الانتفاضات و الثورات الشعبية مصطلحات ليست بغريبة عن أدبيات نضال الأمة الکردية التي لا تزال تعاني من ما حل بها من مآسي علی ايدي الحکام الشوفينيين في الماضي البعيد و القريب. و بعد عقود من الثورات و النضال المسلح من اجل الحرية، التي استحقت تقديم مئات الآلاف من الشهداء، تتمتع اليوم أقليم کردستان (کردستان الجنوبية) باستقلال شبه فعلي منذ الأنتفاضة الشعبية التي أندلعت في ربيع عام 1991، حيث سبق الکرد شعوب المنطقة في إشعال شرارة الانتفاضة ضد الدکتاتورية بعقدين من الزمن.
و في أعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة علی العراق، في 2003، ازدهر اقتصاد الأقليم و اجتذبت کردستان الکثير من المستثمرين الأجانب کونها منطقة مستقرة و آمنة مقارنة مع العراق الذي شاهد أعمال أرهابية و حروب طائفية، في نفس الوقت أثنی الکثيرون بالنهج الديمقراطي المتبع في إدارة الاقليم.
ولکن و مع إنتشار حمى الأنتفاضات الشعبية مؤخرآ، و في مجری الأحداث التي تشهدها المنطقة، يدخل المشهد السياسي الكردي في أقليم کردستان مرحلة جديدة من التوترات بين الأئتلاف الحاکم (الحزب الديمقراطي الکردستاني و الأتحاد الوطني الکردستاني) و أحزاب الـمعارضة (حرکة التغيير، الاتحاد الاسلامي و الجماعة الاسلامية). أخذت هذه التوترات ذروتها في أعقاب جملة من الاعتصامات و التظاهرات الشعبية التي تدعمها المعارضة، ولو معنويآ، احتجاجآ علی الاداء الحکومي الضعيف و غياب العدالة الاجتماعية، فيما وعد رئيس الاقليم ndash;رئيس الحزب الديمقراطي- علی تبني مطالب الشعب و القيام بإصلاحات مستعجلة و إجراء إنتخابات عامة مبکرة.
إن سماع دوي صرخات جماهيرية تطالب بالأصلاح، و کذلك وجود معارضة حقيقية و أحزاب معارضة غير محضورة تشارك فعليآ في العملية السياسية، إنما هي دلائل علی وجود نوع من الديمقراطية في الاقليم التي ربما هي غير مستکملة ولکن مفتخرة و مبتهجة بها من قبل الشعب الکردي و الاقليات الساکنة في الاقليم، و هي أيضآ تعبير عن وجود رغبات جادة لدی جميع الاطراف بضرورة إستکمال هذه الديمقراطية و ترقيتها -مع ضرورة القيام بالاصلاحات الملحة-، خصوصآ و ان القضية هي کردستان التي هي أسمی من و فوق کل توتر و خلاف.
و لکن علی الشعب في اقليم کردستان أن يأخذ أقصی الحذر من الأحداث و التغييرات التي تشهدها المنطقة. فبحکم الموقع الجغرافي و الظروف التي يمر بها الاقليم، فإن الخطر يکمن في أن يختطف حزبآ او آخرآ تلك الصرخات الجماهيرية الايجابية من أجل تمرير و فرض أجندته الحزبية او الفکرية. عندئذ قد تأتي العاصفة بما لا تشتهيها سفن الأحزاب الکردية الحاکمة، و کذلك المعارضة. فإن أي تصرف بهوی النفس و أية خطوة غير مدروسة غايتها إشباع الغرائز و الرغبات السياسية، الشخصية أو الحزبية أو الفکرية، ستلوث فضاء التظاهرات النقية و قد تسبب في جلب کارثة خطيرة، دون أستبعاد محو الکيان الکردي المتواضع من الأساس. ذلك لأن الکرد یعلمون جیدآ أن أقليمهم محاط بدول و حکومات من الممکن وصفهم بأصدقاء المجاملات السياسية فقط. فأي أنشطار في الشارع الکردي، من جديد، سيستغل، کما حدث في السابق، من قبل تلك الدول المتربصة لافشال التجربة الکردية، في محاولة منهم لمحوها.
المعلوم أن الکرد، و علی عکس الشعوب و الطوائف الأخری في العراق، ينقصهم حلفاء ستراتيجيون. فشيعة العراق، مثلآ، یتمتعون بدعم إیراني غیر محدود، حیث أن من مصلحة أیران أن تبقی الشرائح العراقیة الاخری متشتتة و رکيکة من أجل تعزيز و تقویة وحدة الطائفة الشیعیة في المنطقة. أما ترکيا، فأن سياستها تجاه الکرد تخلو من دبلوماسية کتم الأسرار، فهي صريحة عندما تتعلق الأمر بأقليم کردستان. فالدولة الترکية لا تشتهي أية طبخة تفوح منها رائحة استقرار أو إستقلال الأقليم الکردي. و رغم ميلها نحو تطبيع العلاقات التجارية -النفطية و الغازية- مع الاقليم مؤخرآ، إلا أن ترکيا، و بحجة حماية الأقلية الترکمانیة المتواجدة في کرکوك و الموصل، تبحث دومآ عما يبرر مد نفوذها علی تلك المدينتين. أما سوریا، فبالرغم من مساعداتها السخية للمعارضة العراقیة، العربية و الکردیة، آبان الحكم الصدامي في العراق، فإنها تميل اليوم الی دعم القومیین العرب من السنة، علی الأقل من أجل أفشال المشروع الأمیرکي في المنطقة.
و کذلك رأينا کيف تدخلت الدول الکبری لإسناد المتظاهرين في کل من مصر و ليبيا، وذلك من اجل الحفاظ علی مصالحها و لکن بحجة دعم شعوب المنطقة. فها هو مجلس الأمن الدولي يفوض الدول للتحرك العسکري ضد ليبيا ويعمل من اجل فتح التحقيقات في جرائم النظام الليبي المرتکبة ضد الأنسانية. في حين سکتت تلك الدول و المنظمات عندما کان الشعب الکردي يتعرض لأبشع الجرائم في العراق- مرت علينا قبل ايام الذکری السنوية لقصف مدينة حلبجة بالاسلحة الکيمياوية في نهاية الثمانينات- و لايزال يتعرض الکرد لجرائم و إنتهاکات و الحرمان من أبسط الحقوق في کردستان ترکيا و ايران و سوريا أمام مرأی و مسمع الجميع.
ولکن کان من المتوقع وسط التغيرات التي ستطرأ علی المنطقة، و التنبؤات بحتمية شمول عاصفة التغيير کلآ من سوريا و ايران، و کذلك تليين الموقف الترکي المتشنج تجاه قضية الاکراد في ترکيا، أن تتبنی قادة الکرد في أقليم کردستان برامج و مناهج سياسية موحدة و أکثر جدية لغرض إعادة النظر في المسائل القومية و تجهيزها وفق مجريات الاحداث في مرحلة تنسجم مع رغبة الشعب الکردي في الاستقلال. فمن الأجدر، علی ضوء ما يجری من الأحداث و التطورات، ان يحزم الکرد أمرهم و ان يدفعوا بطموحاتهم القومية الی واجهة اکثر إرتقاء.
فکما ان الفرصة متاحة للشعوب المتحجبة عنها الحريات لکي تنهض و تسقط الدکتاتوريات (مصر و تونس) فالفرصة ايضآ متاحة لکي تعلن الشعوب المستحقة للاستقلال استقلالها (جنوب السودان). لکن مع الأسف فإن هيمنة عاصفة الثورات، التي لم تتبين نتاجها و إنعکاساتها علی الساحة السياسية بعد -لا في مصر و لا في تونس-، حالت دون أن تشعر کردستان الجنوبية بنسيم جنوب السودان الهادیء.
ان شرعية الحق الکردي في ان يکون لهم کيانآ مستقلآ، لا تمحوا مهما کانت العقبات و مهما کانت ردود الفعل في کل من بغداد و أنقرة و طهران و دمشق. و بالرغم من أن الأکراد في العراق quot;الجديدquot; يعيشون حياة مزدهرة، الی حد ما، لا تقارن بما کانت علیها أيام حکم الصداميين في العراق، لکن حقهم في تقرير مصيرهم يبقی مشروعآ و مستفعلآ. فالشعب الکردي قد قرر مصيره و بت في قضيته منذ أمد طويل. حيث ان الدعوة الی استقلال اقليم کردستان تستمد شرعيتها، من بين جملة حقائق تأريخية و جغرافية اخری، من حکم الشعب الذي صوت لصالح الاستقلال في استفتاء شعبي في 2005، فالحکم قد صدر من قبل الشعب، مع وقف التنفيذ من قبل الساسة.
لذا فبإمکان الشعب، و القادة، في الأقليم أن يستقبلوا عواصف التغير في المنطقة کفرصة تاريخية نحو الانتقال من کيان داخل دولة الی دولة ذات کيان، فرصة ربما لاتعاد عليهم في الزمن القريب، و محاولة تستحق الجهد لأن يکون quot;يوم الغضبquot; الکردي يومآ للمطالبة بالاستقلال.
آخذآ مجری الاحداث في نظر الأعتبار، فإن الوضع الداخلي الآني في الاقليم سيتغير لا محال. لذا نستطيع أن نقول بأن الشعب الکردي في أقليم کردستان يجد نفسه في مفترق طريقين، طريق يؤدي الی الإستمرار في العمل السياسي داخل عراق محطم سیاسآ غير راغب للأمتثال للحقوق الدستورية للشعب الکردي، مع التواصل في التعامل مع التوترات الداخلية في الاقليم و التي ربما تتفاقم و تؤدي الی کارثة أن بقت دون معالجة خاطفة. و طريقآ آخرآ يوجب علی قادة الکرد وضع کل الخلافات جانبآ، ولو لحين، و العمل من اجل أن تنفتح الأحزاب الکردية جميعآ علی بعضها البعض للأتفاق علی برنامج اصلاحي شامل يخدم الجميع، و کذلك العمل من اجل إعادة الحقوق الکردية المشروعة، في مقدمتها إستعادة مدينة کركوك، و أن يعيدوا و يبعثوا بأنتاج الفکر القومي الکردي من جديد، و الدفع بالمصلحة القومية العلیا و درء الاخطار الخارجية، و السعي نحو تحقيق حلم الأمة في بناء کیان مسقل في نهاية المطاف. حينئذ من أخذ برأی الشعب في الحکم المجد، و لمن أخذ بغير نهج الحرية و الديمقراطية و العدالة lrm;الرحيل.
التعليقات