سئلت زميلي باحث الفيزياء الملحد عندما كنا ندرس في الاتحاد السوفيتي إبان الحقبة الشيوعية لماذا لا تؤمن بوجود الله؟ فضحك بطريقة تغيرت معها ملامح وجه الأشقر.. ربما لأنه فوجئ بسؤال غير متوقع وخصوصا أن مثل هذه الأسئلة لم يكن مسموحا بها آنذاك. ثم رد قائلا ومن هو الله؟ أجبته هو القوة الوحيدة ذات القيمة العظمى المطلقة الخالقة لهذا الكون الفسيح اللا محدود والمهيمنة عليه في المكان وعكس المكان..في الزمان وعكس الزمان. قال إن كان الأمر كذلك إذن فأنا مؤمن مثلك غير أن إيماني بهذه القوة العظمى هو إيمان فطري جيناتي لا يثبته العلم ولم ينفه أما أنت فتحاول أثبات وجودها بالعلم المحدود وأنا أعتقد أنها لا زالت فوق العلم بكثير. انتابتني حالة من الصمت والتعجب من إجابته غير المتوقعة وقلت له فلماذا تقول عن نفسك إذن أنك ملحد ولا تؤمن بالله؟

أجاب قائلا لأن الله الذي تتحدث عنه له صفات وأسماء ومعاني كثيرة عند البشر... عند اليهود بكل مللهم وأسباطهم... عند المسيحيين بكل طوائفهم وكنائسهم... عند المسلمين بكل الطوائف والمذاهب... ولكل مذهب فكره وأيدلوجيته الفقهية الخاصة به والكل يدعي أنها الحقيقة المطلقة والآخر هو الخطأ وهذه المذاهب والطوائف والطرق بالآلاف، والكل يخبرك أنه على الصواب والآخرين في ضلال مبين... الفرق بيني وبينك يا صديقي أن كلانا مؤمن ولكن بكتالوجات مختلفة.

قلت له عندك حق.. فالله الواحد الثابت في ذاته لا تتغير صفاته ولكن البشر مختلفون وبما أن الإنسان يختلف عن أخيه الإنسان في قوى العقل والحكمة والمنطق والثقافة وغيرها، ولأن الإنسان محدود في طبيعته فبالتالي سوف يقبل الأيمان بالله غير المحدود بطريقة مختلفة عن الآخر. والفيصل في الأمر هو مخرجات هذا الأيمان الفطري والذي يجب أن يترجم إلى معاملات طيبة بين البشر على أساس من المواطنة المتكافئة في الإنسانية والتعاون بين جميع البشر من أجل الحياة الأفضل.

عندما تذكرت هذا الحوار تولدت في عقلي قناعة فكرية بوجود فرق كبير بين الأيمان كطاقة روحية داخلية كامنة ومتمركزة في أعماق الإنسان، أي إنسان، وبين قوى النصوص الدينية الثابتة كقوى خارجية يمكن أن تدخل إلى عقل الإنسان وتشتبك معه في حوار عادة ما ينتهي لصالح النص عند البسطاء أو لصالح كل من النص والعقل معاً عند العقلاء.

فالإيمان طاقة كامنة في أعماق كل إنسان تتوافق تماماً مع حاجته الفطرية إلى الامتلاء من السلام والشعور بالطمأنينة. وقوة الإيمان هذه ليست حكراً على أصحاب النصوص السماوية بل يتمتع بها كل سكان الأرض، كل على حدة فيختلف الشعور والإحساس بمقدارها واتجاهها وخط عملها من إنسان لإنسان آخر بالاعتماد على عوامل البيئة والثقافة.

والأيمان لا يدخل في صراع ومواجهات مع العقل مثلما يفعل النص. وذلك لأن النصوص أحياناً ما ترفض طريقة تعامل العقل معها وتعلن عليه الجهاد بسبب شكوك العقل وتمرده عليها. على عكس الأيمان الذي يتصالح مع العقل فلا يعتدي أحدهما على الآخر بل هما في معاهدة سلام سرية لا يمكن للإنسان الإفصاح عنها. فقبول العقل الإنساني للإيمان يختلف بالتمام والكمال عن قبوله للنص. ذلك لأن الإيمان يخضع لعمليات التفاضل والتكامل فيتغير كماً ونوعاً فكمية الإيمان يمكن أن تزداد ويمكن أن تتناقص وبذلك نجد الإيمان منسجماً بطريقة أو بأخرى مع العقل الذي يتغير هو الآخر بعكس النصوص الثابتة غير المتغيرة والتي لا يمكن أن تمس.

وهل يستطيع أحد أن ينكر أن التغيير هو القانون المهيمن على هذا الكون الذي نعيش فيه.. فكل شيء يتغير بمعدلات خاصة به ولا يوجد استثناء لهذه القاعدة على وجه الإطلاق. فالمادة تتغير بل وتتحول من مادة إلى مادة والإنسان أيضاً يتغير في كل لحظة.... يتغير وزنه وطوله، وشكله في كل لحظة.. حتى المشاعر والأحاسيس والوجدان والضمير والفكر.. كل ذلك يتغير بمعدلات تختلف من شخص لآخر كما تختلف باختلاف المكان والزمان، حتى أن معتقدات الإنسان تغيرت على مر التاريخ ومازالت تتغير وما كان الإنسان يعتقده حقيقة في الماضي يعتبره اليوم خرافة وما أدراك ما الذي سوف يعتقده الإنسان بعد آلاف السنين!

لذلك ظلت المواجهات بين قوى العلم التي اكتسبها الإنسان على مر العصور من جهة وبين قوى النصوص الدينية من جهة أخرى في حالة نشاط دائم على مر السنين وحتى يومنا هذا وكانت تلك المواجهات تنتهي بالتصالح أحيانا أو الهدنة في معظم الأحيان.

وعندما كان يصطدم العقل مع النص كان النصر دائماً حليف النص انطلاقا من مبدأ قصور العقل البشري وكمال النص الإلهي. وكان على الإنسان البسيط والذي لم يمتلئ عقله بعد من نور العلم أن يملئ عقله بالنصوص وبازدياد كمية النصوص الدينية غير المفهومة داخل العقل تتناقص كمية النشاط العلمي حتى إذا ما امتلأ العقل البشري بأكمله بالنصوص غير المفهومة أو المفهومة بطريقة خاطئة يصبح العقل عاجزا عن الحركة بحرية غير قادراً على الإبداع والابتكار.

في هذا الظلام الدامس فإن العقل يتوه ويدخل عالم الفوضى ويفقد البوصلة اللازمة للتحرك في الاتجاه الصحيح وبذلك لا يكون أمامه إلا التحرك إلى عالم التخلف والجهل أو عالم التطرف والانتحار وكل ما هو ضد الحياة. ولعلنا نلاحظ أن معظم المشاكل والصراعات الموجودة في العالم الآن هي نتيجة مباشرة للتمسك بالنص بدون الفهم الصحيح المتلازم مع استحقاقات المكان والزمان سابقا وتغيرهما حاليا.

لقد عزل العالم العربي نفسه عن العالم أجمع فبات العالم كله شرقا وغربا شمالا وجنوبا في واد والعرب وحدهم في واد آخر... العالم دخل مرحلة العمل وهو الآن في مرحلة الحصاد.. والعرب لا يزالون في مرحلة القيل والقال والتي ربما عمرها يتعدى مئات السنين ونسوا أو تناسوا أن الزمن تغير وتغيرت معه الحياة والعقول...

ليس أمام العالم العربي إن أراد أن يلحق بركب الحضارة والتطور والحياة الكريمة إلا التمسك بخيار إقامة دولة المواطنة.. تلك الدولة المدنية التي تحمي نعمة الإيمان لكل مواطنيها على حد سواء وحقهم في ممارسة شعائرهم ومعتقداتهم أيا كانت بتكافؤ ومساواة... عليهم القبول بدولة يتصالح فيها الإنسان مع أخيه الإنسان بغض النظر عن اختلاف العقول والنصوص والثقافات والأجناس. على الشعوب العربية عدم تمكين أية قوى سياسية من التي تستخدم السياسة في الدين، أو التي تستخدم الدين في السياسة، أو أية قوى هجين من التي تستخدم الدين في السياسة والعكس لأنها جميعها قوى غير صالحة للحكم لأنه سوف يأتي الوقت إن آجلا أو عاجلا ويحدث تطابق القوى المتعاكسة على خط عمل واحد فتتلاشى المحصلة وتصبح صفرا كبيرا.

علميا فإن القوى التي تحكم بمعايير مزدوجة لقوى متعاكسة الاتجاهات تكون ازدواجا يكون مقدار قوة عزمه (moment of couple) ثابتا لا يتأثر بالمكان ولا الزمان وتكون النتيجة مضيعة الوقت والجهد والمزيد من التخلف بسبب بقاء الصراع بين قوى النصوص الثابتة وقوى العلوم المتغيرة في حالة نشاط تصادمي عكسي يستنزف طاقات البلاد والعباد.

[email protected]