جاء في الحديث الشريف: quot;لما خلق الله العقل قال له أقبل، فأقبل، ثم قال له أدبر، فأدبر، فقال: وعزتي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، بك آخذ وبك أعطي، وبك الثواب وبك العقابquot;.
إن التأمل العميق في هذا الحديث، يرشد المرء إلى جملة حقائق مهمة يتضح من خلالها کيفية سلوکه السبيل الأمثل الذي يقوده نحو الفلاح، وبلوغ مراحل متقدمة من الکمال. ففي هذا الحديث الشريف يشدد الله (عز وجل) على أهمية العقل، ودوره الحساس بالنسبة للإنسان، وكيف أنه لو استخدم هذه النعمة الإلهية استخداما صحيحا، فسيقوده ذلك في النهاية إلى سبل الرشاد والسؤدد.
إن الدلالة الإلهية على العقل ليست ابدا للمسائل العبادية المحضة ولا حتى لبعض المسائل الاجتماعية والحياتية، وإنما هو أبعد وأشمل وأکبر من ذلك بکثير، فهو حجة الله على الإنسان لکي يستخدمه في فهم النظم الثقافية جميعها أي النظام العقيدي، والنظام الاجتماعي، والنظام الاقتصادي، والنظام السياسي؛ إذ إن العقل حجة الخالق على خلقه، وبالتالي يجب على الخلق أن يتدبروا أيما تدبر في استخدام هذه الحجة الباطنة، وتوظيفها التوظيف الصحيح والأمثل والأجدى.
وفي القرآن الکريم آيات کثيرة تدل على أهمية العقل، والتفکر، والتدبر، والتحاجج، والاختيار، والتنبيه، والاعتبار، والتذکر، والتبصر، والتفقه... ولو تمعّنا في الآيات التالية مثلا: gt;إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلکم تعقلونlt;، وgt;وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمونlt;، وgt;کذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرونlt;،- لو دققنا فيها بنظرة ثاقبة و متعمقة، لوجدنا أن جميعها تدعو وتحث الإنسان على الاستخدام الأفضل والأمثل لعقله، وکأنها ترشده لکي يتحرر من إملاءات الواقع، والخروج والتحرر من الأنماط الدارجة التي تحجّر العقل وتضعه في زنزانة الجمود. ولن نذيع سرًّا من أن الدعوة الإسلامية قد بنيت أساسا على تحرير العقل من الخرافات والجمود والتحجر، مثلما هو الحال مع الکثير من الشرائح الثقافية المشبعة بالفکر الغربي، والمنقطعة عن جذورها الأساسية؛ حيث تعتقد هذه الشرائح أن المقاييس الصحيحة والمثلى کلها متيسرة في أيادي الغرب؛ لأنهم يعتمدون على العلم أو کما يزعم هؤلاء.
وليس هذا الکلام صحيحا؛ ذلك أن الکثير من القرارات المختلفة - سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية کانت-، قد ثبت فيما بعد بطلانها، وعدم جدواها، وفشلها الذريع. وإن الفشل الغربي في کل من أفغانستان، والعراق، وکذلك الهزة التي تشهدها المنطقة الآن، تثبت أنه ليس هنالك من رؤية مثالية للغرب تعصمه عن الخطأ، بل إن الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة أكبر شاهد على عدم وجود أي من المنطقية المثلى في البناء الاقتصادي الغربي؛ بحيث يعصمه عن الخطأ والاشتباه. وليس من المنطق أن نحكم على أية قضية أو إشکالية من خلال النظرة أو الرؤية الغربية لها؛ ذلك أن مسألة النظرة والرؤية الفکرية والعقلية لأي قضية أو شيء، إنما هي اساس نتاج عملية اختمار حضاري طويل تتداخل فيها جميع الأبعاد والاتجاهات، وهي تجسيد لعمق معنوي وحصيلة جوهرية لتراث کبير.
إننا من موقعنا الإسلامي عندما ندعو أو نحث على قضية أو حدث سياسي ما، مثلا، فليس لدينا أهدافا ضيقة أو محدودة الأفق من وراء ذلك، وإنما نبتغي ونريد أن نلفت إلى دور الإسلام الوسطي الاعتدالي بهذا الخصوص، (والذي نعتبره امتدادا للإسلام الاصيل الذي تعبد به آباؤنا وأجدادنا)، و أهمية إثبات حضوره على الساحة کطرف رئيسي وحيوي في حسم المسائل وحلحلتها، خصوصا عندما يتعلق الأمر بشعب عربي أو إسلامي؛ حيث إن القضية هنا تکون جوهرية ومحورية؛ لأنها تضعنا أمام مسؤوليتنا الشرعية في تحديد أصل المشکلة، ومحتواها، وأبعادها المختلفة، وتبعا لذلك تحديد الطريقة، أو الأسلوب الأمثل والأفضل للتصدي لها ومعالجتها وفق ميزان الشرع والرجحان العقلي.
إن الأمر المهم جدا، والذي يجب علينا دوما ملاحظته ووضعه في البال والخاطر، هو أن الشعوب عندما تنتفض وتثور، وبغض النظر عن الدوافع والأهداف التي ترتبط بتلك الانتفاضة أو الثورة، فلا بد من الإقراربضرورة أن ثمة معضلة بحاجة إلى حل. فإنه حينما تهمل مشکلة حيوية وجوهرية ما من قبل حکومة، فإنه تکون هنالك استحقاقات زمنية تتراکم من جراء ذلك. وأخطر ما في الأمر، أن تلك التراکمات تکون في العقلين الفردي والجمعي للإنسان، وهي تتجمع بصورة عوامل إرادية ولاارادية؛ إرادية من حيث العلم بأن هنالك مشکلة تحتاج إلى حل، ولاغرادية من حيث بحث الإنسان بفطرته عن طريقة حل لها في يقظته ومنامه. وعندما تصل التراکمات في العقلين الفردي والجمعي - بعلاقتهما القوية والجدلية ببعضهما - إلى حد بحيث لا تعد هنالك من مساحات لخزن المزيد، وهو ما يمکن أن نسميه نقطة الذروة، فليس أمام الفرد والمجتمع غير اللجوء إلى تفريغ ذلك التخزين الهائل عبر وسائل وطرق مختلفة، أهمها التظاهر والإضراب والتجمعات الجماهيرية الحاشدة، وحتى اللجوء إلى العنف. وعندما لا تکون هنالك من قيادة رشيدة ومقتدرة على بينة من الأمر کي تقود وتهدي هذه الجماهير المنتفضة إلى الطريق الأقوم لنيل مطالبها المشروعة، فإنه من الممکن جدا أن تتفاقم الأوضاع إلى درجة سلبية تؤثر على مصالح المنتفضين أنفسهم الذين انتفضوا أساسا من أجلها، تماما کما تنفجر القوة الغضبية في الفرد أحيانا، وبصورة استثنائية، فيلجأ إلى تحطيم الأشياء وإيذاء نفسه ومن حوله. فإن المجتمعات أيضا قد تلجأ في العديد من الأحيان إلى هکذا سبيل للتنفيس عن مکنوناتها وما تکبته طوال سنوات عديدة.
والحق أن هناك ضوابط وأسس ومرتکزات من الواجب الحتمي على المجتمعات مراعاتها وعدم المساس بها. وتتعلق جلها بالمال العام والنظام والأعراف السائدة، إذ يؤمن الإسلام إيمانا قويا جدا بمسألة النظام، ويمنحه أهمية قصوى لما له من تأثير کبير في أمن و سلامة استمرار الحياة الإنسانية نفسها، بل إنه يؤثر في استمرار الأوضاع السلبية العامة على الفوضى وعدم الاستقرار مثلما جاء في الحديث الشريف: quot;وال غشوم خير من فتنة تدومquot;؛ حيث إن الوالي الغشوم؛ أي الظلوم، لن يکون بمقدوره إلحاق أضرار جسيمة کتلك التي تحدث عند حالات الفوضى وانعدام الاستقرار والأمن. وإننا أمة حية متنوّرة ومفعمة بفيض الإسلام وعلومه وضوابطه الجمة، حري بنا أن نحرص دوما على الصالح العام من حيث حفظ ورعاية المال العام، وکذلك عدم الإضرار بالنظام العام والتسبب في حالة من الفوضى و اللااستقرار؛ لأن ذلك سيکون حتما في غير صالح الشعب نفسه، وانطلاقا من هذه الحقيقة، فإنه واجب شرعي وفرض عقلي يحتم على کل إنسان أن يستخدم عقله قبل الإقدام على أمر جسيم يکون من تبعاته وتداعياته إيجاد حالة من الفلتان الأمني، ولا سيما ونحن نواجه عدوا شرسا يتربص بنا على الدوام، ويحرص على الاستفادة من کل أمر استثنائي يحدث عندنا في سبيل مصالحه وأمنه الخاص وأهدافه الاستراتيجية. وعليه أن يعلم بأنه عرضة للمحاسبة أمام الله (عز وجل) على کل ما يبدر منه، خصوصا في هکذا حالات؛ إذ إن کل ما يعمله المرء من خير أو شر،عن قصد أو دون قصد، يجده في يوم الحساب محضرا أمامه، ويومئذ لا تنفع التبريرات الواهية شيئا؛ ذلك أنه أمام محکمة العدل الإلهية.
*العلامة السيد محمد علي الحسيني
*الأمين العام للمجلس الاسلامي العربي. [email protected]
التعليقات