أخيراً خرج الرئيس السوري بشار الأسد على الشعب والعالم، بخطابه المرتقب منذ أيام. الخطاب، كان مخيّباً للآمال، ودون التوقعات بكثير.
لم يأتِ الأسد بجديدٍ، كما أكدّ هو على ذلك بنفسه، حين وصف حزمة الإصلاحات، التي قدّمتها مستشارته السياسية والإعلامية بثينة شعبان، الأسبوع الماضي، بأنها quot;لم تبدأ من الصفرquot;، وكانت عبارة عن quot;مسودات قديمةquot;، طُرحت ونوقشت في المؤتمر القطري لحزب البعث عام 2005. فالكثير مما أُعلن الآن من إصلاحات، كانت قد تمّت مناقشتها في الحزب والدولة، ريثما يتم عرضه على quot;النقاش العامquot;، على حدّ قوله.
هو، لم يوحِ في خطابه بأن quot;إصلاحاتهquot; جاءت استجابةً لغضب الجماهير السورية الأخير، الذي انطلق من درعا، وإنما لمّح بأنه quot;رجل الإصلاحquot; منذ خطاب القسم(17 يوليو 2000)، مؤكداً أنه quot;يتخذ من المواطن بوصلتهquot;، وما يقوم به ليس إلا quot;صدى لما يجول في عقل السوريين بالعناوينquot;، حسب تعبيره.
جاء خطاب الأسد، الذي سمي في بعض جهات إعلام النظامquot; بquot;خطاب الحقيقةquot;، كأي خطاب آخر له، بدون أية خطوات عملية، من شأنها تدفع بسوريا نحو هامشٍ من الإصلاح.
خطاب الأسد الذي هو الأول عملياً، بعد اشتعال الغضب في الشوارع السورية، منذ اسبوعين، يستحق quot;الرقم صفرquot; بجدارة، لأن الرئيس كان في وادٍ، فيما الشارع السوري يغضب في وادٍ آخر.
الخطاب يساوي الرقم صفر، من جهة فوقيته، وتجاهله وتطنيشه لمطالب الجمهور السوري الغاضب، وكأن شيئاً لم يكن، أو أنّ لا شيء يستحق الإهتمام سوى quot;المؤامرة الخارجيةquot; التي سيكون الرئيس لها بالمرصاد.
أعتقد أنّ الأسد تقصّد في خطابه، الخروج على عادة الرؤساء المخلوعين في الثورات الماضية، سواء تلك التي انتصرت أو تلك التي لا تزال مشتعلةً. فسوريا، بحسب قناعة نظامه، ليست كتونس ومصر وأخواتهما، ربما من هذا المنطلق حاول الأسد الإبتعاد، عمّا يجري في الشارع السوري من حوله، دون تسمية الأشياء بمسمياتها، وكأنه يلقي خطاباً في quot;شأن سوري عامquot;، أو التفاتاً لعموميات القادم من إصلاحه، الذي ما هو إلا امتداداً لمشروع quot;مسودات قديمةquot;، كان قد تبنّاها، كما نوّه.
والأرجح أنّ الأسد لن يُسمع السوريين خطابات كثيرة لاحقة، ليعرب فيها عن فهمه لهم، ويمتص غضبهم ما أمكن. لأن كلّ ما فهمه الرئيس، وسيفهمه في القادم من الغضب السوري، هو كلمة واحدة فقط أوجزها في quot;المؤامرةquot;.
الأسد خاطب نفسه في هذا الخطاب، أكثر من أن يخاطب الشعب السوري؛ بل الأصح أنه خاطب quot;شعبquot;(ه) شعب النظام، الذي هتف بإسمه، في كونه quot;رئيساً لا يساوي الوطن العربي فحسب، وإنما العالم أيضاًquot;، أكثر من أن يخاطب شعب الشعب، أو سوريا الشعب. حضور quot;شعب النظامquot; في الكلمة، وما حولها، كان طاغياً، لدرجة أنّ ما يسمى بquot;مجلس الشعب السوريquot;، قد تحوّل إلى مجلسٍ للرئيس ونظامه، يهتف بصوتٍ واحد وبالإجماع: quot;بالروح بالدم نفديك يا بشارquot;، quot;الله..سوريا..بشار وبسquot;!
الرئيس تكلّم كثيراً، أما المجلس فصفّق وهتف وقال شعراً كثيراً.
تحاشى الأسد في خطابه، الحديث عما يمكن تسميته بquot;التنازلاتquot; تحت ضغط الشارع. ربما منا هنا جاء حديثه الكثير عن ماضي quot;إصلاحاتهquot;، التي بدأ بها منذ أن صار رئيساً. أما تأخرها فكان بسبب quot;تغير الأولويات بسبب الأحداث التي شهدتها المنطقة والعالم طيلة هذه الفترة. فأصبحت الأولوية هي الاستقرار ثم الحالة المعيشيةquot;، كما قال.
الأسد، تمسك بمقولة quot;الإصلاحquot;، وأصرّ عليها بإعتباره عرّابها السوري الأول، مؤكداً أن quot;البقاء بدون إصلاح مدمّرquot;، ولكن بدون quot;تسرّعquot; لأنه quot;سيكون على حساب السرعة النوعيةquot;، على حدّ قوله.
الرئيس، كان فوقياً بإمتياز، وquot;متفلسفاًquot; بلا حدود، في خطابه، كالعادة، وكأن به يريد إلقاء درسٍ أو quot;محاضرةquot; في quot;فقه الإصلاحquot; على شعبٍ quot;لا يعرفquot; من الإصلاح شيئاً.
هو تكلّم عن الأصلاح وضروراته، أكثر من أن يقدم مشروعاً سورياً محدداً في الإصلاح، لتحقيقه خلال فترة زمنية محددة. كلّ ما سمعناه، هو أنّ الإصلاحات المعلَنة، هي قيد الدرس، برسم الصبر، وفي طريقها إلى التحقيق، ولكن quot;بدون تسرّعquot;.
حتى قانون الطورائ الذي أُعلِن عنه في الأيام الأخيرة، بأنه في طريقه إلى الإلغاء، بقي على ما كان عليه، لأنه لا يزال قيد الدراسة، ويحتاج إلى صبرٍ وتأنٍ.
كلّ ما قاله الأسد، وشدد عليه في خطابه، بشكل واضح، وبلهجةٍ تهديدية وتوعيدية، هو أنه اختزل الغضب السوري الأخير، في مجرد quot;مؤامرة خارجية تستهدف سورياquot;، وعدَ أنه quot;سيحبطهاquot;. وهو الأمر الذي يمكن اعتباره، التفافاً واضحاً على طموح الشعب السوري ومطالبه، التي مشت إليها درعا والصنمين واللاذقية وحمص ومدن سورية أخرى، بدمٍ واحد، تحت شعارٍ واحد: quot;الله..سوريا..حرية وبسquot;.
الرئيس، على ما يبدو، ليس مستعداً بعدُ، لمخاطبة شعبه، أو تقديم أية تنازلات له، طالما القضية هي قضية quot;مؤامرة خارجيةquot;.
هو، نسى ما يريده الشعب، وتذكّر المؤامرة فقط(الشعب في المؤامرة)، مذكّراً الحاضرين والسامعين والمشاهدين بمعركةٍ قادمة ضدها، قائلاً: quot;إذا فرضت المعركة علينا اليوم فأهلا وسهلاً بهاquot;!
فمن هو ذاك quot;المتآمرquot; على quot;سوريا الرئيسquot;؟
أية معركةٍ هي تلك التي يقصدها الرئيس؟
مع مَن، ضد من سيحارب الرئيس؟
الواضح من كلامه، هو أنّ المعركة التي قصدها، ستكون بينه وبين quot;الشعب المتآمرquot;، أو كلّ quot;المتآمرينquot; ممّن لن يهتف بإسمه، واسم نظامه، كما حصل في درعا وأخواتها.
الرئيس الأسد، اقترب في خطابه، من quot;شعب النظامquot;، على حساب quot;شعب الشعبquot;، وحاصر نفسه بين جدران ديكتاتوريته، بدلاً من الإنفتاح على الشعب وحريته.
فالرئيس لم يعتذر عما فعل نظامه من قتلٍ بدمٍ بارد، في درعا والصنمين واللاذقية، ولم يعد أهلها بمحاسبة المقصّرين والمتسببين من مسؤولي نظامه، الذين قاموا(كما تؤكد الكثير من المنظمات الحقوقية المحلية والعالمية) بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين العزّل. وإنما اكتفى الرئيس، بquot;التفلسفquot; في نظرية المؤامرة، والدوران في فلكها.
هو، لم ينحاز إلى الشارع السوري الغاضب ومطالبه، بالطبع، وإنما انحاز إلى سياسة خلط الأوراق، إذ خلط مطلب الجماهير السورية الغاضبة الأساس في العبور إلى quot;سوريا حرةquot;، بquot;جوكرquot; النظام الجاهز والصالح لكل زمان ومكان، ألا وهو quot;جوكر المؤامرةquot;.
تلبيس الأسد ثوب المؤامرة للإحتجاجات الأخيرة، يعني إسقاط الشرعية عنها وعن كلّ من يجتمع تحت سقفها. وهو الأمر الذي يمكن اعتباره إنذاراً خطيراً، لكل quot;محتجٍquot; آتٍ، أو مشاركٍ في غضب قادم، لأن أيّ أنزلاق في هذا المنحى، سيكون حسب quot;فقه النظامquot;، وقوعاً في فخ quot;المؤامرةquot;، ما يجعل كلّ منزلقٍ إليها، تحت طائلة الملاحقة والمسؤولية.
رسب الأسد، إذن، في امتحان خطابه الأخير، الذي سّمي بquot;الهام جداًquot;، كجلّ خطاباته، لأنه سقط في quot;كلامٍ قديمquot;، انتهى إلى quot;جعجعةٍ سياسيةquot; بدون طحين.
هو رسب، لأنه لم يفهم شعبه، مثلما فهم حسني مبارك مصر(ه)، وفهم زين العابدين بن علي، تونس(ه) من قبله، عندما خرج إلى الشعب، مخاطباً إياه بأنه quot;فهم الكلّquot;.
هو رسب، لأنه لم يفهم غضب الشعب السوري الأخير، الذي هو من غضب الشوارع العربية الشقيقة، سواء القريبة منها أو البعيدة.
هو رسب، لأنه لم يسمع ولم يقرأ ولم يشاهد، ما يجري ويغلي من حوله؟
هو رسب، لأنه قسّم الشعب السوري، إلى شعبين: شعبٌ انحاز إليه، لأنه صفق له وهتف بإسمه رئيساً إلى الأبد، ضد شعبٍ آخر وضعه في خانة المؤامرة، بمجرد أنه طالبه بإصلاحات تؤدي بquot;سورياquot;(هم) إلى حريةٍ ممكنة.
هو رسب، لأنه انحاز إلى سورية quot;ثابتةquot;، quot;قومجيةquot;، quot;بعثيةquot;، quot;شوفينيةquot;، ضد سورية متحركة، تعددية، متنوعة.
هو رسب، لأنه انحاز إلى نفسه ضد الكلّ، وإلى quot;سوريا الأسدquot; ضد سوريا الشعب.
هو رسب، لأنه اختار الديكتاتورية، طريقاً أكيداً لسوريا، ضد حريتها.
الأسد رسب في امتحان الإصلاح الذي انتظره السوريون طويلاً، فهل سيمهد هذا الرسوب لنجاح القادم من ثورة الشعب؟
ما فات من سوريا فات..فللنتظر ما هو آتِ!
التعليقات