يبدو أن الأحداث التي تمر بها المنطقة تكشف عن الشيء الكثير فيما يخص الهوية الوطنية في كثير من الدول العربية. ففي أحيان معينة تختزل الهوية الوطنية لتأخذ صبغة طائفية, أو قومية, أو يحتكرها حزب واحد يتبنى أيدلوجية واحدة, وفي أحيان أخرى تكون الهوية الوطنية مشوهة حين لايعترف بها المهمشون والمضطهدون, وحينما تكون الوطنية مجرد أوراق يحملها الفرد حين يسافر فقط, أما ماهو أسوء فهو حينما تكون الهوية الوطنية مشروع لم يبدأ بعد! ماهي الهوية الوطنية (National identity), وهل يتمتع بها مواطنوا الدول العربية؟
الهوية هو الشعور بالإنتماء لشيئ ما يعرف الإنسان نفسه به, حيث تكون قيمته ويرتبط وجوده بهذا الإنتماء. أما الهوية الوطنية فهو الشعور بالإنتماء لوطن أو أمة معينة من خلال شعور مشترك مع باقي أبناء هذا الوطن والأمة, بغض النظر عن حالة المواطنة. إن الهوية الوطنية تحمل عناصر معينة تعرف نفسها بها, كالرموز الوطنية, اللغة المشتركة, التاريخ المشرك أو الوعي الوطني. إن الشعور بالوطنية هو الوجه الجميل للهوية الوطنية, أما وجهها السيء فهو الشعور الشوفيني عندما ترتبط بقومية أو طائفة معينتين. لابد أن نوضح هنا بإن مصطلح الهوية في إطار النظريات الحديثة هو مفهوم متحرك غير ثابت يتمتع بديناميكة ذاتية تبدأ من الفكرة وتنتهي بالفعل. فهي صيرورة تتفاعل مع محيطها لتبني نفسها ضمن سياقات محددة. وعندما نقول أن الهوية تبدأ بفكرة فيعني هذا أن وراءها مشروع واضح المعالم وهي لاتولد مع الإنسان بالفطرة, وعندما نقول بإنها فعل وصيرورة فهذا يعني أن عملية بناءها بحاجة لعناصر محددة تكون هذه الهوية, وبحاجة أيضا ً إلى ديمومة وعملية بناء وصيانة مستمرة. فالهوية الوطنية هي مشروع يبدأ ولن ينتهي, بل في حركة تكاملية مع الواقع المتجدد.
لم يكن العالم العربي يعرف الهوية الوطنية بمفهومها الحديث, فهي أتت عقب التحرر من الهيمنة العثمانية والتي بنت هويتها على أساس إعتقاد ديني, ذو هوية طائفية معينة. أما مواطنوا الدول العربية فإنتمائهم موزع بين القبيلة والمدينة أو ولاء طائفي منقسم على بعضه. وبعد تحرر الدول العربية من هيمنة العثمانيين, بمساعدة البريطانيين والفرنسيين, كان النموذج الغربي لتأسسيس الدول هو على أساس الهوية الوطنية وهو النمط السائد في ذالك الوقت. فبالإتفاق بين الفرنسيين والبريطانيين في إتفاقية سايكس بيكو, تقسمت المنطقة إلى دول وصار لها هويات وطنية مستوردة على الطريقة الغربية, وذلك بعد أن خرج المحتل البريطاني والفرنسي من المنطقة. لكن مفهوم الهوية الوطنية الجديد في الدول العربية لم يتم تنميته وتطويره ليشمل الجميع في رقعة جغرافية محددة, فإختزل في قبيلة أو طائفة أو قومية معينة في حين يهمش الآخرين ليدخل الشعب الواحد في تناحر مستمر على السلطة في عملية إقصاء متبادل. فإن كانت الهوية الوطنية تبدأ بفكرة وتكتمل بالفعل فإن الفكرة التي بنيت عليها الهوية الوطنية في العالم العربي هي فكرة غربية, أما الفعل فهو فعل قومي أو طائفي أو مناطقي.
ففكرة الدولة الحديثة ظهرت في أوربا سنة 1648 بعد أن ظهر مفهوم الدولة ذات السيادة في إتفاقية السلام في ويستفاليا (Peace of Westphalia) في المانيا بعد حرب الثلاثون عاما ً في الإمبراطورية الرومانية المقدسة, وحرب الثمانون عاما بين اسبانيا وهولندا التي كانت تضم سبع جمهوريات وتسمى البلاد المنخفضة. ففكرة الدولة ذات الحدود الجغرافية المحددة والسيادة على أراضيها الجغرافية وطبيعة العلاقات الخارجية بين الدول, حيث تكون الدول متساوية, وأقر مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى, وأقر أيضا ًحق تقرير المصير في صلح ويستفاليا. إذن هذه هي الفكرة وراء إنشاء الدول في العالم العربي بعد إتفاقية سايكس بيكو, أي إنه مشروع غربي أريد منه إدخال الدول المستقلة حديثا ً عصر الحداثة من خلال الدخول في مفهوم الدولة الحديثة. لكن هذا المشروع لم يكتمل مع الأسف لغياب الوعي لدى الشعوب بأهمية هذا المشروع, عدا قلة قليلة من المثقفين المتنورين والذين جوبهوا بشتى أنواع الرفض من السلفيين والتقليديين من العروبيين الذين كانوا يركضون وراء وهم الوطن العربي الواحد من جهة, ومن جهة أخرى الإستعمار والذي تباطأ في عملية التحول من أجل إستغلال موارد هذه الدول.
فالمشروع الوطني لم يعمل له قط من قبل الحكومات المتعاقبة لينشأ جيل على حب الوطن بشكل صحيح. فترى المشاعر الوطنية تنهار في مواضع عدة عندما تمر الدول العربية في الأزمات. وهنا أتحدث بشكل عام, فبالتأكيد يوجد هناك الكثيرون من يعرفون ماهي الوطنية ويضحون من أجلها. لقد رأينا كيف أن مؤسسات الدولة تنهب في أو لحظة لإحتلال أو ثورة أو حتى شغب بسيط, فهذا إن دل فإنه يدل على ضعف الروح الوطنية عندما يشعر الفرد أن تلك المؤسسة لاينتمي لها ولاتنتمي له. إن هويتنا الوطنية التي نتبجح بها هي صنيعة الدراما من خلال المسلسلات والأفلام التي ننتجها ونضحك بها على أنفسنا. إن من أهم مقومات الشعور بالإنتماء للوطن هو تقاسم الأشياء مع الآخرين, وأهمها القصة والحكاية الواحدة (Narrative), والتي تحملها الثقافة الواحدة. فعندما يجلس شخصان لايعرف أحدهما الآخر في سيارة واحدة ويحدث أن يحصل مكروه لينتظر الركاب ساعات طويلة, فحينا يبدأ التعارف ويشعر الأثنين بشيء مشترك يجمعهما ألا وهو تلك السويعات القصيرة, فتلك هي القصة يحتاجها أبناء البلد الواحد والتي تجعلهم يحملون نفس المشاعر عندما يجمعهم خطب ما. هذه القصة تحكي زمن الجوع والإضطهاد المشترك, زمن الفرح وتبادل التهاني عندما يفوز منتخب البلد بكرة القدم, تحكي قصة الهم الذي يحمله الكل عن أسئلة الحاضر والمستقبل. لكن مع الأسف الشديد, لم تبدأ تلك القصة التي سرقها أصحاب المشاريع القومية والطائفية والعرقية, فضلوا يقصون قصص تحكى لفئة معينة ونمط معين من الناس ويرسخونها من خلال إضفاء القدسية عليها لتنشأ هويات فرعية متعددة وهوية وطنية مشوهة. وقد عبروا عن ذلك من خلال إحتكار السلطة بيد قبيلة أو طائفة أو منطقة معينة لتبدأ معها قصة من نوع ثان, هي قصة التهميش والإقصاء والتمييز العنصري. وهذا مانلحظ بوادره عندما تغيب الهوية الوطنية ليرتفع صوت الطائفة هنا وهناك, منذرة بإتهيارات جديدة وتقسيمات وإصطفافات من نوع جديد.
- آخر تحديث :
التعليقات