يحلوا للبعض أن يهاجم ايران بمناسبة او بغير مناسبة وبأعذار واهية. ويحق لنا أن نتساءل: هل أن ايران هى حقا عدوة للعراق والعرب وتهدد باجتياحهم؟ ايران جارة للعراق ولا يهمنا من أمرها أكثر مما يهم الجار من أمر جاره. قد نتفق معها وقد نختلف، وهذا وارد بين الجيران، ولكن الجار الطيب هو الذى لا يتدخل فى شئون جيرانه. ونتساءل هل تدخلت ايران فى العراق؟ الجواب: نعم، والعراقيون يعرفون عملاء ايران فى بلدهم، ولكن التدخل كان ولايزال -كما يقول الايرانيون- هو للدفاع عن النفس ولأن العراق حسب قناعتهم قد أصبح قاعدة أمريكية تقف بالمرصاد لكل من يعارض السياسة الأمريكية.

صدام حسين هاجم ايران، ولم يكن ذلك الهجوم فى عهد الشاه ربيب الغرب وصديق اسرائيل الحميم التى كان يقيم علاقات دبلوماسية متينة معها، بل هاجمها فى عهد الخميني الذى سحب اعتراف حكومة الشاه باسرائيل وأمر بتدريس اللغة العربية فى كافة المدارس الايرانية فى الأيام الأولى من حكمه. ولا أحد يعرف بدقة من بدأ بالتحرشات ولكن المؤكد أن صدام كان أول من شن هجوما جويا على ايران بدفع وتشجيع من الدول العربية خاصة النفطية منها، ونشبت الحرب الحمقاء التى حصدت مئات الألوف من الأرواح من الجانبين وكبلت العراق بديون هائلة فضلا عن تدمير هائل للبنية التحتية للبلد. ومنذ أن انتهى حكم البعث الأسود وبعض تلك الدول تطالب باستعادة ما وهبوه للقائد الضرورة ليحارب نيابة عنهم مضافا اليها الفوائد (الربى) ا لذى يحرمه الاسلام.

بعضهم يقولها علنا ان تهجمهم على ايران والتحريض على حكومتها هو بسبب خوفهم من انتشار المذهب الشيعي فى بلدانهم!! ترى متى أصبح المذهب الشيعي وباء يجتاح المنطقة؟ هل أن بقية المذاهب الاسلامية ضعيفة الى حد الخوف من المذهب الشيعي؟ ويحق لنا أن نتساءل:
هل يعبد الشيعة إلها غير الله؟ هل لهم نبي غير محمد (ص)، ألهم قبلة غير الكعبة؟ وهل يحجون الى قم بدلا من مكة؟ ثم هل نسيتم أعداء العرب والمسلمين الحقيقيين مثل اسرائيل ومعها الكثير من حكام العرب العملاء الذين بدأوا يتساقطون هذه الأيام كقطع الدومينو ولم تجدوا غير ايران لتهاجموها؟ ان الكثير من الناس (وأنا منهم) لا يؤيدون سياسة ايران المعادية للغرب ولا يريدون تدخلها فى شئون العراق وسوريا ولبنان أو أي بلد عربي آخر، وهى سياسة حمقاء خرقاء قد تدفع بالمنطقة جميعها الى أخطار ليست فى الحسبان، وكذلك لا نؤيد قمع الحريات فى ايران وسيطرة الملالى الجهلاء على كافة السلطات فيها، ولكن ما علينا إلا إسداء النصيحة لهم وهم أحرار فيما يفعلون داخل بلدهم. أما اتهام الايرانيين بالقول بأنهم مجوس وكفرة ويعبدون النار فهى تهم تافهة وسخيفة وتدل على جهل قائليها بالدين الاسلامي ولم يلتفتوا الى الآية الكريمة (ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان) و (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) والحديث النبوي الشريف (الاسلام يجب ما قبله) والحديث الآخر المتفق عليه أيضا (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). ثم ما شأننا بما يعبدون ويؤمنون؟ هل كنا سنشتم الصين مثلا لو كانت جارة لنا؟ هل نشتم الهند؟ أهكذا نربى أولادنا على البغض والكراهية لكل من كانت معتقداته تختلف عن معتقداتنا. لنتذكر الآية الكريمة (لكم دينكم ولي دين) والأخرى (أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين).

ارجعوا الى التأريخ لترون مدى الترابط بين الايرانيين والعرب دينيا واجتماعيا، فمنهم من علم العرب لغتهم العربية مثل سيبويه والفيروز آبادي وغيرهما، ومنهم ثلاثة من أربعة من أئمة أهل السنة وهم الامام النعمان بن ثابت بن زوطي (أبو حنيفة) من أصل فارسي، كان جده من أهل كابل قد وقع في أيدي المسلمين أسيراً أثناء فتح بلاد فارس، والامام محمد الشافعي، والامام مالك بن أنس وهما أعجميا الأصل من بلاد فارس. وكذلك الشيخ الجليل عبد القادر الكيلاني ايراني الاصل والمولد.

و يجب أن لا ننسى أن الصحابي الجليل سلمان الفارسي الذى أشار على الرسول أن يحفر خندقا لحماية المدينة من مشركى قريش وهو الذى قال فيه الرسول: سلمان منا أهل البيت. وكذلك أصحاب الصحاح: البخاري ومسلم والترمذي ومحمد بن ماجه وأحمد النسائي، وغيرهم كثيرون من بلاد فارس دخلوا الى العراق لأسباب دينية ومادية وعاشوا قرونا طويلة بيننا وتعلموا لغتنا ونسوا لغتهم واكتسبوا عاداتنا ولم نعد نميزهم عن باقى العراقيين. ولم يسلم الكثير منهم من الحكام الطائفيين فى العهد العثماني و الملكي والحكم العارفي، ثم حصلت الطامة الكبرى فى عهد صدام (سيف العرب وحامى البوابة الشرقية) الذى قبيل حرب ايران طرد معظمهم من العراق الذى ولدوا هم وآباؤهم وأجدادهم فيه وألقاهم على الحدود الايرانية لتفترسهم الكلاب المتوحشة ويقتلهم الجوع والعطش، ولم يذكر أحد هذه النكبة الانسانية الكبرى بسبب التعتيم الذى فرضته الدول الغربية والدول العربية على ما جرى هناك من أعمال منكرة تعافها الأنفس.

ليست هناك حدود مشتركة بين أي من الدول العربية وايران، وبينما تفصل بين العراق والبلدان العربية الصحارى الشاسعة على طول حدود العراق الغربية والجنوبية، تضيق المسافة بين المدن العراقية و الايرانية ويزداد التقارب بين الشعبين الجارين فى كل المجالات مثل التجارة وزيارة مراقد الأئمة فينتفع البلدان من ذلك وتتوفر الأعمال لليد العاملة العاطلة.

الدكتور الراحل طه حسين عميد الأدب العربي ذكر فى (حديث الأربعاء):

(كان الحضري يأنس إلى بغداد، وكان البدوي ينفر منها وينكر نفسه فيها. ولم يكن خلفاء بنى العباس يحبون البادية ولا يحنون اليها ولا يتكلفون فى قصورهم عيشة أهلها وإنما قطعوا بينهم وبين هذه العيشة كل صلة، واتخذوا لأنفسهم من ملوك الفرس مثلا يحتذونها فى ضروب الحياة. ولم يحيطوا أنفسهم بالقواد والمشيرين من زعماء العرب ورؤساء القبائل كما كان يفعل الخلفاء من بنى أمية. وإنما استوزروا الفرس واستشاروهم، وقصروا أو كادوا يقصرون عليهم قيادة الجيش ومناصب الدولة. فليس غريبا أن تكون بغداد غير دمشق، والعراق غير الشام. وليس غريبا أن ينشد شعر فى بغداد والعراق يخالف ما كان ينشد فى دمشق والشام.)

لا أجد سببا لهذا التهجم على ايران سوى الحقد الأسود الذى يعمى البصر والبصيرة، وكذلك دور دولار البترول الذى تشترى به الأنفس والضمائر والأقلام. متى سيفهم الجميع أن وضع العراق لا يشبه وضع أي من البلدان العربية، حيث تتنوع فيه الاديان والمذاهب والقوميات وحتى لون البشرة؟ شأننا فى ذلك شأن الهند التى لم تجد الخلاص الا بتطبيق النظام الديموقراطي، فانتفع الشعب الهندي وتناسى الأحقاد العرقية منها والدينية، وحل السلام فى ربوع الهند، بعكس ما يجرى فى جارتها المسلمة باكستان حيث يتقاتل السنة والشيعة والقاعدة والطالبان والبلوش.

عندما كانت القوات البريطانية تطارد الجيش العثماني فى العراق فى الحرب العالمية الأولى، قام المرجع الشيعي الأعلى فى النجف باعلان الجهاد ضد القوات البريطانية (الكافرة) التى كانت تقاتل الجيش العثماني السني المسلم، ونسي المرجع ما فعله العثمانيون بالعراقيين عامة وبالشيعة خاصة طيلة خمسة قرون. لم يكن المرجع يدافع عن حكم ايراني فارسي شيعي بل عن حكم تركي عثماني سني، وهذا ينفى الادعاء بأن الشيعة العراقيين عملاء لأيران. وفى الوقت نفسه كان الجيش العربي بقيادة أولاد الحسين شريف مكة السني يحارب الأتراك الى جانب الانكليز.

بعد اندحار العثمانيين فى العراق وتشكيل الحكومة العراقية الجديدة بتخطيط من البريطانيين، رفض الشيعة -عدا قلة منهم- المشاركة فى الحكم لأسباب يطول شرحها، ولكنهم وافقوا على تنصيب فيصل الأول السني ملكا على العراق. كانت معظم الحكومات التى تشكلت حتى ثورة تموز 1958 يقودها أهل السنة، وبعضهم (ومنهم عبد السلام عارف) الذى غمط حقوق الشيعة بكل حماقة مما ولد كثيرا من الحساسية بين الطائفتين. وحاولت ايران التدخل ولكن المعاهدة بين العراق وبريطانيا منعتها من التمادى فى ذلك. وحاولت مرة أخرى على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم وبتشجيع من الغرب واسرائيل هذه المرة، ألا أن الزعيم أوقفهم عند حدهم بعد أن وجه فوهات مدافعه الى مصافى النفط فى عبدان وأنذرهم بتدميرها. ووقف الشعب العراقي بكل فئاته وطوائفه بما فيهم الشيعة خلف الزعيم السني، فأسقط بيد شاه ايران وتراجع عن موقفه.

علينا نحن العراقيون أن نساند الديموقراطية فى بلدنا فهى الضمان الأكبر لحماية الجميع ومن ضمنهم الأقليات التى تشعر بالغبن والانعزال، ولا نفرق بين مواطنينا على أساس أنهم من أصل تركي أو فارسي أو عربي أو كردي اوغيرها من القوميات. نحتاج الى زمن طويل لنصبح مثل سويسرا و بريطانيا و كندا و الولايات المتحدة واوستراليا وغيرها من الدول التى تتعدد فيها القوميات والأديان والمذاهب، فدعونا نبدأ اليوم وليس غدا. وكما يقول المثل: مسيرة ألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.