الانتفاضات الشعبية الأخيرة التي يمكن تسميتها بجدارة واقتدار بانتفاضات الخبز والكرامة، والتي أطلقتها تونس الخضراء، ثم التقطتها مصر العزيزة، ثم ليبيا الشجاعة، وسوريا البطلة، واليمن الصامد، والأردن والبحرين، وقد تلحق بها عواصم عربية وإسلامية أخرى تفاجؤنا بها الأيام، أثبتت أن جبهة الحكام الشياطين في الوطن العربي واحدة، تتعاون أطرافُها، وتتناغم، وتتساوم، وتتقايض فيما بينها، وتتبادل العون والإسناد والخبرات والأدوات والأساليب والأخبار والرسائل والوفود. لكن جبهة الشعوب المسروقة والمظلومة والمحبوسة والموؤودة لم تكن واحدة، مع الأسف الشديد.

ولكي نكون أكثر قدرة على فهم طبيعة معارك الجماهير العربية مع مغتصبيها علينا تحديد تعريف محدد للشر، وتعريف دقيق للخير، كذلك.

فممارسة العنف كأداة سياسية، شر. واعتماده منهجا ثابتا للحكم، شر. ودعمه ومساعدته، شر. وتمويل حكوماته وتزويدها بأدوات القتل والخنق، شر. ومحاولة الالتفاف على مطالب الجماهير وخداعها، شر. ونشر جلاوزة المخابرات والأمن والحرس الخاص بملابس مدنية، وتسليحهم وحشدهم لقتل المدنيين الأبرياء، شر. وتصدير الفكر الظلامي الطائفي والعنصري الذي يؤجج الأحقاد بين الطوائف والشعوب، شر. والقتل على الهوية، شر. وسرقة المال العام، شر. وتهريب السلاح والمال إلى عصابات وتنظيمات متخلفة متمردة في دول آمنة، شر. وتحريك الطوابير الخامسة في الدول الأخرى الآمنة، شر. ورفض الاعتراف بالخطأ، شر. وعدم التنازل عن السلطة إلا بتعهدات مُسبَّقة وموثقة ومصدقة بعدم الملاحقة القانونية والمحاسبة، وبالسماح بالخروج الآمن مع المسروقات، شرٌ عظيم وكبير.

أما الخير فهو كل ما كان عكسَ ذلك. فخيرٌ كامل ونقي وعظيم كلُ رفض لقتل المدنيين من قبل أجهزة المخابرات والكتائب والمباحث وأمن الدولة. وكلُ تصد ٍ لخداعهم، خير. وكل رفض حازم وحاسم لاتهام جماهير الانتفاضات الباسلة بالعمالة للقاعدة والإرهاب الدولي من قبل الحكومات المتمرسة بالتلفيق والتزوير والاختلاق، خير. وكل فضح ٍ للتخلف والتزمت الديني والطائفي، خير. وكل فضح للنفاق الثقافي والإعلامي الذي يحاول قلبَ الحقائق لستر عورات الحكام، خير. وكل إفشال لأي جهد سياسي أو عسكري أو اقتصادي من الدول الكبرى الانتهازية، مثل روسيا والصين، لإنقاذ رقاب الطغاة، وإطالة أعمارهم، وتبرير جرائمهم، وتصويرها بأنها دفاع مشروع عن النفس، خير وألف خير.

من أول الانتفاضات المباركة رأينا كيف يتعانق الحكام. رأيناهم، فور اندلاع حريق في مخدع أحدهم، يتسارعون إلى شحن المعدات والخبراء والمقاتلين لدعمه وإسناده ومنع سقوطه، خوفا من انتصار شعبه عليه. لأنهم يعرفون أن انتصار الجماهير على أي حاكم زميل من زملائهم سيغري جماهير مزرعة أخرى من مزراع النظام العربي العتيد بالانتفاض على قائدها الملهم العظيم.

من أول انتفاضة الجماهير التونسية راحت الحقائق تتكشف. بدأنا نكتشف أن الشعوب هي الأقوى وحكامها الجبابرة هم الأضعف والأكثر جبنا وهوانا ومذلة. عرفنا أن الأباطرة الذين كنا نظن أنهم أباطرة ليسوا أباطرة. تبين أنهم، جميعهم، أسود من ورق. تهزمهم جماهيرُ عزلاء لا تملك غير هتافاتها بسقوط النظام، وسوى إيمانها بعدالة مطالبها، وسوى شجاعتها التي تهد جبالا، وتطلق زلازل وتفجر براكين.

ببساطة وبسرعة كانت تتكشف لنا جميع عورات النظام. تنفضح السرقات والمليارات المهربة إلى أمريكا وسويسرا وبريطاني وفرنسا ودبي. وبسرعة يتحول الأسد إلى دجاجة. ودون إنذار كانت قلاع النظام الحديدي تتساقط، واحدة بعد أخرى، ويبدأ الديكتاتور الذي كان يخيف دولا ويرعب أمما يرتجف من الخوف، ويبحث عن معين وعن ملاذ. بسرعة كان يتأكد له أن رفاقه الحكام، ومخابراتهم وبيانات تأييدهم، ودعمهم، مثلـُه، ورق في ورق، وهواء في شبك.

في اليوم الأول أسد هصور. يرغي ويزبد. يهدد ويتوعد بجحيم وويل وثبور. بمجازر ومشانق. بحرب لا ترحم. ونصر أكيد. مدينة مدينة، وشارعا شارعا، وزنقة زنقة. في الثاني ذئبٌ جريح. وفي الثالث حمل وديع. يأمر مواطنيه بأن يرقصوا ويفرحوا ويهيصوا. ثم يبدأ بالاعتراف بأخطاء حاشيته اللعينة. ويغدق الوعود بعد الوعود بالكثير من الرحمة والصلاح وحقوق الجماهير.

هذا كلُه رأيناه ولمسناه في أسابيع. فضحكنا ورقصنا وبكينا من الفرح. لكننا، بالمقابل، بكينا بدم. شعوبُنا المُداسة بأحذية الجنود وسياط الأمن الخاص نائمة أو خائفة أو ميتة. بعضُها كان غادرا وجبانا وانتهازيا ومنافقا، بامتياز. تظاهر بعضُها مَجد القاتل ولعَن َالمقتول. هتف بحياة السارق وطلب الموت للمسروق. بعضُها الآخر ظل واقفا على التل، يتابع المعارك الدامية كما يتابع واحدا من مسلسلات رمضان. يسمع أنين الجرحى، ويرى اشلاء أشقائه تتناثر في الهواء، فلا يكترث. يشرب ويأكل وينام. ليس فيه شهامة ولا شرف ولا كرامة.

وبين هؤلاء وأؤلئك تظل تسيل الدماء، وتحترق المنازل، وتتهدم القلاع. هل رأيتم شوارع دمشق واللاذقية، وميادين صنعاء والمنامة، ومعقل الأخ العقيد؟

وفي النهاية، لا يجد ثوارنا الأشاوس من مُعين غيرَ طائرات الغرباء، ودبابات الأجانب، وصواريخ الطامعين القادمين من وراء البحار.
أمتنا أمة خربانة، والله العظيم.