وانتظر السوريون خطاب الرئيس الثاني منذ بواكير ثورة الكرامة، علّه يشخّص من موقع صاحبه الطبيب بواعث الأزمة البنيوية المسدودة الآفاق التي يعاني منها النظام الأمني في سورية؛ ويدعو من موقعه كرئيس للبلاد إلى حوار وطني جامع جاد، حوار من شأنه - في حال توافر الإرادة الوطنية المستقلة بعيداً عن سطوة أمراء مراكز القوى في النظام الأمني- بيان الأولويات الأساسيات، وتحديد الآليات الفاعلة بجداولها الزمنية العاجلة، وذلك للارتقاء إلى مستوى التحديات المصيرية على الصعيد الوطني.

ولكن الذي حصل هو أن الرئيس أثبت مجدداً أنه رجل الوعود المعسولة من دون أي مردود، وعود وردية مستقبلية يدعونا إلى انتظارها من دون أي تسرّع أو استعجال؛ وعود كان قد أتحفنا بأكثر منها في خطاب قسمه الشهير، بعد العملية القيصرية التوريثية التي شهدتها الجمهورية قبل أحد عشر عاماً؛ وهي مدة زمنية كافية بكل المقاييس المحلية والإقليمية والدولية، ليتمكن أي رئيس من تنفيذ برنامجه الإصلاحي، هذا إذا كان قادراً وجاداً. فرئيس الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً - أكبر قوة سياسية وعسكرية في عالمنا المعاصر- لا يحق له أن يحكم أكثر من دورتين مهما كان ناضجاً وعبقرياً، شاباً ووسيماً؛ لذلك فهو مطالب بتنفيذ برنامجه الإصلاحي خلال دورته الرئاسية الأولى التي لا تتجاوز مدتها السنوات الأربعة، وإلاّ فلن ينجح في انتخابات الدورة الرئاسية الثانية والأخيرة في جميع الأحول.

أما رئيسنا الذي استلم مهامه بناء على توافقات الأمراء اللامرئيين الذين يتحكمون بمصير سورية وطناً وشعباً، بعيداً عن الإعلام والناس؛ فهو يدرك جيداً أن مشروعيته مستمدة منهم لا من الشعب السوري، هذا الشعب العظيم الذي تُدان ثورته المباركة - ثورة الكرامة السورية- هذه الأيام من قبل المنافقين المتسلقين على جماجم إخوتهم، وأشباه المثقفين المتملقين، وببغاوات الإعلام السوري الرسمي البليد.

واستناداً إلى ما تقدّم، نفهم جيداً لماذا لم يتطرق الرئيس إلى أساس الأزمة البنيوية التي يعاني منها الحكم في سورية. وإنما اكتفى بمجرد وعود تبشّر بمعالجة عرضية سطحية مجتزأة، ستنفذ في الوقت الذي تحدده الإرادات القدرية السامية التي تَرى ولا تُرى، إرادات تتحكم بالدولة والمجتمع والفرد، إرادات ترعى الإفساد بكل أشكاله وعلى مختلف المستويات؛ إفساد يتمظهر في نهب المال العام، وسرطان الرشوة المتفشّي من القمة إلى القاعدة بمنأى عن أية مراقبة أو محاسبة، وشبكات ترويج المخدرات والدعارة في طول البلاد وعرضها، وتسطيح المعرفة، وشراء الذمم بكل ما هو قذر من الأساليب... والقائمة تطول. قائمة تثر حزن وحنق السوريين، تثير غضبهم الذي تراكم وتراكم عقوداً حتى اندلع ثورة شعبية سلمية، ثورة تتوق إلى القطع مع المهانة والذل وكتم الأفواه وتغييب الأصوات.

لقد أخفق الرئيس مجددا في تشخصيه وعلاجه المقترح، وذلك بتجاهله المريب اللافت لوضعية الاستبداد الشمولي الذي تعاني منه سورية دولة ومجتمعاً وأفراداً؛ استبداد هو أساس الفساد والإفساد. فالرئيس لم يتحدث قط عن جرائم أجهزة القمع- التي تُدعى زوراً الأجهزة الأمنية- المستمرة، سواء في الأقبية السرية أم في ساحات وشوارع المدن السورية المنتفضة. لم يتناول تدخلاتها السافرة في كل شاردة وواردة تخص المجتمع والفرد؛ لم يكشف النقاب عن سرقاتها وتجاوزاتها، وإنما اكتفى بتوجيه النصح واللوم إلى جملة من المغلوبين على أمرهم في ما يسمى بمجلس الوزراء؛ والسوريون جميعاً يعلمون أن أي عنصر أمن في مقدوره التحكّم في أي وزير، وإهانته من دون أية خشية من المساءلة والمحاسبة.

لم يتقدم الرئيس بأية خطة إصلاحية من شأنها تقليص عدد الأجهزة الأمنية، وتحديد مهامها، وإخضاعها لسلطة الحكومة فعلاً لا قولاً؛ وبإشراف من مجلس الشعب الحقيقي الذي لابد أن يُنتخب بصورة نزيهة شفافة، وذلك بعد تحرير الدولة والمجتمع من سطوة الأجهزة المعنية القادرة في وضعها الحالي على إفراغ كل مفهوم أو قرار أو قانون من محتواه، واعتماد التفسير الذي يوائم مصالح القائمين عليها. خطة من شانها إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين وسجناء الرأي من دون استثناء، ومنح سائر المنفيين حق العودة من دون أية قيود أو شروط، بل دفع التعويضات العادلة لجميع المتضررين، والإقرار بنظام برلماني تعددي ديمقراطي يستمد مشروعيته من الشعب، ويكون خاضعا باستمرار للمساءلة والمحاسبة من قبل الشعب ؛ كل ذلك - وهو الأساس والجوهر- تغافل عنه الرئيس في خطاب الإخفاق الثاني منذ اندلاع ثورة الكرامة السورية.

من جهة أخرى، يُشار هنا إلى أن الأسلوب الإنشائي الإيهامي الذي اعتمده الرئيس في خطابه، سعياً منه لكسب ثقة الناس، لم يمكّنه من الوصول إلى المبتغى المرتجى من صاحبه. فالرجل تحدث عن الحوار مع المنظمات الشعبية والنقابات، مستخفاً بذكاء السوريين الذي يعلمون جميعاً أنها مجرد امتدادات مشوهة للسلطة في سورية، تلتزم بما يُطلب منها، ولعل ما يقوم به أعضاؤها اليوم من قمع للمتظاهرين يؤكد بما لا يقبل الجدل أنها من أدوات النظام القمعي، وهي في حقيقتها مجرد رتوش تزيينية تحاول التستر على قباحات الإستبداد.

تحدث الرئيس عن ضرورة احترام كرامة المواطن السوري، وكأنه لا يرى ما تفعله الأجهزة الأمنية وملحقاتها التي من المفروض أنها أجهزة خاضعة له، تتصرف وفق أوامره وتعليماته، باعتباره رئيس الجمهورية، والأمين القطري لحزب البعث، ورئيس الجبهة الوطنية التقدمية، والقائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، ورئيس مجلس الأمن القومي...الخ. فهو - الرئيس- إما يحكم بالفعل، وكل ما يجري هو منه وبه؛ أو انه لا يحكم، لكنه يتستّر على من يحكم، وهو في الحالتين مذنب ما لم ينأى بنفسه عما يجري، ويبيّن للناس بكل وضوح وصدق حقيقة ما يحدث.

وبناء على ما سلف، نرى أن كل ما أُعلن بخصوص إلغاء قانون الطوارئ وإلغاء محكمة أمن الدولة وحق التظاهر..الخ ما هو سوى حبر على ورق لا قيمة له طالما أن الأجهزة الأمنية هي التي تسيّر شؤون الدولة والمجتمع في سورية وفق دستور مملكتها السرية؛ فما جرى في تلبيسة وحمص ودمشق وغيرها من المدن السورية بعد خطاب الرئيس ووعوده التخديرية، إلى جانب بيان وزارة الداخلية المفعم بالافتراءات حول الجماعات quot;السلفية quot; المسلحة التي ما هي سوى quot;شبيحةquot; النظام، يؤكد بما لا يقبل الشك أن السوريين يخضعون لعملية تضليل وتزييف كبرى تستهدف النيل من عزيمتهم، وبث الرعب في قلوبهم عبر التلويح بفتنة طائفية قادمة، فتنة نعلم جميعا أن النظام هو الذي يفبركها ويسوقها من أجل البقاء وبأي ثمن.

يقول الرئيس: أنه تألم لوقوع الضحايا، ويعتبرهم شهداء، وهذه لفتة تتناسب مع الأصول السورية، بل الإنسانية عامة، كما أن الخطوة كانت نقلة متقدمة من جهة الشكل مقارنة بالمشهد الكرنفالي الذي رافق خطابه الأول في مجلس الشعب. ولكن السؤال هو لماذا استشهد هؤلاء وعلى يد من؟ ولماذا الاستمرار في قتل الناس بدم بارد.

هؤلاء أيها السيد الرئيس هم شهداء الوطن والشعب، ضحوا بأعز ما يمتلكه كل إنسان في سبيل أسمى وأرقى هدف بالنسبة إلى كل سوري؛ فهؤلاء قد ضحوا في سبيل حرية وكرامة السوريين جميعاً، ولن يكون تكريمهم كافياً بعبارات رفع عتب باهتة مدسوسة بإدانات وتهديدات مبطنة؛ وتلفيقات ما أنزل الله بها من سلطان.

يعيش السوريون هذه الأيام حالة تعاضد وتواصل على المستوى الوطني غير مسبوقة؛ الأمر الذي يبشّر بولادة وحدة وطنية حقيقية - وحدة طالما كان النظام حريصاً على ضربها- بفضل تفاعلات وانجازات الثورة السورية الكبرى الثانية، ثورة الكرامة السورية التي لن تهدأ إلا بعد بلوغها المنشود من قبل سائر السوريين، بكل مكوّناتهم وتوجهاتهم؛ وذلك لن يتحقق من دون رحيل النظام الأمني القمعي الذي فقد قابلية الإصلاح منذ زمن بعيد. أما الرئيس فعليه أن يختار بين أمرين لا ثالث لهما: إما الشعب وثورته، ونزوعه المشروع نحو الغد الديمقراطي الكريم؛ أو عليه أن يختار الأجهزة القمعية التي أوصلت البلاد إلى حافة الكارثة، ويُستشف من تصرفاتها ما هو أعظم في قادم الأيام.

أما الشعب فقد قال كلمته، ووحّد موقفه بكبرياء وشموخ، وسيخرج بقوة وصلابة في كل أنحاء سورية من أقصاها إلى أقصاها، من قامشلي إلى حوارن، سيخرج الشعب السوري بكل مكوّناته وأطيافه وتوجهاته في الجمعة العظيمة وبقية الأيام، وسيستمر في نضاله السلمي العنيد حتى تلوح في الأفق التباشير الأكيدة للربيع المنتظر.
الرحمة لشهدائنا، والعزيمة لشبابنا، والسمو النبيل لأمنا جميعاً سورية العزيزة.