استوقفني أمس خبران طازجان قادمان من سوريا الطازجة.
الخبر الأول كان من أقصى الجنوب السوري المشتعل، حيث تقيم درعا في غضبها، يقول: quot;الأمن السوري يمنع جنازة الطفل منذر مؤمن المسالمة(11 عاماً) الذي توفي إثر إصابته الأحد في أحداث درعا. هذا وكان الطفل الشهيد، قد دُفن بأمر من الأمن، بدون إقامة جنازة أو أي مظاهر دينيةquot;.
أما الخبر الثاني، فكان من الجهة الأخرى القصية من سوريا، أي من أقصى الشمال السوري، حيث نوروز في قامشلو وحواليها، كان يمشي من فولكلورٍ إلى فولكلور، ومن رقصةٍ روتينيةٍ مكرورةٍ، إلى أخرى.

يقول الخبر: quot;وفد من مسؤولي محافظة الحسكة برئاسة المحافظ يزور المحتفلين بالنوروز ويلقي كلمة في الجمهور الكردي...وكان في استقبال الوفد، رئيس الحزب الديمقراطي الكردي(البارتي) الدكتور عبدالحكيم بشارquot;. انتهى الخبر.

في سياق الخبر ذاته، جاء على لسان جريدة السفير اللبنانية، أنّ quot;الأكراد حصلوا على اعتراف ثقافيquot;، وكان هذا الخبر قد جاء تأسيساً على أخبارٍ، نُشرت في وسائل الإعلام السورية الرسمية، التي غطّت عيد النوروز الكردي، لأول مرة في تاريخها، وتاريخ بعثها الحاكم، واصفةً إياه بquot;عيد الربيعquot;. أما إحتفال quot;المواطنين الأكرادquot;، كما وصفتهم وكالة سانا(لعلم الوكالة أنّ هناك في سوريا حوالي 300 ألف كردي، quot;أجنبيquot; أو quot;مكتومquot;، خارج عن كلّ المواطنة السورية، وكل الحقوق المدنية، وفقاً للمرسوم الجمهوري الصادر عام 1962، الذي لا يزال معمولاً به في سجلات النفوس السورية)، فهو quot;يعكس عمق التنوع الثقافي والحضاري الذي تختزنه سورية وغنى الفلكلور النابع من تاريخ المنطقة وهويتها المتنوعةquot;، على حدّ تعبيرها.

أعلم أنّ الخبر الأخير، هو خبر فوق عادي، من الصعب تصديقه في مكانٍ كسوريا، لا يزال الكردي مكتوماً أو أجنبياً ممنوعاً، من أن يُسمى بإسمه، أو يتعلم ويقرأ ويكتب بلغته، أو يكون هويته، أو يحتفي بذاكرته، أو يغني لعلَمه... ولكن الخبر أكيدٌ، أكدّه الإعلام السوري الرسمي المرئي والمسوع والمقروء.

البعض من الساسة الكرد quot;السذجquot; ممّن روّضم النظام، وعوّدهم على وعوده العسلية وكلامه الناعم، كلما ضُيّق الخناق عليه، سيعتبر ذلك، بكل تأكيد، quot;إنجازاً عظيماًquot;، أو quot;خطوةً تاريخيةquot;، أو quot;بادرة حسن نيةquot; من رأس النظام، لquot;حل قريب أو عاجلquot; لقضية الأكراد السوريين المقموعة بالحديد والنار، منذ عقودٍ طويلة.
ولكن لعبة النظام لمن يريد أن يفهمها بالطبع، باتت أكثر من مكشوفة.

أنها سياسة النظام ذاتها: ضرب الشعب بالشعب، وتأليب الشعب على الشعب، وشق صفوف الشعب بالشعب، وتخوين الشعب بالشعب.

منذ متى كان الأكراد في سوريا الرسمية، quot;مواطنين سوريينquot;، في نوروزهم؟
منذ متى، تذهب وفودها الرسمية، للإحتفال مع الأكراد نوروزهم؟
منذ متى، كان نوروز في ثقافتها وتربيتها الوطنية الرسمية، quot;تنوعاً ثقافياً وحضارياًquot;؟
منذ متى، كان نوروز في تقويمها الرسمي، quot;عيداً للربيعquot;، أو quot;فولكلوراً غنياًquot;؟
منذ متى، نقرأ ونسمع ونشاهد، نوروز في إعلامها الرسمي، في كونه quot;زماناً كردياًquot; ملوّناً؟
الجواب بسيط، وواحد لا شريك له، وهو:
منذ ظهور بوادر الغضب السوري وطلائعه في درعا ومدن سورية أخرى.
مذّاك، راجع النظام أوراقه، التي لا يزال يستطيع استخدامها، واللعب بها، فهرب إلى الورقة الكردية، التي خبرها أهل النظام، ويعرفها جيداً، بأنها من أخطر الأوراق عليه، وأصعبها.
مذّاك فكّر هذا النظام بركوب النوروز الكردي الوشيك، ليخرج من العيد quot;نوروزياًquot; أكثر من كاوا الحداد: فذهب إلى نوروز أكراد(ه)، وجلس إليهم، وهنأهم، وباركهم، ورقص وأدبك معهم، وغازلهم.

هكذا خطف النظام quot;نوروز الحريةquot;، من أكراده، ومسّخه في ثقافته الرسمية، إلى quot;شقفة عيد للربيعquot;، أو quot;شقفة فولكلورquot;، أو فسحة للرقص والدبك والغناء.
هكذا، تحوّل نوروز، بين جريدةٍ وضحاها، من quot;عيد نكرةquot;، إلى quot;عيد معرفةquot;؛
ومن quot;عيدٍ مقموعٍ ممنوعquot;، إلى quot;عيدٍ عالٍ ومرفوعquot;.
ومن quot;عيدٍ منحوسquot; إلى quot;عيدٍ محظوظquot;؛
من quot;عيدٍ إنفصاليquot; إلى quot;عيدٍ حضاريquot;؛
ومن quot;عيدٍ خطر على أمن الدولةquot;، إلى quot;عيدٍ مساهمٍ في تنوع الدولةquot;؛
ومن quot;عيدٍ أجنبي ومكتومquot; إلى quot;عيدٍ مواطنquot;؛
ومن quot;عيدٍ عميلquot;، إلى quot;عيدٍ وطنيquot;.
سبحان مبدل الأعياد!

هكذا خبّأ النظام، إذن، الورقة الكردية، ونوروزها الأبيض ليومه الأسود.
هكذا قتل النظام نوروز في حريتها، ومشى في جنازته.

أنها سوريا المفارقة، إذن؛ سوريا الواحدة المترنحة والمتأرجحة، بين خبرين في جنازتين:
جنازة ممنوعة، في الجنوب، مشى عليها النظام، وآخرى مسموحةٌ، في الشمال، مشى إليها وفيها النظام!
أنها سوريا الأسد، أو سوريا الجنازة مرتين:
مرةً، تقتل الذكرى، هناك، وتمشي على جنازتها.
وأخرى تقتل الذاكرة، هنا، وتمشي في جنازتها.


[email protected]