عندما يختار شعب ما الديمقراطية، كنظام للحكم، فعلى الدولة بجميع مؤسساتها أن ترقى لمستوى هذا الطموح من خلال تأهيل المجتمع ليكون ديمقراطيا ً. أما إذا أتت الديمقراطية من الخارج كعلبة من الحلوى فعلى من أتى بها أن يقنع الشعب بأن الديمقراطية هي أرقى نظام لإدارة الدولة، ومن ثم يؤهل المجتمع ليكون ديمقراطيا ً بعد أن يقنع الشعب وتصبح الديمقراطية خيارا ً شعبيا ً لانخبويا ً. لكن السؤال المهم هنا، كيف يقتنع الشعب بالديمقراطية كنظام إذا كان الدولة تسبح عكس الديمقراطية!

لابد أن نعترف هنا بأن الشعب العراقي قبل بالديمقراطية كنظام وصارت خيارا ً شعبيا ً بعد سلسلة من الإخفاقات السياسية منذ سقوط الملكية. إن هذه القناعة جائت ليس بفضل السياسيين الحاليين الذين هم ليسوا بديمقراطيين داخل أحزابهم، وليس بفضل الولايات المتحدة الأمريكية التي عاثت بالأرض فسادا ً، حيث لم تكن الثقافة الأمريكية في يوم من الأيام النموذج المفضل في الشارع العراقي. ولكن جائت بعد أن وصل العراقيين إلى قناعة بأن الديمقراطية هي الحل الأمثل لدولة مثل العراق، فيها التعددية الإثنية والدينية والطائفية، وبعد رؤية النماذج الناجحة في الديمقراطية لبلدان عديدة ليست بغربية، كالهند وتركيا وماليزيا. ولو لم يحتل العراق لكان أول من هبت رياح التغيير عليه في ربيع الثورات العربية، ولسوف لن يقبل العراق بنظام غير الديمقراطية كمشروع للأجيال القادمة، رغم المعوقات الكثيرة كالثقافة القبلية والدينية والتي تصتدم بأسس الديمقراطية. ولكن دعونا لاننسى بأن ماحدث بالعراق من غزو، من جهة، ومن سقوط دكتاتور، من جهة ثانية، حرك المياه الراكدة وأسس لحالة من الرفض التي قوضت العديد من الأنظمة في المنطقة، بعد أن زال أعتى نظام دكتاتوري فيها.

إذن، الديمقراطية كمشروع وطني لابد من دعمه من قبل الدولة وعلى الحكومة أن تتبنى هذا المشروع من أجل تحويل مؤسسات الدولة إلى النظام الديمقراطي من خلال الامركزية في الإدارة ومن خلال القضاء على الفساد والبيرقراطية. أما على المستوى الشعبي فعلى الدولة أن ترسخ الثقافة الديمقراطية لتحويل المجتمع إلى مجتمع ديمقراطي حيث الرأي والرأي الآخر، والقبول بالتعددية كأساس من أسس الديمقراطية. لكن الذي نشاهده في العراق مع الأسف الشديد هو سباحة عكس الديمقراطية! فجل النخب السياسية في العراق لاتعمل بطريقة ديمقراطية، بل تعمل ضد الديمقراطية فضلا ً عن دعمها كمشروع وطني فيه الخلاص للكل.

فشاهدنا كيف يتم دعم العشائر العراقية من أجل دعم أطراف على حساب أطراف أخرى، وشاهدنا كيف يحارب الأعلام من خلال غلق الفضائيات أو رفع الدعاوى على صحف من أجل التضييق على حرية الرأي فيها، وكيف تفرض الأمول الطائلة على الفضائيات كرسوم من أجل حصر المجال العام لفئة معينة هي حكومية أو دينية أو من تملك المال من أجل تمرير خطاب واحد محددة معالمه سلفا ً. فالمجال العام في النظم الديمقراطية لابد أن يكون متاحا ً للكل من أجل التداول والتشاور للوصول لخطاب موحد يحدد ماهي المصلحة العامة في البلد. أما دعم التيارات الدينية ودعم الزيارات الدينية فواضح وضوح الشمس، وهو يعني تخلي الدولة عن كونها نقطة الصفر المعتدلة بين كل الأطراف في النظام الديمقراطي. وأخيرا ً وليس آخرا ً، هو رواتب المسؤولين الحكوميين وإمتيازاتهم وعلى رأسهم الرئاسات الثلاث ونواب البرلمان الذين ترقى إلى مصاف دول العالم الغنية ذات الدخول العالية لشعوبها، حيث نشئت طبقة غنية على حساب طبقات اجتماعية أخرى. فهذا خرق صارخ لمبدأ من مبادء الديمقراطية وهو العدالة والمساوات بين أبناء الشعب الواحد من خلال تقليل الفوارق الطبقية.

إذن، هي سباحة عكس الديمقراطية، وفي الخصوص حين لانسمع دعما ًحكوميا ً لمراكز بحثية ولا لندوات أو قرارات جادة بدعم الديمقراطية في العراق كمشروع وطني. بل نسمع تضييق للحريات العامة، وتضييق على حرية التعبير وآخرها أن لايتم التظاهر إلا في ملاعب كرة القدم التي حددتها الحكومة مسبقا ً. لا أعرف كيف خرجت الحكومة العراقية بهذه التخريجة الغير دستورية. فلمن يعبر عن رأيه من يتظاهر في ملعب كرة القدم؟ هل هو ضحك على الذقون؟

إن على السياسيين الحاليين في الحكومة وخارجها أن يفهموا بأن الديمقراطية مشروع لاينزل من السماء، بل هو سلوك وطريقة للحكم والإدارة ولابد من تطويره ورعايته من أجل إقناع الآخرين به. فلابد من فتح المجال العام الذي تتم فيه النقاشات والمداولات من خلال تخفيف الضغط على وسائل الإعلام بكل صنوفها، ولابد من تداول الديمقراطية اكاديميا ً من خلال مراكز الأبحاث لوضع خارطة طريق ترينا كيف يمكن أن نصل إلى مجتمع ديمقراطي، هذا فقط إذا كان سياسيونا جادين في مشروع الديمقراطية كحل لمشاكل العراق.


[email protected]
http://www.elaphblog.com/imadrasan