لم تتعلم أميركا من أخطاءها. في البداية أخطأت بدعم تنظيم القاعدة لدحر السوفيت، ثم أخطأت عند غزو العراق وأفغانستان والصومال، وأخطأت هذه المرة أيضا في غزو مصر سياسيا لأسباب أخرى ودخلت في مستنقع خطير وأدخلت الأوربيين والمصريين معها.

وبدراسة خطاب أوباما في القاهرة الرابع من يونيو 2009 يفهم أن ساعة الصفر لتنفيذ المخطط الأمريكي لغزو لمصر والمنطقة العربية دبلوماسيا قد بدأت منذ إلقاء الرئيس اوباما خطابه وبدأ الآن موسم جني الثمار من تونس ومصر واليمن والجزائر والبحرين وليبيا والبقية تأتي. كل ذلك تحت شعار التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية.

لنتذكر ما قاله الرئيس اوباما في خطابه quot;أن أحداث العراق قد ذكرت أميركا بضرورة استخدام الدبلوماسية لتسوية مشاكلنا كلما كان ذلك ممكناquot;. وغير مخفي عن الجميع كيف رصدت أمريكا (وثائق ويكيليكس) ملايين الدولارات لدعم مشاريع الديمقراطية وبرامج التنمية البشرية التي ركزت على الحق السلمي في التظاهر والاحتجاج كأحد أهم حقوق الإنسان بمصر وكان ذلك يتم عن طريق تمويل منظمات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان في ربوع مصر والعالم العربي. وبالطبع لم تتمكن الحكومة المصرية من المنع رغم استياءها الشديد نظراً لارتباط ذلك بالمعونات التي تقدمها أمريكا وبسبب وجود اتفاقيات مشتركة مشروطة بالمساعدات الأمريكية في هذا الشأن.

ويعتقد الكثيرون أن الرغبة القوية لأميركا في التخلص من نظام مبارك تولدت بعدما تبين استحالة عمليه التوريث والخوف من انتقال السلطة بطريقة غير آمنة من الممكن أن تصل بمصر إلى حالة سياسية لا ترضى عنها أمريكا وإسرائيل في ظل حالة الاحتقان الطائفي وحالة الغليان الشعبي التي ظهرت منذ عدة سنوات في الشارع المصري لأسباب عدة وخصوصاً بعدما طفح كيل الأقباط أيضا من بطش المتطرفين والشرطة في آن واحد وينسى الأقباط كيف استخدمت الشرطة الرصاص الحي في قتل المتظاهرين منهم في أحداث العمرانية.

ويمكن للمر أن يستنتج أن الأعداد لهذا الغزو قد اكتمل بعدما استطاعت أمريكا التأثير القوي على أقباط المهجر وجماعة الأخوان المسلمين معا أو كل على حدة والعكس أي بعدما استطاع أقباط المهجر وجماعة الأخوان المسلمين التأثير ـ مع اختلاف طرق التأثير ـ على أمريكا لدفعها لتتبني ومعها كل دول العالم تقريبا موقف قوي نحو حتمية إسقاط نظام الرئيس مبارك من أجل الوصول للدولة المدنية التي تحفظ للأقباط حقوقهم بوضع دستور جديد مدني يتبنى قيم المواطنة وحقوق الإنسان. وقد وجد الأخوان المسلمين الفرصة الذهبية أمامهم للتخلص من بطش نظام مبارك وفتح السجون والمعتقلات ليكون الباب مفتوحاً أمامهم لتكرير النموذج التركي في منطقة الشرق أوسط كما يحلمون.

وتجدر الإشارة إلى أن فترة ما قبل وما بعد الثورة شهدت تحولاً نوعياً في كتابات بعض أقباط الداخل والخارج والتي ركزت على أن سبب الاحتقان الطائفي بمصر هو النظام الحاكم وحده وليس الجماعات الأصولية المتطرفة كما كان متبعا. ونسي هؤلاء أن سببا من أهم أسباب ضعف هذا النظام هو استنفاذ قوته وطاقاته في محاربة الجماعة بعدما سيطرت تقريبا أيدلوجيا على قطاعات ليست قليلة من النقابات العمالية والجامعات وغيرها من المؤسسات الأمر الذي أثر بالسلب على قدرة الدولة على حل مشاكل المواطنين وتحقيق التنمية الاقتصادية والاستقرار والوحدة الوطنية. بالإضافة إلى انتشار الفساد بين المسئولين في ظل الدولة الضعيفة واستثمرت بالتالي الجماعة هذه النتائج في مقاومة النظام وإثبات صحة وجهة نظرها تجاه فساد الحاكم والدولة.

اندلعت ثورة الشباب المصري وعلى الفور بدأت جماعة الأخوان المسلمين من حشد الرأي العام المصري والعالمي في اتجاه تحميل نظام مبارك مسئولية المشاكل الطائفية وقدمت الدليل وهو أن كنائس الأقباط محمية وبدون تهديد بعدما انسحبت الشرطة. ونجحت قناة الجزيرة القطرية الداعم الإعلامي الرئيس للثورة في نقل صورة الالتحام والمحبة بين المسلمين والمسيحيين من الثوار.. واستمرت الحرب في اتجاه إسقاط مبارك فها هي المخابرات البريطانية تتحدث عن تورط الشرطة المصرية في نظام مبارك في أحداث كنيسة القديسين بالإسكندرية ما دفع المزيد من آلاف الأقباط إلى النزول للشارع للحاق بإخوانهم في الميدان، وها هي الجارديان تشير إلى أن ثروة مبارك وصلت السبعين مليار دولا. وتناقلت الصحف العالمية أخبار الفساد المالي والإداري لنظام مبارك. حقاً لقد كانت خطة محكمة ومنضبطة الأركان.

نجحت الثورة في الخطوة الأولى وسقط نظام مبارك غير أن الرياح تأتي بما لا تشتهيه السفن .. فقد وقعت أمريكا في المحظور ودخلت النفق المظلم بعدما اكتشفت بعد فوات الأوان أن جماعة الأخوان المسلمين بدأت عملية منظمة للالتفاف على الثورة وصبغتها بالصبغة الإخوانية والتي بدأت بخطاب الشيخ القرضاوي في ميدان التحرير وهيمنة الجماعة على سير عمليات الثورة والتحكم في منصة الميدان. وكان تشكيل لجنة صياغة الدستور والتي جاءت بصبغة دينية دليلا قاطعا على ذلك ومخيبا للآمال حيث لم تقبل اللجنة مجرد الاقتراب من المواد ذات الصبغة الدينية.

في الحقيقة أن الإدارة الأمريكية قد أخطأت التقدير عندما انتهت إلى أن المعادلة المصرية هي معادلة خطية في ستة متغيرات هي الدولة، شباب الثورة، النظام الحاكم، قوى المعارضة، الأقباط، والجماعات الأصولية بحيث تكون الدولة المصرية بكل أركانها ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية دالة في الخمسة متغيرات الأخرى، بمعنى أن استقرار الدولة وتوجهاتها السياسية تتأثر سلبا وإيجابا بمدى التوافق والموائمة بين المتغيرات الخمسة.

والخطأ الرئيس الذي وقعت فيه الإدارة الأمريكية في تقديري هو عدم تعاملها مع المعادلة المصرية على أنها معادلة غير خطية واعتبرتها خطية. كيف نفسر هذا الكلام؟
في الواقع أن أحزاب المعارضة ضعيفة، والأقباط مغيبين عن العمل السياسي، والنظام الحاكم انهار تماما، والشباب بدون قيادة موحدة ومن السابق لأوانه التكهن بإمكانية تنظيمه لحزب سياسي ليبرالي يكون قادرا على المنافسة القوية والانتصار للدولة المدنية اللهم إلا إذا أعطي الوقت الكافي. وماذا عن المتغير الإخواني؟

المتغير الإخواني متذبذب في طريقة تغيره ولا يتحرك بمقياس خطوة ثابت ومعلن ولا يعتمد قواعد تغيير معروفة واضحة ما يجعله متغير غير خطي وقد أدت هذه الخاصية إلى عدم وضوح الصورة الحقيقية للإخوان المسلمين للمجتمع الدولي وللكثيرين من عامة الشعب المصري.

ما يؤكد هذا الطرح بقوة هو كمية الانتقادات الشديدة التي وجهت لكل من مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية السيد/ جيمس كلابر ومدير وكالة الاستخبارات المركزية quot;سي آي إيهquot; السيد / ليون بانيتا من قبل أعضاء الكونجرس في جلسته في 17 فبراير الحالي لكونهما لم يتمكنا من فهم نوايا الإخوان المسلمين في مصر وذلك بالرغم من ميزانية قاربت 80 مليار دولار تم إنفاقها في العام الماضي لدعم الديمقراطية في العالم العربي كما تناقلت الخبر تقريبا كل وكالات الأنباء. واعتذر السيد كلابر عن إشارته إلى جماعة الإخوان المسلمين بأنها معظمها علمانية مضيفا إن خطأه هذا كان مؤسفا.

فإذا فشل المصريون في إقامة دولتهم المدنية وتمكنت جماعة الأخوان المسلمين من السيطرة على الثلث المعطل في البرلمان كما يصرحون فمن المحتم دخول مصر إلى مجالات الفوضى والتدمير والصراعات السياسية والطائفية مثلما هو قائم في لبنان ما يسهل تدخل أمريكي ودولي وإقليمى إلى حلبة الصراع بغرض التهدئة والمساعدة في فرض الأمن والاستقرار وليس ما يمنع من قيام عناصر حمساوية بالتعاون مع بدو سيناء من تهديد إسرائيل والذي سوف يجد الترحاب من بعض الجماعات الأصولية المتفقة معهم أيدلوجيا .. عندها ستقتنص إسرائيل الفرصة للقيام بضربة إستباقية سريعة محدودة أو إستراتيجية في سيناء تعود بمصر إلى المربع الصفري فيما يشبه ما بعد نكسة 1967.

الشعب المصري الآن يد واحدة ومصمم بكل الطرق والوسائل والإمكانيات على تحقيق طموحه نحو الدولة الديمقراطية المدنية الحرة بدستور مدني أصيل .. الشباب المصري متحد بروح معنوية مرتفعة جدا ومتأهب باتجاه تحقيق أهداف الثورة التي ضحوا بدمائهم الطاهرة من أجلها مسلمين وأقباط ومستعدون حتى النفس الأخير للدفاع عن أهدافهم.
الوقت قد حان لجماعة الأخوان المسلمين لتراجع أجندتها وسياساتها وايدلوجياتها لتتوافق مع تطلعات الشعب المصري وشباب 25 يناير الذين قادوا الثورة وشاركهم فيها شباب الأخوان والتزموا أمام جميع الشعب بنفس المبادئ والطلبات .. أعتقد أن الوقت مناسب الآن لتتخلى الجماعة عن الأفكار المتغيرة بطريقة التذبذب والتي أفسدت علاقتها مع الداخل والخارج .. نعم الفرصة متاحة للجماعة لتتبنى مطالب الثوار في اتجاه دولة عصرية مدنية بالفعل وليس القول. على الجماعة أن تتذكر أنها لم تجني لنفسها ولمصر منذ العام 1928 وحتى الآن أية مكاسب لا على المستوى السياسي ولا على المستوى الدعوي غير الاعتقالات والمشاحنات والسجالات مع قوى المجتمع المصري.

الواجب الوطني يفرض على جماعة الإخوان المسلمين الآن أن تجتهد وتجد التفاسير الصحيحة التي تسمح لها بفك الاشتباك بين الدين والسياسة حتى لا تعزل نفسها بنفسها عن الشعب الذي يتوق للديمقراطية الحقيقة غير الكاذبة فمن غير المعقول إن تظل الجماعة طوال هذه السنين تقدم الحلول الثابتة لمشاكل متغيرة.. ولتتذكر الجماعة أن اليوم أفضل من الغد. من مصلحة الجماعة الآن العمل مع كل القوى الوطنية في اتجاه الحفاظ على مكتسبات ثورة الشعب المصري بكل أطيافه وفئاته حتى لا يأتي يوم إن عاجلا أو آجلا يصرخ الشعب فيه quot; الشعب يريد إسقاط الأخوانquot; ذلك الهتاف الذي اسقط به الشعب حكم العسكر. حمى الله مصر وجنبها شر الفتن ما خفي منها وما ظهر.

[email protected]