الظهور السوريالي الأخير لنائب ماكان يسمى بمجلس قيادة الثورة البائد في العراق عزة إبراهيم الدوري و بيانه الحماسي التطوعي الذي يقدم فيه 20 ألف مقاتل عراقي بعثي دفاعا عن النظام الليبي الذي يخوض اليوم حرب وجوده الأخيرة يمثل حالة غريبة من حالات التعاطي و الشد و الجذب و الخصومة و العداوة و الصداقة و التحالف بين نظام البعث العراقي الذي كان ثم ساد ثم باد وبين النظام الجماهيري الموشك على الإنقراض.

فالعلاقة البعثية العراقية / الجماهيرية الليبية تظل واحدة من أغرب ملفات إدارة الصراع الإقليمي، فملك الملوك الإفريقي و أمير مؤمني القارة السوداء و إمغار أو سيد الصحراء الإفريقية الكبرى وبقية الصفات و العناوين التي ستتحول لنكتة سوداء في تاريخ الشرق الأوسط المعاصر كان في علاقاته مع العراقيين يسير في طرق و متاهات مختلفة و متباينة ولكنها مترابطة و مستمرة رغم عدم الثبات في بارومتر تلكم العلاقات، فاللعراق و نظامه السياسي السابق قصة طويلة وطريفة مع نظام معمر القذافي عبر أطواره المختلفة، وهي تشكل جزءا لا يتجزأ من مشاهد مسرح اللامعقول في السياسة العربية، و العلاقات العراقية الليبية رغم أطوار الخصومة الشديدة التي شابتها إلا أنها ظلت قائمة و مشدودة وفق خيط رفيع بقي معلقا حتى النهاية لتتغير الصورة بعد إحتلال العراق وسقوط نظام صدام حسين عام 2003 وهو الحدث الذي هز أركان العالم العربي و أرعب نظام العقيد القذافي بشكل لايوصف و سرع في قرار تخليه الكامل وغير المشروط عن أسلحة الدمار الشامل التي كان يمتلكها و أدى أيضا لإعترافه بالبلاوي التي إقترفها نظامه و مخابراته من خطف و تفجير للطائرات و الملاهي و من إغتيالات و من دعم لجماعات الإرهاب الدولي و تكلفه بتقديم مليارات دولارية سخية لدول الغرب على سبيل التعويض المادي و كثمن لإعادة التأهيل للإنخراط في المجتمع الدولي وهو ماحصل فعلا ولكن إلى حين كما تبين لاحقا وحيث يعيش النظام الليبي اليوم أيامه الأخيرة و لحظاته المصيرية بعد أن حسم الشعب الليبي الملف و الموقف وصنع ثورته الشعبية الكبرى التي غيرت وجه تاريخ ليبيا المعاصر..

لعلاقات نظام البعث العراقي السابق مع نظام العقيد القذافي إرهاصات مبكرة للغاية تعود أساسا للأيام الأولى لإنقلاب الملازم معمر بو منيار القذافي وزملائه من صغار الضباط في ألأول من سبتمبر / أيلول 1969 ضد الشرعية الدستورية ممثلة بالأسرة السنوسية التي قادت الجهاد الليبي و أسست ليبيا الموحدة الحديثة، في ذلك الصباح الأغبر تناقلت الأخبار نبأ إستيلاء بعض الضباط الليبيين على السلطة و إسقاطهم لعرش الملك إدريس السنوسي الذي كان خارج ليبيا وقتذاك، وقد إهتم نظام البعث العراقي الناشيء وقتذاك بالموضوع وخصوصا من طرف الرئيس العراقي الأسبق الراحل أحمد حسن البكر الذي كان بحكم خلفيته العسكرية يعلم بأن غالبية ضباط الجيش الليبي كانوا من خريجي الكلية العسكرية العراقية ؟، لذلك فقد حرص نظام البعث العراقي على الإسراع بالإعتراف بالنظام الإنقلابي الليبي الجديد وقتذاك وقام على الفور بإستدعاء أحد الضباط العراقيين المقربين له وكلفه بمهمة نقل رسالة شخصية عاجلة من مجلس قيادة الثورة العراقي لمجلس قيادة الثورة الليبي ولم تمض بعد ستة أيام على إنقلاب القذافي و جماعته حتى حطت طائرة عسكرية عراقية من طراز أنتينوف الروسية بإحدى القواعد الجوية العسكرية في طرابلس الغرب ومن هناك تم إستقبال الضابط العراقي المبعوث و كان برتبة نقيب وقد إستقبله في البداية الرائد الخويلدي الحميدي عضو مجلس قيادة الثورة الليبي ثم الرائد عبد السلام جلود نائب رئيس المجلس حتى تمت مقابلة قائد الإنقلاب معمر القذافي الذي رحي بالموفد العراقي وشكر الحكومة العراقية على موقفها الإيجابي و سرعة إعترافها بالنظام الجديد قبل أن يستوقف المبعوث العسكري العراقي الخاص و يسأله عن إسمه وكان إسما كرديا ( آزاد ) فالضابط العراقي كان كردي.. وهنا إنتفض القذافي كمن لدغته أفعى و أرعد وأزبد وأحتج قائلا : ألا يوجد في العراق رجال لكي يرسلوا لنا كرديا ؟ وأردف قائلا وهو يمط شفتيه بإلتواءة غريبة ليقول : أين مملكة الأكراد هذه ؟ وهل هم بشر ؟ ثم رفض القذافي إستلام رسالة الرئيس العراقي ( البكر )!! وعاد الموفد للعراق وهو في حالة دهشة كاملة مما حدث! من هذه الحادثة الغريبة والتي لم يذكرها أحد سابقا يتبين بأن الآفاق التعليمية و العلمية لذلك القائد الإنقلابي تكاد تكون معدومة بل محدودة بالكامل و إن معرفته بالعالم العربي هي معرفة سطحية مثيرة للشفقة ولم يكن يتخيل فضلا عن أن يعلم بأن الأكراد في العراق هم عنصر رئيسي من عناصر الشعب العراقي وإن وجودهم الفاعل في المؤسسة العسكرية العراقية هو أمر شاخص بل أن قائد أول إنقلاب عسكري في العالم العربي عام 1936 وهو الفريق بكر صدقي كان كرديا.

المهم أن مياها عديدة قد جرت تحت كل الجسور وقد تم تجاوز تلك الحادثة الغريبة و تطورت العلاقات العراقية الليبية في الشهور ألأولى للإنقلاب قبل أن تنتكس بعد إنقلاب العقيد هاشم العطا في السودان عام 1971 وقيام الحكومة الليبية بإحتجاز طائرة قائد الإنقلاب السوداني و تسليمه للرئيس السوداني وقتذاك جعفر نميري الذي أعدمه!! وكان ذلك الإنقلاب مدعوم من البعثيين العراقيين، ثم دخلت ليبيا في أطوار مغامراتها الوحدوية وفي حكايات و أساطير ما كان يسمى بدول الصمود و التصدي قبل أن تتغير الأمور في الشرق الأوسط بعد الثورة الإيرانية عام 1979 و تهليل القذافي لها رغم أن الخميني لم يسمح أبدا بنزول طائرة القذافي في طهران للتهنئة بالثورة قبل معرفة مصير الإمام موسى الصدر زعيم الشيعة في لبنان الذي إختفى في ليبيا ولم يخرج منها بعد زيارته لها صيف عام 1978!! وهو الملف الغامض و المفتوح حتى اليوم !، ثم نشبت الحرب العراقية/ الإيرانية عام 1980 و التي إتخذ فيها القذافي موقفا مؤيدا للجانب الإيراني مما دفع حكومة صدام حسين لسحب الإعتراف العراقي الرسمي بالجماهيرية الليبية وحيث دخل النظام الليبي في هذه المرحلة بعلاقات عمل و تعاون واسعة مع المعارضة العراقية القومية و الكردية و الدينية العراقية وكانت الوفود العراقية المعارضة تشحن بالطائرات أسبوعيا من مطار دمشق لتهتف عناصرها في حضرة العقيد بالشعار الليبي المعروف ( وحدوية الفاتح )! وقدمت ليبيا القذافي ملايين الدولارات لرؤوس وقادة تلك المعارضة و التي إستثمرها البعض منهم في مشاريع إستثمارية وصناعية في أوروبا وبرزت أسماء وعناوين كونت تنظيمات سياسية مسلوقة تنتهج النهج الليبي في إقامة المؤتمرات الشعبية و اللجان في كل مكان!! مثل السياسي البعثي السابق إياد سعيد ثابت الذي شكل مايسمى بمؤتمر القوميين الوحدويين الإشتراكيين وكذلك المرحوم اللواء مصطفى النقيب الذي شكل تنظيما عسكريا معارضا بالأموال الليبية إسمه ( قوات الثورة العراقية )! و التي تموضعت في شمال العراق في الحدود الإيرانية قبل أن يمنعها النظام الإيراني و يصادر أسلحتها لأن للنظام الإيراني تشكيلاته العسكرية الخاصة من العراقيين وهي قوات المجلس الأعلى للثورة الإيرانية في العراق!! عام 1981، كما كانت وفود المعارضة العراقية السابقة في جبهتي ( جوقد ) الجبهة الوطنية و القومية التقدمية العراقية و ( جود ) الجبهة الوطنية العراقية ومقرهما دمشق و التي تضم الأحزاب الكردية المتنافسة و تنظيم البعث العراقي المرتبط بالقيادة السورية و كذلك الشيوعيين و القوميين الناصريين و حركة الإشتراكية العربية و الكثير من الدكاكين و العناوين لموديلات أحزاب تلكم الأيام ثم دخل كذلك أهل حزب الدعوة في مهرجان القبض من النظام الليبي بذريعة ( الصراع ضد الفاشية في العراق )! و بهدف إقامة اللجان و المؤتمرات الشعبية في العراق!! وطبعا جميعها كانت شعارات للنصب و الإحتيال الثوري!!... و هبش ما تيسر من أموال جماهيرية العقيد الأخضر و في النهاية فإن ( رزق الهبل على المجانين )!.. كما برز النصابين و أهل الثلاث ورقات من محترفي عصابات النصب السياسي الذين كانوا يجمعون العاطلين من العراقيين من مقاهي الشام ( الروضة ) و ( الهافانا ) و (الكمال ) و بار ( القنديل ) و يشحنوهم في الطائرات الليبية على أنهم من انصار المؤتمرات الشعبية ثم يهتفون هناك و يعودون من هناك بعد إستلام المعلوم!، لقد كانت أياما رائعة و مربحة لأهل النصب الثوري الأصيل قبل أن يأتي موضوع ( لوكربي ) نهاية عام 1988 ثم المقاطعة الدولية شبه الشاملة التي عاشها نظام القذافي لتخف حركة الوفود الإرتزاقية لحد كبير وفي ظل التحولات الدائمة وغير المستقرة في فكر و توجهات رأس النظام بعد أن أسدل الستار نهائيا على فكرة الوحدة القومية العربية و إنقشاع غبار أسطورة ( أمانة القومية العربية ) التي حملها القذافي بالنص عن جمال عبد الناصر!!، لتتغير الأمور مع حالة الإفلاس التي أصابت المعارضة العراقية أواخر ثمانينيات القرن الماضي بعد توقف الحرب مع إيران وحيث تشتت المعارضة العراقية في المنافي و أنكفأ نظام القذافي في معالجة مصائبه قبل أن تتكفل عملية إحتلال صدام حسين لدولة الكويت عام 1990 بإنقلاب المعادلات و ضخ الدم في شرايين المعارضة العراقية الميتة و الجافة! وكان موقف القذافي من غزو الكويت كما هو معلوم فيه إستمالة واضحة للجانب العراقي وحيث تقارب النظامان بدرجة غير معهودة في السابق و نشطت حركة الإتصالات الدبلوماسية بين النامين المعزولين ثم جاء إحتلال العراق و سقوط نظام البعث العراقي عام 2003 ليحمل الرعب للنظام الليبي الذي تدارك نفسه وحاول إنقاذ مايمكن إنقاذه من خلال التخلي عن برنامجه التسليحي و سعيه لتسوية الخلافات مع الغرب حول عمليات الإرهاب الدولي التي تورط بها نظام القذافي وفاوض أحد كبار رجال نظامه وهو وزير الخارجية الليبي اللاجيء حاليا لبريطانيا موسى كوسا من أجل دفع التعويضات المالية الكبيرة و تسوية و إغلاق الملفات ورفع الحظر عن النظام وهو ماتحقق فعلا و بسرعة عجيبة، ولكن ظلت خيوط العلاقة مع البعثيين العراقيين قائمة وحيث قابل البعثيون معمر القذافي طالبين منه المساعدات المادية و اللوجستية و فتح فضائية إلا أنه نهرهم قائلا بأنه لا يريد أن يرى جنود جورج بوش يتجولون في طرابلس!

وجرت مياه عديدة تحت كل الطرق و الجسور حتى قام القذافي في يوم 22 /2/2009 بالإتصال بمندوب جماعة عزة الدوري في العاصمة الأردنية عمان عن طريق مبعوث ليبي خاص هو السيد ( الراجي عبد العاطي مفتاح ) أحد رجال إبنة العقيد عائشة القذافي مقترحا على المندوب البعثي العراقي إيصال إقتراح لعزة الدوري يتضمن قيام حزب البعث العراقي بحل نفسه و الإندماج مع حزب البعث السوري و تشكيل قيادة بعثية مشتركة قوامها 16 عنصر سوري مقابل 8 عناصر عراقية على أن يكون الأمين العام هو بشار الأسد و نائبه عراقي وقد أبلغ القذافي العراقيين بأنه تفاهم في ذلك الإقتراح مع بشار الأسد شخصيا وحظي بموافقته!! وهنا أعلن المندوب العراقي بأنه سيرسل الإقتراح الليبي لقيادته في العراق و سينتظر الرد.. وهو الرد الذي رفضه عزة الدوري قائلا بأن الظروف الحالية لا تسمح بالسعي لتنفيذ ذلك الإقتراح فرد القذافي قائلا: إنها فرصتكم الأخيرة يا بعثيين.

لذلك فحينما يظهر اليوم شبح عزة الدوري وهو يتضامن مع نظام القذافي في حالة إحتضاره النهائية فهو إنما يرسم طريق كان قائما و معبدا للتواصل، رغم ان نهايات الفاشيين واحدة مهما بلغت تعقيدات و جاهزية أنظمتهم القمعية و الإرهابية، التاريخ لن يعود للوراء أبدا، ونهاية البعث العراقي قد رسمت معالم الطريق لنهاية كل الشموليين.. تلك هي الحقيقة وماعدى ذلك ليس سوى تفاصيل و حشو فارغ.. إنها حكاية البعث القذافي وقد وصلت لنهاية الطريق..

[email protected]