منذ توليه الحكم في سوريا خلفاً لأبيه، قبل حوالي عقدٍ ونصف من الزمن، لم يترك الرئيس بشار الأسد، فرصةً ولا مناسبةً، إلا ووعد السوريين فيها بquot;ربيع قادمquot;، سيقبل عليهم بالكثير من الحرية والديمقراطية والإصلاح السياسي والإقتصادي، للعبور بسوريا إلى بحر أمانٍ طالما انتظرته.

ففي الأول من مجيئه إلى السلطة بالوراثة، فسح الأسد الإبن المجال لquot;هامشٍquot; من الحرية لم يتعهده السوريون من قبل، خلال حكم أبيه. فظهرت لأول مرة، بعد حوالي ثلاثة عقودٍ من قيام حركة الأسد الأب quot;التصحيحيةquot; عام 1970، والتي لم تصحح شيئاً، بعض المنتديات ذات الطابع السياسي، ولجان المجتمع المدني وحقوق الإنسان، فكانت النتيجة حدوث بعض الإنفتاح السياسي والإقتصادي في البلد.
سميت هذه الفترة التي لم تدم سوى ستة أشهر، في أدبيات المعارضة والموالاة بquot;ربيع دمشقquot;، الذي انقلب على السوريين، وأدخلهم في أكثر من خريف.

من تابع أخبار هذا quot;الربيع الدمشقيquot;، يعرف بكلّ تأكيد، أنّ سكانه ما كانوا ينوون لا الإنقلاب على الرئيس، ولا تغيير نظامه. هؤلاء، لم يرفعوا يوماً، طيلة ربيعهم، شعار quot;الشعب يريد إسقاط النظامquot;، ولم يطالبوا الرئيس الشاب الذي عيّنه والده quot;ولياً للعهدquot;، في جمهوريةٍ لا جمهور لها سوى إسمها، بأن quot;يرحلquot;.

كلّ ما طالبوا به، هو quot;التغيير الديمقراطي السلمي والتدريجي في سورياquot;، وquot;الإعتراف بوجود معارضة وطنية سورياquot;، وquot;نبذ العنفquot;، وquot;محاربة كل أشكال الفساد السياسي والإداري والماليquot;..إلخ.
تلك، كانت بإختصار، مطالب أهل ربيع دمشق، الذين استقطبوا كلّ أطياف ومكونات الشعب السوري، من دمشق إلى قامشلو.

ولكن ماذا كانت النتيجة؟
بماذا كافأ الأسد هؤلاء وربيعهم؟
النتيجةُ، كانت المنع والقمع والغلق والسجن والإعتقالات العشوائية، التي طالت نخبة من خيرة المثقفين والمفكرين والأكاديميين والإقتصاديين والحقوقيين والسياسيين، المعارضين من أبناء الشعب السوري.

البعضُ، أعاد السبب الأساس لسقوط أو إسقاط ربيع دمشق، إلى الصراع ما بين quot;الحرس القديم والحرس الجديدquot;، إضافةً إلى أسباب ثانوية أخرى، كضعف خبرة الأسد الشاب في إدارة بلدٍ معقدٍ في تركيبته مثل سوريا.

ولكن مرور أكثر من عشرة عقودٍ على تسلم الأسد لدفة السلطة، وحكمه للسوريين بحديد ونار ديكتاتوريةٍ، قلّ مثيلها في الشرق، أثبت للقاصي والداني، أنّ سبب غياب الإصلاح في سوريا أو تغييبه، ليس الصراع الوهمي، الذي يُنظر له هنا وهناك، بين حرس النظام القديم وحرسه الجديد، وإنما السبب يكمن في بنية النظام وتركيبته الديكتاتورية، غير القابلة لأي إصلاحٍ، أو أي تغييرٍ في بنائه. السببُ هو الديكتاتور نفسه ووحده، فقط لا غير، لأن أيّ تغيير أو إصلاح في جدارٍ من جدران الديكتاتورية، سيؤدي حتماً إلى سقوط كلّ البناية، بكل طوابقها، سقوطاً مريعاً، كما حدث في تونس ومصر، ويحدث الآن في ليبيا واليمن والبحرين، ولا يزال الحبل على الجرّار.

فالعلة الأساس في سقوط مشروع الإصلاح والتغيير، الذي انطلق في ربيع دمشق، هو بشار الأسد نفسه، ولا غير سواه، لأن هو كلّ الحرس في كلّ الدولة، من أول الفوق في الحكومة إلى آخر مؤسسة في آخر سوريا. هو الآمر، وهو الناهي، من أول سوريا إلى آخرها، ولا تتحرك النملة إلا بإذنه، كما يُقال.

بعد أكثر من عقدٍ من الزمان، أثبت الأسد الإبن، أنّ ليس لسوريا في ظلّ حكمه إلا الضياع: الضياع في اللاحرية واللاديمقراطية واللاإصلاح واللاتغيير واللاتحوّل، اللهم إلا من سيءٍ إلى أسوأ.

بمناسبة الذكرى العاشرة لتولي بشار الأسد مقاليد الحكم، نشرت منظمة الهيومان رايتس واتش في 16 يوليو تموز الماضي، تقريراً شاملاً(33 صفحة) عن سوريا وحقوق إنسان(ها)، تحت عنوان quot;العقد لضائعquot;.

التقرير يؤكد على لسان سارة ليا ويتسن، المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومان رايتس واتش: quot;سواء رغب الأسد أن يوسع هامش الحريات لكن الحرس القديم أعاقه، أم كان مجرد حاكمٍ عربيٍّ غير راغبٍ بسماع النقد، فإن النتيجة هي ذاتها للشعب السوري: لا حريات ولا حقوقquot;، وأضافت: quot;يظهر سجل الأسد بعد عشرات سنوات في السلطة أنه لم يفعل شيئاً في الواقع لتحسين سجل بلاده في مجال حقوق الإنسانquot;(HRW : 16 تموز 2010).

الأسد الذي كان قد وعد سوريا والسوريين، بعد وراثته للحكم خلفاً لأبيه، وأدائه للقسم الرئاسي في 17 يوليو تموز 2000، بquot;ربيع دمشقquot; الذي ما أتى، أثبت خلال quot;عقد ضائعquot; من حكمه، أنّ سوريا ذاهبةٌ إلى أكثر من ضياعٍ، ليس في مجال حقوق الإنسان وحرية التعبير والرأي، كما جاء في تقرير الهيومان رايتس واتش فحسب، وإنما في كل المجالات وعلى كلّ الأصعدة.
لا بل الأصح، أنّ أوّل الضياع سورياً، لم يبدأ مع ولاية الأسد الإبن، وإنما الضياع كان ولا يزال عنواناً لسوريا، منذ حوالي نصف قرنٍ من الزمان، وذلك منذ تولي حزب البعث مقاليد الحكم في سوريا، في الثامن مارس آذار 1963.
سوريا ضاعت منذ أن ضاع جولانها، لتنسحب في حروب quot;التحريرquot; من جبهات quot;العدوquot; إلى جبهة الداخل السوري، لمحاربة الشعب، ومطاردة كل خارجٍ على جوقة النظام، وشعاراته الميتة في quot;الوحدة والحرية والإشتراكيةquot;.

منذ أكثر من أربعة عقودٍ من الزمان الديكتاتوري الصعب، والسوريون يتدحرجون على صخرة quot;جبهة الصمود والتصدي لإسرائيلquot; الوهمية، ويذهبون من ضياعٍ إلى آخر.

تحت هذه المسميات والشعارات quot;المافوق وطنيةquot; الفضفاضة، وضرورة التصدي للعدو quot;الوجوديquot;، هرب النظام من مشاكله الداخلية مع شعبه، قامعاً إياه بقوانين الطوارئ والأحكام العرفية، وممارسات فروعه الأمنية(وما أكثرها) الأكثر من بشعة، هرب إلى الخارج، ليتدخل في شئون دول وشعوب الجوار، وذلك عبر أكثر من جيبٍ عميلٍ له.

فدخل لبنان واحتله قرابة ثلاثين عاماً (1976ـ2005)، ووضع نفسه وصياً على اللبنانيين، وتدخل في شئونهم على الطالعة والنازلة، وخرّب في بلادهم ما لم يفعله الإستعمار الفرنسي من قبل. ورغم مضي أكثر من ست سنوات على خروجه الإجباري من لبنان، لكنه لا يزال يمارس ذات التدخل، وذات الوصاية، من خلال جيبه الأمين حزب الله، رغماً عن أنف الذي يريد أو لا يريد، فيسقط حكوماته كما يشاء، ليقيم على أنقاضها ما يشاء، كما حصل مؤخراً مع حكومة سعد الحريري التي لم ترق للنظام.

ذات التدخل أو قريباً منه، ركبه النظام السوري ومارسه على العراق أيضاً، وذلك من خلال تدريبه تسليحه وتهريبه للإرهاب وجماعاته، لزعزعة أمن واستقرار العراق، كما صرّح بذلك مسؤولون عراقيون كبار، بمن فيهم رئيس مجلس الوزراء.

أما ما يلعبه النظام السوري، في الملعب الفلسطيني، لضرب المقاومة بالمقاومة، فهو لعب أكثر من مكشوف، يمارسه النظام منذ أيام الديكتاتور الراحل حافظ الأسد، ولا يزال اللعب قائماً على قدمٍ وساق، وذلك بضرب quot;دويلة حماسquot; بquot;دويلة فتحquot;، من خلال دعمه الصريح، لوجستياً ومعنوياً، للأولى وشيوخها الحمساويين، ضد الأخيرة.

مؤخراً، أثبت هذا النظام، للعالم أجمع، مرةً أخرى، رغم كلّ رياح التغيير التي تهبّ على المنطقة، أثبت من خلال دعمه لنظام القذافي الفاشي بإمتياز، أنه واقفٌ مع الرجوع إلى الوراء ضد التغيير، ومع القمع ضد الحرية، ومع القتل ضد الحياة، ومع الحرب والإرهاب ضد السلام والديمقراطية.

لهذا ليس غريباً أن تُدرج سوريا على القائمة السوداء، كواحدةٍ من بين أكثر الدول الداعمة للإرهاب، بل والصانعة له أيضاً، كما جاء في أكثر من تقرير دولي.

قمع أجهزة الأمن السوريا، للإعتصام السلمي الذي نظّمه بضع مئات من عوائل المعتقلين والنشطاء السياسيين السوريين، أمس الأربعاء، أمام مبنى وزارة الداخلية بدمشق، للمطالبة بطيّ ملف الإعتقال السياسي، يثبت أنّ سوريا النظام، لا تزال ماضية على نهجها الديكتاتوري، الإقصائي الإلغائي، غير القابل بأيّ تغييرٍ أو إصلاح.

النظام، بدلاً من أن الإستماع إلى مطالب أهل الشارع من ذوي المعتقلين، والإستفادة من دروس الشوارع العربية الأخرى، قام بإعتقال العشرات منهم، بينهم المفكر والفيلسوف السوري الطيب تيزيني، والناشطة السياسية سهير الأتاسي. لا بل والأنكى، أنّ المسؤولين السوريين، قد رفضوا الإعتراف بوجود أية احتجاجات تُذكر، وكذّبوا كل وسائل الإعلام التي نقلت خبر الإعتصام.

اللافت للنظر، بعد كلّ ما مارسه هذا النظام ضد شعبه من قمع منظّم، وتدخلات في مصير شعوب أخرى، تحت يافطة quot;الممانعةquot; وquot;التصدي للأعداءquot;، هو وجود من لا يزال يراهن على صلاحيته، ويتمنى لرئيسه الأسد، أن يسمع ويقرأ ما يجري من حوله من قيامات شوارع، غيّرت خلال أسابيع، ما لم تستطيع الأنظمة تغييره خلال عقود من الديكتاتورية.

البعض ممّن يحلل وينّظر للممانعة، طريقاً أخيراً، يجب على العرب اختياره، ويصف سوريا بquot;القلعة الوحيدة في مواجهة المشروع الأميريكي الإسرائيلي الذي أهان هذه الأمةquot;، يسأل وكله أملٌ، بأن يسمع الرئيس الأسد ويقرأ ما يجري حواليه.
أما البعض quot;الممانعquot; الآخر، من هؤلاء الحريصين على النظام السوري، وسياساته quot;الممانعةquot;، فيسأل، بحرقةٍ:
لماذا لا يسمع الرئيس ولا يقرأ، ما يدور من حوله؟

والجواب، على أسئلة هؤلاء وسواهم من quot;أهل الممانعةquot; وصحبها، هو بسيطٌ جداً، بساطة شعوبٍ تريد أن تكون حريتها.
الجواب، هو لأن الرئيس quot;الممانعquot; يعلم علم اليقين، أنّ النتيجة، بعد صناعة الشوارع الآن، لدولها وبرلماناتها وحكوماتها ورؤسائها، في كلتا الحالتين، مع القراءة ومن دونها، تبقى واحدة، ألا وهي الهروب الأكيد إلى النهاية: نهاية نظامٍ لا يساوي إلا رئيسه.
الرئيس السوري، يعلم الآن عين اليقين، أنّ وقت قراءة الشارع والإستماع إليه قد فات، وما فات مات.
لهذا لن يقرأ الرئيس السوري، لا شوارع الماحول، ولا شوارعه التي تشرف عليها نوافذ قصر الشعب، الذي لا شعب فيه، ولن يستمع إليها، لأنه يعلم تماماً، أنّ أول قراءة الشارع، سيعني نهاية كتاب نظامه.
الرئيس السوري، لن يقرأ، على الأغلب، ما تجري تحته من أحداثٍ، ولن يسمع سوريا واحتقان وجوع وبطالة وغضب شوارعها، اللهم إلا بعد أن يردد التلاميذ في كلّ المدارس السوريا، مع إخوانهم الأطفال الدرعاويين الذين اعتقلتهم الأجهزة الأمنية قبل أيام، عبارتهم العفوية المحفورة الآن على الجدران، البريئة كطفولتهم، والكبيرة كحلم وطنٍ:
quot;الشعب يريد إسقاط النظامquot;!

[email protected]