إيران: ثورة تصادر و اخرى تولد من جديد

العلاقة مع القضية الفلسطينية و اسرائيل..الازدواجية و الانتقائية
کان لإنهيار نظام الشاه و نجاح الثورة الايرانية و إغلاق السفارة الاسرائيلية في طهران و إفتتاح سفارة لفلسطين فيها، بالاضافة الى استقبال الخميني لياسر عرفات، أکثر من دلالة قوية دفعت العرب بشکل خاص و المسلمين بشکل عام الى التفاؤل بهذا التغيير و عقد الکثير من الامال الوردية عليه، بل ان ياسر عرفات بنفسه قد راهن على النظام الايراني الجديد أکثر من أي طرف آخر في دعمه و مساندته للثورة الفلسطينية، وقد اعتقدت الاوساط السياسية و الاعلامية في المنطقة و العالم من أنه وبعد التغيير الذي حدث في إيران، فإن شکل و محتوى المعادلة القائمة في الشرق الاوسط ستتغير بصورة واضحة و سوف تترك آثارها وبصماتها على قضية الصراع العربي الصهيوني بشکل جلي.

الموقف الحدي الذي أعلنه الخميني من اسرائيل و الحميمية التي أبداها تجاه القضية الفلسطينية، لم تکن بمعزل أو بمنأى أبدا عن التيار العام السائد في اوساط الشعب الايراني و بين قواه السياسية المقارعة للشاه بمختلف إتجاهاتها، إذ أن معظم تلك القوى السياسية الايرانية وخلال حکم الشاه، وعلى الرغم من اوضاعها الصعبة جدا، لکنها کانت تعلن دعمها و مساندتها للقضية الفلسطينية و وقوفها الکامل مع الشعب الفلسطيني و قضيته العادلة، وحري بنا ان نشير هنا مرة أخرى الى عصبة فلسطين التي تشکلت عام 1970، والتي حاول أعضائها الاتصال بالمنظمات الفلسطينية و التدريب على استعمال السلاح و الکفاح المسلح و من ثم العودة الى إيران لمقارعة نظام الشاه و اسقاطه، وقد ألقي القبض فيما بعد على أعضاء المجموعة وهي کانت تحاول اجتياز الحدود و تمت محاکمتها و صدرت أحکاما بالسجن المؤبد على جميع أفرادها، لکن، وخلال عملية المحاکمة التي لفتت أنظار الشعب الايراني و تعاطف مع قضيتهم أيما تعاطف، کان هنالك أيضا حضورا قويا للقضية الفلسطينية و مظلومية الشعب الفلسطيني في فکر و وجدان الايرانيين. والامر الذي لابد من الاشارة إليه و التوقف عنده، هو أن الشاه قد ارتکب اخطائا فادحة کانت السبب في تهيأة الارضية المناسبة لمعارضته و اسقاطه، وأهمها حزمة الاصلاحاتquot;التغريبيةquot; التي جعل لها عنوانا براقا و ورديا هو: الثورة البيضاء، وکذلك تقربه و تودده غير الاعتيادي من الدول الغربية بشکل عام و امريکا بشکل خاص مضافا إليها اسرائيل، في الوقت الذي لم تحظى علاقاته بالدول العربية و الاسلامية بأي إهتمام ملفت للنظر وانما ظلت تتسم بنوع من الجفاء و البرود، ولم يکن هينا على شعب محافظ و ملتزم دينيا أن ينساق بسهولة خلف أهواء و نزعات الشاه بل وکان طبيعيا ان يفکر و يلتزم الاتجاه المعاکس تماما، والحق ان سياسة الشاه هذه قد ساهمت في إيجاد أرضية شعبية مناسبة جدا للتعاطف مع القضية الفلسطينية.

وقد کانت التصريحات النارية المتبادلة بين الخميني من جانب، و اسرائيل من جانب آخر في بداية أيام الثورة الايرانية، تمهد من وجهة نظر مختلف الاوساط السياسية المختلفة، لمرحلة جديدة تماما في تأريخ الصراع العربي الاسرائيلي بحيث تتغير فيها موازين القوى بشکل ملفت للنظر لصالح العرب، ويدخل فيها عامل مهم جديد، هو العامل الايراني بعمق اسلامي شيعي استراتيجي، وقد قيل استراتيجي لما کان يعول على الخميني في إستنهاض و تعبئة الشارعين الاسلامي بشکل عام و الشيعي بشکل خاص، لکن ومع مرور الوقت و تتابع الاحداث، لم يجد الشارعين العربي و الاسلامي من أية خطوة عملية و فعالة على الارض ضد اسرائيل و في صالح العرب، بهذا الاتجاه، سوى تلك الخطوة اليتيمة التي خطاها النظام الايراني بإغلاق السفارة الاسرائيلية و فتح سفارة فلسطين في طهران، لکنه خطى خطوات کبيرة أخرى بإتجاه أدلجة القضية الفلسطينية و توظيفها لسياقات خاصة جدا تصب في صالح أطروحة ولاية الفقيه الفکرية السياسية، وقد کانت أهم خطوتين له بهذا الشأن تتحدد فيما يلي:
1ـ إعلان آخر جمعة من کل شهر رمضان لکل عام کيوم عالمي للقدس حيث تقام فيها في إيران(وفي العالم کله کما کانوا يريدون)، مظاهرات حاشدة تدعو لتحرير القدس و فلسطين.
2ـ صب هذا النظام جهده بإتجاه القوى السياسية الفلسطينية ذات الطابع الاسلامي و سعى لاحتوائها و فرض تيار سياسي فکري يعبر عن موقفه المتشدد و رؤيته الخاصة بهذا السياق.
والغريب جدا، ان النظام الديني الايراني الجديد لم يوثق علاقاته مع الفصائل الفلسطينية الرئيسية في الساحة و لم يدعم منظمة التحرير الفلسطينية بنفس الزخم الفکري السياسي الذي تصدى من خلاله في البداية للقضية الفلسطينية، وانما ظل على مسافة محددة منها ولم تکن علاقته معها إلا ذات بعد بروتوکولي بحت بل وحتى انه لم يرقى في أغلب الاحيان الى مستوى علاقة الانظمة العربية الرسمية القائمة(والتي دأب في أدبياته الخاصة على إتهامها بالعمالة و التبعية)، ولم يکن من السهل أن تتوضح کل أبعاد الصورة بسهولة للشارع العربي الذي کان لايزال منبهرا و مأخوذا بالخطوة العملية الاولى له ضد اسرائيل.

لکن، وعلى الرغم من کل ذلك العداء الظاهري المستفحل بين النظام الايراني و اسرائيل، بيد انه بدأت تلميحات و تقارير تتسرب من هنا و هناك بصدد وجودquot;صيغة او صيغ تفاهمquot;وquot;طرق إتصال او تواصلquot;بين الجانبين، وهو أمر وان رفضه النظام و انکره بشدة، لکن تکراره و التأکيد عليه و الکشف عن تقارير دامغة تثبت إجراء إتصالات بين الجانبين، أثبت للعالم کله و للعرب و المسلمين خاصة، ان هذا النظام لايتوانى عن الاقدام على أي شئ في سبيل مصلحته و بقائه، وکان هذا هو السياق الاول لعلاقة النظام بإسرائيل، أما السياق الثاني للعلاقة، فقد تحدد و تجلى من خلال تفاهم ضمني على على إقتسام النفوذ و تحديده تبعا لذلك.

فضيحة(إيران کونترا)، او ماعرف بإيران غيت، لم تکن مجرد صفقة اسلحة عادية ابرمت بين النظام الايراني و اسرائيل بوساطة امريکية، وانما کانت قضية حساسة و خطيرة في ماحملته من مضامين عميقة و معبرة عن النهج السياسي الفکري للنظام الديني و دحضت و بشکل لايقبل الجدل کل مزاعم النظام بشأن موقفه من اسرائيل و امريکا و أماطت اللثام عن النهج البراغماتي لهذا النظام و إستعداده للإقدام على أي شئ يخدم مصالحه و نفوذه و يساهم في ترسيخ اسس و مرتکزات بقائه، و المثير في الامر، أنه بموجب الاتفاق الايراني الامريکي الاسرائيلي الذي أبرم في عهد الرئيس رونالد ريغان، کان هنالك 96 صاروخا من نوعquot;تاوquot;، قد تم إرساله من اسرائيل الى إيران على متن طائرةDC-8، إنطلقت من اسرائيل، کما تم أيضا ارسال 18 صاروخا تم شحنها من البرتغال و اسرائيل و تبعها 62 صاروخا آخرا ارسلت من اسرائيل، الغريب جدا ان صفقة إيران کونترا، قد أبرمت أثناء الحرب العراقية الايرانية عندما کان الموقف العدائي للنظام الايراني من الولايات المتحدة الامريکية و اسرائيل على أشده، وکانت هنالك شعار مرکزي يکرر يوميا يدعو الموت لأمريکا و اسرائيل، ناهيك من أن النظام قد أطلق لقبquot;الشيطان الاکبرquot;على الولايات المتحدة الامريکية، وکانت کل الامور في طهران تسير بإتجاه التصعيد مع الولايات المتحدة الامريکية ولم تکن هنالك من أدنى إشارة تدل على نوع من المهادنة او المساومة او الحوار مع واشنطن، ولذلك، وفي ظل الخطاب العقائدي المتشدد للنظام و کون الخمينيquot;الذي کان يمثل ذروة التشدد و التزمتquot;، يشرف بنفسه على الامور، إنفجرت فضيحة إيران کونترا التي کشفت أمرا معاکسا و مناقضا و مغايرا لظاهر السياسة الرسمية المعلنة للنظام، فکيف بما يجري اليوم خلف الکواليس مع النظام الذي الايراني الذي يشهد تراجعا مريعا على مختلف الاصعدة بل وان هتافات ضد الولي الفقيه نفسه بدأت تطلق في طهران نفسها وهو أمر لم يکن قد جرى مع الخميني، وان الجلسات السرية و البعيدة عن الاضواء المعقودة بين ممثلين من النظام الايراني و ممثلين عن الولايات المتحدة الامريکية والتي طفقت هي الاخرى تتسرب أنبائها و جانبا من اسرارها الى الصحافة، تؤکد بأن هناك ازدواجية إنتقائية لرجال الدين الحاکمين في إيران من حيث تعاملهم مع العديد من القضايا و الامور وان مايقولونه و يدعونه ليس بالضرورة أن يکون نفس الذي يبحثونه في مباحثاتهم السرية معquot;أعدائهمquot;وquot;مناوئيهمquot;.

والعودة الى المشهد الفلسطيني و الموقف الانتقائي للنظام الايراني من الفصائل الفلسطينية و إنتهاجه لسياسة تسير بإتجاه إيجاد مراکز قوى جديدة مناوئة لحرکة فتح بشکل خاص و منظمة التحرير الفلسطينية بشکل عام، فقد کان واضحا و جليا انه يبتغي خطا و نهجا سياسيا فکريا يعبر عنه في المشهد الفلسطيني و يميزه عن غيره من الخطوط و الاتجاهات السياسية و الفکرية الاخرى، وعلى الرغم من أن النظام الديني يرفع شعار الوحدة الاسلامية و ضرورة مايسميه توحد المستضعفين في صف جهادي واحد، لکنه لم يساهم مطلقا في توفير الارضية المناسبة لأي برنامج توحيدي او على الاقل يساعد على التقارب بين القوى الفلسطينية وانما نجح في خلق فجوة کبيرة في الصف الفلسطيني لم تکتف بشق وحدة القوى السياسية وانما فصلت السلطة و الارض الفلسطينية نفسها الى قسمين من الصعب جدا أن يتفقا بالصورة التي يحلم بها الشعب الفلسطيني. هذا الموقف الغريب من القضية الفلسطينية و مانجم عنه من إنشقاق فلسطيني فلسطيني في وقت يکاد الموقف الفلسطيني احوج مايکون للوحدة و التماسك و الانسجام في قبالة موقف اسرائيلي متعنت، هو في النهاية موقف يخدم اسرائيل قبل أي طرف آخر و يصب في مصلحته، وان توفير هکذا اجواء متوترة و غير مستقرة بين الفلسطينيين و المساهمة في تشتيتهم و إضعاف قوتهم و شوکتهم أمام عدوهم الرئيسي، مسألة فيها أکثر من تأويل و وجهة نظر، وللموضوع صلة.