مايجري في ليبيا هو حق شعب في الاختيار الانساني والدستوري، ولكن هذا الحق ركبه الكثيرون فاختلطت الامور وتداخلت الصور وتشعبت قضية الشعب المعارض للنظام الى حد الضبابية الكاملة ولم يعد من اليسر الفرز بين الصالح الاكيد والطالح المؤكد، فقد حملت سفينة ثورة ليبيا اكثر من المعتاد حتى اصبح فقراء الثورة ووقودها الاصلي اخر الاصوات. وكل هذه التناقضات وهذه الانحرافات في ثورة شعب ليبيا العربي جرت بتغطية اعلامية عربية هي الاخطر على الاطلاق في التاريخ العربي بعد هزيمة حزيران العربية وبعد السقوط التاريخي لصنم العراق. واذا استثينا مكان وزمان وظروف وسمات هزيمة حزيران فان سقوط الصنم في العراق لايمكن تجاوزه في ظل ظروف عربية تاريخية متتابعة يسجل حاضرها العربي جنى ثمار هذا التغير العراقي التاريخي على مستوى الامة العربية.
خطورة الموقف الرسمي العربي ومعه ربيبه غالبية الاعلام العربي يكمن في طريقة تدخل عربي غير مسبوق في شأن بلد عربي اخر هو في واقع الامر جزء من منظومة عربية حاكمة سماتها الاقصاء والتفرد والفساد والديكتاتورية وهذه السمات المشتركة في الحكم العربي تسحب البساط من تحت اقدام المتدخلين في الشأن الداخلي الليبي. لكن المفارقة الاكبر هو الدور الخطير والمنافق الذي مارسته و تمارسه معظم وسائل الاعلام العربية بين حالتي التدخل العسكري لقوات التحالف في العراق لاسقاط صدام وفي ليبيا لمحاولة اسقاط القذافي. ففي الحالة العراقية تم تحشيد كل الطبول والابواق العربية لمحاربة الشعب العراقي وتطلعاته الانسانية واختياراته الديمقراطية والدستورية، اما في الحالة الليبية فان نفس هذه الابواق وهذه الطبول التي حاربت الجيش الامريكي في العراق تصفق لنفس القوات الامريكية لكن في ليبيا! ونفس الحناجر التي خدشت اسماعنا بمفردات الاحتلال وعملاء الاحتلال في العراق تخرج على الفضائيات العربية لتعتب بشدة على ابناء العم سام وعلى الطائرات الغربية لانها لم تقم في ليبيا سوى 70 طلعة جوية في ذلك اليوم او هذه الليلة!
واحدهم وهو مفكر عربي لكن بجنسية اسرائليية في احدى الاستضافات الفضائية المتكررة له يصف حكومة العراق المنتخبة بحكومة الاحتلال وبذات الوقت وبنفس البرنامج وبعد دقيقتين يطالب البوارج و الطائرات الامريكية بتكثيف القصف لانقاذ مدن اجدابيا ومصراته، وكان البصرة والعمارة لم يكن يسكنها بشر يستحقون الانقاذ من نظام الصنم الساقط فكان هولاء عملاء بنظر الاعلام العربي اما جماعة بنغازي وراس لانوف فهم ثوار!
ومازالوا هولاء جميعا يرددون مقولة مشروخة وبائسة تقول quot; ان البرلمان والحكومة العراقية جاءت على ظهر الدبابة الامريكية quot; مع العلم هولاء أنفسهم يهتفون لثوار ليبيا ومع الوضوح الشديد ان الثوار سيصلون الى سدة الحكم على اجنحة طائرة الشبح الامريكية والميراج الفرنسية والتورنادو الانكليزية !! ومع حفظ الالقاب والاحترام الكبير لشعب ليبيا الشقيق فان اعضاء البرلمان والحكومة العراق هم نتاج عملية ديمقراطية دستورية وقانونية صوت لها ملايين العراقيين.
اما المفارقة الاكبر ان يخرج احدهم ليفتي ويحرض على قتل القذافي في سابقة خطيرة على مستوى الدين والمجتمع وحتى على مستوى السياسة والاعلام، وتكبر المفارقة عندما يتم استحضار موقف صاحب فتوى القتل والتحريض حينما زعل نفسه وليس غيره على سقوط صدام ونظامه وتعاظم زعله حينما تم تنفيذ حكم القضاء العراقي باعدامه.
ان الخلل في الموقف العربي واضح في حالة ليبيا كما ان التناقض واضح في المقارنة مع الحالة العراقية، وكما ان خلل وتناقضات التغطية الاعلامية العربية صارخة بين المطالب الشعبية التي جرت في البحرين وبين الحالة السورية ففي البحرين عيون الاعلام العربي تاخذ سبات نوم طويل اما في الحالة السورية فهذا الاعلام متيقظ لكل شيء حتى وان كان مبالغ فيه او غير صحيح ومفبرك في بعض الاحيان. لذلك مرض التوحد واضح على الاعلام العربي فلاغرابة بعد ذلك ان يرى هذا الاعلام ويروج حينها ان شلغم بطل من الثوار وان ال الحكيم في العراق عملاء رغم عشرات الشهداء والعلماء التي دفعتها هذه العائلة المجاهدة فداء للعراق وان كوسة بطل وثائر لكن اياد علاوي عميل رغم ان الرجل ناضل ضد صدام لعقود طويلة ووصلت الامور الى حد تقطيع اوصاله بالسكاكين من قبل اجهزة النظام الساقط! وان عبد الجليل ثائر وبطل لكن نوري المالكي عميل رغم انه دفع سبعة اشخاص من عائلته الصغيرة على طريق اسقاط نظام الصنم وتحرير العراق !! وان عبد الفتاح بطل وقائد الثوار وان ال الصدر الكرام عملاء وهم اعلام التضحية والعلم والثورة! ونفس الشيء ينطبق على عائلة البرزاني التي دفعت الالاف من ابنائها على مقصلة الحرية وغيرهم الكثير في العراق الجديد.
ان مرض التوحد الذي يعاني منه الاعلام العربي في واقع الامر هو مرض طائفي ينتقص من انسانية الانسان لمجرد الاختلاف المذهبي او الديني، وهذه في واقع الامر علة العلل وجوهر مصائب امتنا والتي تعودت ان تقطع من لحمها لتتبرع به الى امم اخرى فيحول المتبوع الى تابع وهذا التناقض وهذا الخلط هدم كل أسس صحيحة للقاء والتضامن والتفاعل وهو نفسه السبب القاتل الذي يصيب الاعلام العربي بعمى الوان فيرى الناس في العراق عملاء يحرض على قتلهم وفي ليبيا ثوار يحرض على دعمهم، مع العلم ان جميع العرب يتمنون ان يشربوا من كأس الحرية والديمقراطية في العراق الجديد.
التعليقات