التحرك باتجاه السلطة دائما ما يأتي من فجوة بينها والشعب أو المواطنين أو المجتمع، ويبدأ ذلك التحرك غالبا على شكل احتجاج ثم يتطور الى انتفاضة ثم ثورة تأخذ في البدء أيضا طابعا سلميا وبحسب رد فعل السلطة قد يتواصل السلم أو يتحول الى طابع عدائي عنيف، والمفارقة المهمة في هذا السياق هو شكل التعاطي مع التحرك إذ أن ذلك يحدد الى حد كبير واقع ومستقبل العلاقة بين السلطة السياسية والمحكومين.

حق التظاهر وليد طبيعي ومنطقي لحق التعبير الجماهيري، وطالما وجدت فجوة في العلاقة بين السلطة والشعب فإنه تترتب على ذلك مظاهر فساد أو مظالم أو انتقاص للحقوق والحريات الأساسية، وحينها لن يبقى الشعب مكتوما ومكبوتا في المنازل، وذلك في حد ذاته مؤشر خطير لتردي العلاقة بين طرفي الحكم، فعلى سبيل المثال، حينما مارس جهاز أمن الدولة قمعا وكبتا لحريات المصريين فإنه خلق سوء فهم عميق لدى المصريين حول دور السلطة في تحقيق أمن الوطن والمجتمع، وأنتج ذلك في خاتمة المطاف غبنا وكبتا رهيبا في وجدان الشعب جعل المسافة بينه والنظام الحاكم بعيدة، وكلما طغى أمن الدولة وتجبّر اتسعت الهوة بين النظام والشعب حتى حدث الانفجار والثورة.

الحرية هي أكسجين أي نظام سياسي، ومن لا يؤمن بذلك عليه أن يغادر الحكم، وهذه الحرية ليست منحة أو منّة، وإنما حق يكاد يكون مطلقا للشعوب، وأي حاكم لا يجد رغبة أو قدرة في تمتع الشعب بها سيضطر الى سجن نفسه في القصر الرئاسي لممارسة الحكم، فيتحول هو الى سجين يمارس إسقاطا نفسيا عميقا على شعبه من خلال اعتقال الشعب في وطنه وسلب كثيرا من حرياته بصورة منهجية من خلال أنظمة وقوانين ومراسيم تعزز روح الاستبداد لديه.

المقابل الموضوعي للحرية هو القمع والاستبداد، والاستبداد مثل الخمر quot; ما أسكر كثيره فقليله حرامquot; وقليل الاستبداد ضار بعلاقة الحاكم بالمحكوم، تلك نتيجة منطقية لواقع الاستبداد في العالم العربي الذي ترسخ منذ الدولة الأموية حين قال الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان quot;لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقهquot; والمقايسة التاريخية تسعفنا في تأكيد الاتجاه المعاصر للاستبداد الذي ضاقت به الشعوب العربية حاليا، فغالب الأنظمة الحاكمة لا تستبين نصحا ولا تقبل رأيا معارضا أو مخالفا، ولذلك انتفخت المعتقلات بسجناء الرأي، وهم وإن لم يقولوا quot;اتقوا اللهquot; كما لم يقلها أحد لعبد الملك بن مروان، ولكنهم قالوا بكم شبهات فساد وحواليكم فاسدون لا يتقون الله في مال الشعب وحقوقه.

ومحور أي تظاهر أو احتجاج أو صوت عال يقدح في نزاهة النظام الحاكم، إنما هو قليل أو كثير من استبداد وكثير من فساد، ولو أن النظام قائم على العدالة في جميع أمره لما رفع أحد لافتة أو نادى بسقوط أو حتى إصلاح، فالمقوّم لا يصلح، وإذا استقام العود استقام الظل، ولكن العود أعوج وقوانين الفيزياء والمنطق تؤكد أن الظل لا بد أن يكون أعوجا أيضا، وهذا الإعوجاج تفسير كل شيء.

من يملك السلطة ويسوس الناس على الحق والعدل لن يخشى تظاهرة تعبّر عن حاجة لناقص إنساني بيد الحاكم ليتمه، والتعامل مع كل خروج الى الشوارع بمنطق القوة وكحالة أمنية يؤكد أن به خلل في منطقه السياسي، يمكن للناس أن يخرجوا ويرفعوا لافتات يقرأها الحاكم وسلطته وبعدها يعودون الى منازلهم بانتظار رفع الضرر وجبر الكسر، ولكن حين يجدون القوة في انتظار تحركهم فإن ذلك يخلق استفزازا غير ضروري، وليس من الحكمة تعطيل حقهم في التعبير والاشتباه في عدائهم للسلطة، فهؤلاء بدلا من رفع لافتات بمطالبهم يمكن في حال استقامت الأمور أن يرفعوا أخرى شكرا وتقديرا وولاء للحاكم.

ولذلك فإنه ما وئدت تظاهرة أو خروج سلمي إلا وصحبته إشارة الى ضيق بالحريات والحقوق الإنسانية، ومن حق الناس أن يعبروا عن آرائهم بحسب المتعارف عليه في الإطار السياسي بكل دول العالم في الإطار السلمي، ولتؤجل السلطة استخدام القوة حتى بروز أي مظهر عنيف، ولكن قبل ذلك فمن الخطأ قمع الناس وتحطيم طموحاتهم المشروعة في التعبير، فلذلك نتائجه السلبية في الوجدان والتي تبقى مثل جرح لا يندمل بسهولة ويؤسس لانفجار إن لم يحدث غدا فقد يحدث لا حقا لأن طعم المرارات هو الأكثر بقاء في الذاكرة الحسية، ولا علاج لإهدار الحريات إلا بإطلاقها لأنها كما ذكرت أوكسجين أي سلطة وشعب والضامن لحسن العلاقة بين طرفي منظومة الحكم.


إعلامية سعودية*