الغالب بالله (أبو عبد الله محمد الثاني عشر) آخر ملوك الطوائف في الأندلس بكى وهو يلقي نظرته الأخيرة على غرناطة، فقالت له أمه (عائشة الحرة) laquo;إبك ِ مثلَ النساء ملكاَ مُضاعا......... لم تحافظ عليه مثلَ الرجالraquo;.
والشيء نفسُه ينبغي أن ُيقال لجميع الحكام الخاسرين وهم يغادرون قصورهم الإمبراطورية في طريقهم إلى المشانق أو إلى السجون أو المنافي، فيستبدلون عزَهم بذل، وأمنَهم بخوف، وغناهم بفقر، وقوتَهم بضعف ٍ وهوان.
حدث هذا لشاه إيران عام 1979، وحدث لصدام حسين في 2003، وحدث مؤخرا لزين العابدين بن علي وحسني مبارك، وسيحدث لمعمر القذافي، وربما لعلي عبد الله صالح وبشار الأسد وبو تفليقة وغيرهم، وسيظل يحدث على امتداد الزمن، مادام هناك ظالم ومظلوم، قاتل ومقتول، سارق ومسروق، وما دام في قصور الحكام جشعٌ وغباء وغرور وجنون.
وقليلون هم الحكام الذين ماتوا بهدوء، وشُيعتهم شعوبهم بعز، وبكتهم، وترحمت عليهم، وظلت تذكرهم بخير.
مناسبة هذا الكلام ما قيل عن منع حسني مبارك وأفراد أسرته من السفر، وإحالتهم إلى التحقيق بتهم الكسب غير المشروع. وقد يُحاكمون أيضا بجرائم أخرى عديدة ما زالت غير مكتشفة سوف يتطوع بالشكوى بها عليهم كثيرون من المصريين.
معمر القذافي وأولاده محاصرون اليوم في ثكنة ضيقة بطرابلس، تحيط بهم جموع المتظاهرين الناقمين الغاضبين، من الداخل، ومن الخارج مئات الملوك والرؤساء والأمراء والشيوخ. ولن يطول الزمن حتى يسقطوا مضرجين بدمائهم، أو مكبلين بالحديد، مُساقين إلى المشانق، أو مجرجرين إلى السجون التي بنوها بأيديهم الباغية.
يجيء الواحد من هؤلاء إلى سدة الحكم لطيفا طيبا كريما شريفا عفيفا مخلصا لشعبه بلا حدود. يدعو رعاياه، بحرارة وإلحاح، إلى تقويمه بحد السيف، إن هو زاغ، أو إذا سولت لأي ٍ من وزرائه نفسٌ أمارة بالسوء فارتشى أو أختلس أو ظلم، والعياذ بالله.
لكنه لا يلبث طويلا، حتى يفعلَ ما فعله عبد الملك بن مروان، ذلك الذي ظل طوال عمره زاهدا تقيا ورعا لا يغادر مسجده، ولا يتوقف عن تلاوة كتاب الله. لكنه، حين أبلغوه بالخلافة، أغلق القرآن الكريم وقال له، هذا آخرُ عهدنا بك.
ومعروف ما فعله عبد الملك بالمسلمين من قتل لأبرياء، وتعذيب لسجناء، وظلم لرعايا، واغتصاب لأموال، وانتهاك لحرمات. وحين سقطت دولة الأمويين أصر العباسيون على معاقبته، فأخرجوه من قبره، وجلدوه، وأحرقوا عظامه وذروا رمادها في الهواء.
ومما لا شك فيه أن أغلب الطغاة العرب المعاصرين، صدام حسين وزين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي وبشار الأسد وعلي عبد الله صالح وعمر البشير إنما يهتدون بهدي السلف الصالح، عبد الملك بن مروان وأبي العباس السفاح والحجاج بن يوسف الثقفي. لم يُنصَبْ أيٌ منهم حاكما تقديرا لسمعته الطيبة وخلقه القويم ونزاهته البينة وشرفه العظيم ووطنيته الثابتة وكفاءته وثقافته وخبرته وجدارته، بل جاؤوا، جميعا، إما بانقلابات عسكرية مدبرة تم إنجاحُها بسحر ساحر، أو بتوريث. ثم تسلطوا، بعد ذلك، على شعوبهم بانتخابات مزورة، أو بسلطة دين، أو طائفة، أو قوة سلاح.
لا يسمع أيٌ منهم صرخات الملايين من مواطنيه المطالبين برحيله. لكنه يسارع إلى النزول عن عرشه العظيم فقط حين تخرج أمريكا عن صمتها فتأمره بالرحيل، بعد أن تكون قد أدركت أن صلاحيته انتهت، وصار طردُه أمرا لازما إحقاقا للحق واحتراما (للعدالة) واعترافا بـحقوق الجماهير في الحرية والديمقراطية والعيش الكريم. هكذا تقول.
أليس من العجب العجاب أن أمريكا العظيمة، على امتداد كل هذه السنين، لم تستطع أن تعرف الديكتاتور على حقيقته، ولم تسمع شيئا عن ظلمه، ولم تقرأ شيئا عن جرائمه بحق الإنسانية والعدالة التي تبكي عليهما مر البكاء؟.
لكن المحللين المشاغبين، أمثالي، يزعمون أن أمريكا كانت تعرف وتحرف، وأنها سكتت عن الطغاة، وطنشت عن موبقاتهم لقناعتها بأننا لا نستحق حكاما أفضل، ولا نُساق إلا بالعصا، وأن استقرار المنطقة الحيوية، لمصالحها ومصالحنا ومصالح إسرائيل، لا يتحقق إلا بحكام مجانين كصدام حسين والقذافي وبشار وعلي عبد صالح والبشير. وأن الديمقراطية لا تصلح لنا ولا نصلح لها، وأن الحرية تفسد النفوس.
ولكن على قاعدة (رب ضارة نافعة) تحوَل عجزُ أمريكا وحلفائها العرب عن قهر حفنة من الإرهابيين الحفاة العراة الجهلة، بكل ما لديها ولديهم من جبروت وأموال وتكنولوجيا، إلى نعمة.
فقد دفع المأزقُ الأمريكي مع الإرهاب بإدارة أوباما إلى أن تستفيق على الحقيقة، فتكتشف أن تحقيق العدالة، واجتثاث الفساد، وإشباع الجياع، ورفع السياط عن ظهورالملايين، مناعة ناجعة وفاعلة وعاجلة وأكيدة ضد سرطان الإرهاب، وبالتالي ضمانة لأمن المنطقة، ولأمنها ومصالحها، كذلك.
وما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن، وما سيحدث في العراق والسودان والجزائر، يبشرنا بأن أمريكا غيرت قناعاتها السابقة، وأدركت، ولو متأخرا، أننا شعوب طيبة عاقلة عادلة ترفض العنف وتؤمن بالسلام. وأننا، كغيرنا، نستحق الحرية والخبز والكرامة، بجدارة، ولا نستحق أن يحكمنا طغاة جهلة وقتلة ومجانين.
بن علي فهم الرسالة، بسرعة، ونفذ الأوامر دون مماطلة. وحسني مبارك حاول أن يراوغ ويناور ويلعب في الوقت الضائع، دون جدوى. أما معمر القذافي ورفاقه الطغاة الآخرون الباقون فلم يستفيقوا من غفوتهم، بعد. ما زالوا يعيشون في أوهام القوة. وما زالوا أيضا يتاجرون بأكذوبة محاربة الإرهاب. بعبارة أخرى، إنهم لم يخرجوا بعدُ من ثقافة الزمن العتيق.
أما في العراق فقد صار واضحا لأمريكا أن ديمقراطيتها في مأزق، وهو خطير، بل هو أخطر على مصالحها من الأنظمة المكشوفة المفضوحة التي أمرتها بالرحيل.
فنظام المحاصصة، بممارساته التدميرية التهميشية الاجتثاثية، وفسادِه الكبير، وبانشغال رؤسائه ووزرائه وخبرائه ذوي الشهادات المزورة بالاقتتال على المكاسب، وحرمان الجماهير من أبسط حاجاتها، ومن أمنها واستقرارها، زاد قوة الإرهابيين قوة، وأعطاهم تربة صالحة لتجييش المتطوعين، وتعزيز قواعد المجاهدين الأشاوس، ومنحهم مزيدا من حرية القتل والتفجير في العراق، ومزيدا من القدرة على الإنطلاق إلى الدول المجاورة.
فبدل قذافي واحد لدينا في العراق عشرات، وبدل بن علي وزوجته عشرات، وبدل مبارك وسوزان وجمال وعلاء عشرات، كذلك.
ورغم كل وعود المالكي ووزرائه وخبرائه ومستشاريه بالتوبة عن الفساد، وبتشغيل العاطلين، وتوفير الخدمات في مئة يوم، فإن صلاحية نظام المحاصصة قد انتهت، وحان موعد رحيله، ولن تنفع كل محاولات ترقيعه وتلميعه وتقريعه.
جميع رؤسائنا ووزرائنا ديمقراطيون، طيبون، مسالمون، كرماء، متساهلون، لن يقتلوا متظاهرا يطالب، فقط، بالماء والكهرباء. ولكنهم لن يتورعوا أبدا عن فعل ما فعله القذافي بالجماهير الغاضبة إذا تجاوزت الحدود. وقد بطشوا، في الجمعة الماضية، بكل ضراوة وبطولة وشجاعة، بحرية الكلام، وحاصروا الصحافة، ومنعوا الإعلام، واختطفوا المراسلين، وضربوا المتظاهرين بالرصاص الحي وبغاز الطائرات، وقتلوا وجرحوا، وهددوا وتوعدوا، هم وحلفاؤهم رجالُ الدين المتخلفون الكارهون لأية ديمقراطية حقيقية تهدد نظام الملالي العراقي بخطر الحصار، ثم بخطر السقوط.
بعد هذا كله كيف ألا يكون هذا النظام على قائمة الأنظمة التي حكمت عليها أمريكا بالرحيل؟
سننتظر. فتظاهرات الجمعة القادمة ستكون هي الدليل. فإن تواصلت واتسعت واشتد عودها وعلا سقف مطالبها فهذا يعني أن أمريكا أشعلت الضوء الأخضر لتغيير النظام، وأن وجوها جديدة ستظهر، وأخرى ستختفي. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
التعليقات