للعراق ليست إلا quot;حكومة دمىquot;. ولكون الولايات المتحدة محتلة للعراق، فإنها حرة في تنصيب حكومة دمى إذا شاءت ذلك، ولكنها تبقى، وفقاً لقوانين الحرب، مسئولة بشكل كامل عن تصرف حكومة الدمى التابعة لها، وحسب ما جاء في الفقرة 366 من الدليل الميداني للجيش الأمريكي المرقم 27-10 (1956) التي تقول: quot;إن القيود الموضوعة على سلطة الحكومة المعتدية لا يمكن التملص منها بمنظومة تعتمد على استخدام حكومة دمى، مركزية كانت أم محلية، لتقوم بأعمال تعتبر غير قانونية إذا قام بها المحتل بشكل مباشر. إن الأعمال التي تتم تحت الإغراء أو الإكراه من قبل المحتل هي أعماله هو.quot;
وهذا يعني ان كل الانتهاكات الفاضحة الخطيرة والمتكررة طيلة السنوات الثمان الماضية المنافية لقوانين الحرب والقانون الانساني الدولي التي ارتكبتها الولايات المتحدة وبريطانيا في العراق وضد شعب العراق سواء من قبلهما او من قبل (الحكومة الدمية) مسؤولة عنها بشكل كامل وشخصي حكومتي الولايات المتحدة وبريطانيا بموجب القانون الجنائي الدولي.
ولهذا ليس غريبا كما يقول البرفسور بويل أن تقوم إدارة بوش الابن بعمل كل شيء ممكن لتخريب المحكمة الجنائية الدولية، وقد بررت رفضها لانشاء المحكمة بخشيتها من ان تصبح المحكمة quot; وسيلة فاعلةquot; ضد تصرفات جنودها الموجودين في مناطق كثيرة من العالم حسب ما ذهب اليه مندوبها وهي بذلك تتحسس الخطر على مصالحها الاستراتيجية سلفاquot;.
واسوة بالولايات المتحدة، لم تصادق حكومة الدمية في العراق على نظام المحكمة الجنائية الدولية، مبررة ذلك بان المحكمة تكيل بمكيالين، تجاه القضايا العربية والاسلامية وخصوصا في فلسطين وغزة!
ورغم الحقائق الدامغة اعلاه، استطاعت الولايات المتحدة وحكومتها الدمية، وبفضل تحمكهما بوسائل الاعلام ان تحصن نفسها عن مسؤولية الجرائم التي ارتكبت بحق العراقيين الابرياء من قتل على الهوية وتعذيب واغتصاب وتشريد وتهميش، وان ترمى مسؤولية هذه الجرائم على عاتق الارهابيين اعداء العراق الذين يجب سحقهم لحماية العملية الديمقراطية الوليدة!
وبواسطة التاكيد والتكرار لهذه التهم بواسائل الاعلام، يتم (اقناع) الجماهير الانتخابية بهذه التهم رغم انها خالية من اي دليل واستهلكت من كثرة الاستخدام ومع ذلك تحقق نجاحا مؤكدا باهرا!
والا كيف انتخبت الجماهير ثانية نفس الوجوه الذين لم يلتزموا بتطبيق وعودهم في انتخابات 2005 والمتهمين بجرائم دولية ومحلية وفساد موثقة بالادلة الدامغة؟؟ وكيف لا تطالب الجماهير المنتفضة حاليا بتغير النظام وتكتفي باصلاحه فقط؟؟ لقد جعلت الانتخابات العراق شعب بلا معارضة!!!
د. راقية القيسي
باحثة في جمعية الحقوقيين العراقيين ndash; لندن
[email protected]
التعليقات