اتخذت الثورات التي تجتاح عدد من دول المنطقة منحىً آخر مغاير عن ثورتا مصر وتونس، لا سيما وان ما يجري في ليبيا من قمع للابرياء العزل وتدمير شامل للمدن والبنى التحتية من قبل قوات الطاغية المجنون معمر القذافي، يحظى بتأييد كبير من قبل بعض الانظمة المستبدة في المنطقة، وخاصة النظام السوري، الذي يمد قوات القذافي بالطيارين والخبراء وكوادر عسكرية اخرى متخصصة، مما يعني بأن هنالك تحالف صامت او سري بين انظمة القمع والفساد والتوريث في المنطقة، ضد الشباب الثائر الذي يصنع التاريخ، رغم ان الانظمة تتحدث في ابواقها الاعلامية عكس ذلك.

لقد اثبتت الاسابيع القليلة الماضية، بأن انظمة الفساد والتأبيد والتوريث، مهما علا شأنها وكثر قوتها وجبروتها، وذاع صيتها في اصقاع العالم، واتضحت تحالفاتها فأنها هشة وضعيفة، ولا يمكن ان تصمد امام الشعوب، حين تتكاتف وتتوحد وتثور... وفي هذا المضمار فقد منحت ثورتا تونس ومصر، وما يجري من حراك واستعدادات هنا وهناك، ولو انها لا زالت الكترونية في بعض الدول عبر شبكة الانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي، فأنها تمنح الامل لكافة شعوب المنطقة، وتشجعها على الجرأة والشجاعة، لتتحدى انظمتها الديكتاتورية، فضلاً عن انها ادخلت في المقابل الرعب الحقيقي في نفوس النظم الاستبدادية، التي تنتظر دورها في الرحيل بسكون باهت.

فها هي بركات الثورات، تصل الى الكثير من الدول العربية، كسوريا على سبيل المثال لا الحصر، التي باشر نظامها المستبد فور اندلاع الثورة في تونس، بأجراء بعض الاصلاحات على عجالة، مثل دعم شريحة الطلبة، من خلال تأسيس صندوق مالي لهم برأسمال كبير، ليتسنى لطلبة الجامعات والمعاهد الاقتراض منها، اضافة الى الاقرار بتخصيص عدد كبير من الزمالات الخارجية نهاية كل عام دراسي، بأمتيازات مالية جيدة لم تشهد سوريا مثيلاً لها من قبل، ناهيكم عن دعمها الفوري لسعر وقود التدفئة (المازوت او الديزل)، وكذلك بعض الترقيعات الاخرى في عدد من المجالات، كجدولة القروض الزراعية في بعض المحافظات، واعفاء الفلاحين من بعض ديون الدولة المترتبة على كاهلهم منذ سنوات.

لكن مساعي النظام السوري البائسة، كدعمه لقوات القذافي لقمع الثورة الليبية، وكذلك محاولاته لأرتشاء بعض فئات وشرائح شعبه، من خلال اصلاحاته الشكلية الباهتة، سوف لن تكون حلاً للمعضلات المزمنة والمحتقنة في البلد، ولا تستطيع صد عدوى الثورات الزاحفة صوبه، في حال لم يلجأ النظام الى تغيرات حقيقية وجذرية، في مقدمتها الاعتراف بوجود الشعب الكردي، كثاني اكبر قومية في البلاد، وحل القضية الكردية حلاً ديمقراطياً عادلاَ، وتبييض السجون والغاء حالة الطوارىء والاحكام العرفية، واصدار قانون عصري للصحافة، وتداول سلمي للسلطة، وكذلك تغيير الدستور ولاسيما المادة الثامنه منه، الذي يعد حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، وغيرها من التغيرات الضرورية، التي من شأنها ان تجعل سوريا ديمقراطية ووطناً لكافة مكوناتها. ويرى جلّ المراقبين، بأن رياح التغيير هذا سوف يشمل معظم دول المنطقة، مهما بلغت انظمتها قمعاً واجراماً وارهاباً، وهيهات ان يفلت نظام استبدادي فاسد، التي هي بالآساس ثورات الخبز والبطالة والفقر وكذلك ثورات الكرامة، ضد الفساد ونهب قوت الناس وتدمير مستقبل الاجيال الناشئة. وان سيناريو اوربا الشرقية، التي هبت عليها رياح التغيير في العقد الاخير من القرن الماضي، ابان انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، واسقط كافة الانظمة الشيوعية وحطم جدار برلين، ربما يتكرر في الشرق الاوسط، ليشمل مختلف الانظمة الفاسدة والمستبدة، وان تحالفت هذه الانظمة في السر او في العلن. وهكذا نرى بأن تاريخ جديد مشرق يُصنع في المنطقة، عنوانه النزاهة والديمقراطية، و وأد quot;الفساد والتأبيد والتوريثquot; الى الابد.