للفساد في كُردستان عمقه. عمقٌ جغرافي بشري، في امتداده وتوسعه المتنوع، والمتمركز في ثباته المقاوم للتغيير والإنسجام في دائرة أرقى وأحدث تكويناً: الوطنية والقومية كجامعة للتنوع ومنظِمة للألوان في الإتحاد. ويستتبع هذا التكوين الجغرافي البشري كل الأعماق الأخرى: العمق الثقافي المتأزم، العمق الحزبي المشرذِم، العمق الإقليمي المُهيمن، العمق التاريخي وعوامله وآثاره السلبية في تكوين شخصية ما يسُمى بـ quot;السياسيquot; في تلك الأصقاع.

في ظل ما يمكن تسميته بـ (الوجود غير الواعي/ والمنظِم)، في كُردستان، وكذلك المتنافر في جوهره، فإن كل شئ ممكن الحدوث، ولا غرابة، لأن الظواهر المألوفة يفرضها الواقع نفسه، بغض النظر، عن موافقتها للقيم البشرية العامة، والقيمة العالمية للموجودات والكينونات. نقول هذا لأن الأوصاف والشرح التفصيلي المرقم للفساد والجرائم والكبائر في تلك البقعة، أمسى مملاً حد التقزز والغثيان. لذلك فإن الفساد بكلّه، ظاهرة مألوفة، وعكسه يدخل في فصل الإستغراب. وعلى هذا، فإن الحديث (خصوصاُ من بابه النقدي) عن الواقع، يصبح مملاُ ومضيعة للطاقة التي تبقي رغبة الإنسان متقدة في مواصلة الحياة. فالمجتمع الكُردي شأنه شأن المجتمع العراقي، ليس سوى جثة هامدة، وما ينعش تنفس هذه الجثة للإستمرار في الحياة هو العملة النقدية (ميزانية النفط). ولولا هذا السبب الجغرافي، لما كنا نجد فرقا كبيرا بين هذه الجثة الهامدة، وتلك الجثث المنتشرة في القارة الأفريقية، حيث القبائل تتقلب راقدة في لحاف القرون السحيقة. إذن البقاء في الحياة ليس دليل عافية وإنتصار، والمخلوقات الحية كثيرة، ولكن الوجود الحقيقي لها مرهون بدورها، وجوهر وجودها.

يتمتع السيد مسعود بارزاني، والحق يقال، بشخصية هادئة. وهو رجل مؤدب وينتابه نوع من الخجل في لقائه بالناس. وقد تكون لديه نية كبيرة فعلاُ لإصلاح الفساد، وقد يكون فعلاُ يحلم بواقع غير هذا الذي جناه حزبه وأفراد عائلته، ولكنه قد يكون أيضاُ مرغماُ للإستسلام للتيار الجارف منذ زمن بعيد، بدأت فصوله الأكثر فساداُ في عام 1991. وفوق ذلك لم يبد يوماً حزماً حقيقياً للإصلاح، والحزم لا مندوحة رأس الأمر لكل حاكم.

الفساد بدأ على نطاق واسع، منذ هذا التاريخ، وكبُر ككرة الثلج، حتى أضحى وقف تدحرجها القوي والهائل أمراُ خيالياُ. وغدا الإستسلام له معلناُ في بيان واضح، أفصح عنه السيد بارزاني في عام 1998 أثناء زيارته الميدانية إلى مدينتي دهوك وأربيل، حين ذكر أنه وجد كل نقطة زارها أكثر فساداُ من سابقتها، وإن quot;حاسبتُ الناس على الفساد فلن يبقى أحدٌ داخل الحزب دون الإستحقاق القضائيquot; كما أضاف في حديثه!

آنئذٍ لم يبادر السيد بارزاني بأي خطة لإصلاح الفساد، كي لا يبلغ الأمر ما بلغه في يومنا هذا. والسبب يعرفه الجميع أن الظروف كانت غير الظروف، والأحوال لم تكن تحمل هذا الخطر المتعاظم ساعة بعد أخرى. إنه الطوفان الجارف الذي لا يتوقف عند حد.

وظل الرجل يتكئ على كوامن القوة التقليدية له ولأتباعه: قوى إقليمية مساندة، أموال هائلة من عائدات الجمارك ولاحقاُ عائدات النفط (الميزانية)، رجال العشيرة والحزب المسلحين وإمكانيات سلطوية واضحة كما الأمرعند نظم الإستبداد عموما. ومن هنا حدث خلل تاريخي كبير (كما يحدث لهذا النوع من النظم دائما)، وهو صم الآذان عن كلمة الحق ومنطق العقل. وكأن لسان حال القوم وسيدهم يقول: quot;ما أظن أن تبيد هذه أبداquot;!

جرى ما جرى بحق المجتمع الكُردي من إجرامٍ، وفسادٍ، وسحقٍ، وإفراغٍ من أي قوة فاعلة تؤهله للخوض في تحديات الواقع والمستقبل. باتت الحياة آداءا للوظائف البيولوجية فقط. الإبداع هجر، والإزدهار ذبل. الفرد والمجتمع باتا كمرآتين متقابلتين، كلُ يرى خموله وزهقه وإنحطاطه في الآخر. المدارس والجامعات وهي عقل المجتمع ومحرك تاريخه، أمست مراتع للضياع والتخلف والإنحطاط العلمي والأخلاقي.

كلّ هذا وكوارث أعظم، جرت أمام ناظري السيد بارزاني وأتباعه، ولم تزل تجري. القتل والتعذيب والإرهاب الذي مورس بحق المجتمع الكُردي من قبل الحزب الديموقراطي الكُردستاني وشريكه السلطوي الإتحاد الوطني الكُردستاني أدركه الجميع، ولا نجزم إن كان الأموات يدركون أم لا!

وفوق هذا، وأمام مرأى ومسمع الناس الذين طحنتهم رحى الحروب، والنضالات، توثبت قطعان العوائل والأحزاب الحاكمة نحو مال الشعب وثروته، وبدأت بنهشهما ونهبهما بشكل لا مثيل له على وجه البسيطة حتى في ما جرى بتونس ومصر.

كُتب الكثير، وقام الكتاب الكُرد وناقديهم، بوضع الأصابع على الجروح والخلل وتفاصيل الفساد. كتاباتهم وأقوالهم كانت بمثابة الريح التي تعبر بين صخور ملساء. فلم يحرك السيد بارزاني وحزبه ساكنا، منذ إستسلامهما الطوعي لما جرى، منذ عقدين من الزمن. وفي الأثناء أصبح كل فرد من عائلة السيد بارزاني، وقيادة حزبه، وكبار عشيرته من جامعي الثروات الهائلة ومن الأغنياء المعروفين. وفي المقابل كان الإنتاج والإبداع والتطور داخل المجتمع الكُردي، مشلولاُ إن لم نقل ميتاُ. ولأن الذي كان يخرق القانون، هو صاحب السلطة دون رقيب أو حساب، فظل الأمر منها من السلطة هو قبض ما يمكن من قوة، لقهر الآخرين ونيل ما لا يمكن نيله بالقانون.

وهكذا صار المجتمح الكُردي في إقليم كُردستان كتلة، تستنشق الهواء للبقاء، دون أي فاعلية للوجود الحقيقي للمجتمعات في بناء كينونتها الحضارية والقيمية.
وفي الضفة الأخرى وقعت جثة السلطة الهامدة، بعد التخمة الفاضحة، وقتلٍ كبير لكل ما هو إنساني وقيمي في الوجود السياسي والثقافي. والأمر يعود إلى تحول الحزب إلى جسد متوحش، يحمل كل الشر والفساد، لسنين طويلة أصابت كبد الثقة والإيمان لدى الفرد بأي صلاح!

حين كتبتُ قبل حوالي خمسة أعوام من هذا المنبر، في رسالة مفتوحة إلى السيد مسعود بارزاني، وذكرتُ فيها أن المصائر أصبحت على مفترق الطريق بالنسبة إليه: الإصلاح الحازم بدءا بأولاده وأقاربه، أو أن الأمر بات في يد الإنفجار الشعبي في أي لحظة، صاح بعلٌ من محازبيه، أن الإنفجار الشعبي محض خيال!

لكنه اليوم واقعٌ منذ أكثر من خمسين يوما، في السليمانية، وتُمْسِكه مؤقتاُ في أربيل فوهة البندقية والإرهاب. وما لم يقدر من علاجه، في عام 1998 من فسادٍ مستشري أنذاك، فإن السيد مسعود بارزاني عاجزٌ كل العجز عن إنقاذ هذا الجسد المنخور بالفساد والمتورم به الآن، لأنه ببساطة مصابٌ بداء الموت في رأسه، ولا يهم إن أسعفَ الرجلُ الأنحاء الأخرى من الجسد، كالرجْلين، والأصابع وما إلى ذلك. ولو أحاط السيد بارزاني نفسه بالحكماء منذ البدء، لأخبروه أن أخطر أعداء السلطات العائلية هم أبناء العائلة نفسها، الذين يتحولون بسببها إلى آكلي الرؤوس والأكباد. قد لا تسقط السلطة الحزبية المذكورة في هذا العام أو الذي يليه، لكنه ينحدر في هذا المسلك الحتمي، والعواقب منوطة بشرائط المقدمات، والناس يُجزون أو يعاقبون على أفعالهم.