((لم أبح بديني ولا حاولت أن أعرف دين الآخرين، لم أحاول مطلقاً تحويل أحد عن دينه، ولا تمنيت تغير عقيدة أحد؛ لأنه ينبغي قراءة ديننا من حياتنا وليس من كلامنا.)) توماس جفرسون

لعل من أكثر الصراعات والحروب الدينية والمذهبية، قساوة، هو ذلك الصراع الذي أندلع بين الكاثوليك والبروتستانت، والذي أستمر ثلاثين عاماً، وبالتحديد بين عامي(1618) و (1648). آنذاك اشتعلت نار الفتنة لتحرق الأخضر واليابس، ولتتحول من خلاف أو اختلاف ديني إلى صراع سياسي، اشتركت فيه معظم القوى الأوروبية في حينها عدا روسيا وإنكلترا. إذ حاولت فرنسا quot;الكاثوليكيةquot; القفز على عقيدتها وماتؤمن به، بوقوفها مع البروتستانت؛ من أجل تحقيق سطوة على باقي الدول؛ ومن أجل اضعاف (آل هابسبورغ) أو (آل النمسا)، وهم من أهم العائلات الأوروبية المالكة، ومصدر الأباطرة المنتخبين لحكم الإمبراطورية الرومانية.

صحيح أن أثر تلك الحروب لم ينته بسهولة، بل ظل قائماً إلى فترة طويلة، ربما حتى بعد معاهدة quot;مونسترquot; عام (1648) م، إلا أن الملاحظ أن الأوروبيين، وفي مرحلة لاحقة، استطاعوا هضم تلك الخلافات والقفز على كل مايعيق انصهارها وتلاشيها، ولا نجد هنا أبلغ مما قاله (فردريك الأكبر) في التسامح الديني، بعد توليه عرش بروسيا في القرن الثامن عشر: quot;إن من حق كل انسان الوصول إلى الجنة بالطريقة التي تروق له، أو التي يراها مناسبة لهquot;.

(فردريك) لم يبتعد كثيراً عن سياسة quot;عش ودع غيرك يعيشquot;، التي جمعت تحت خيمتها، الكاثوليك والبروتستنات، بل وحتى اليهود. فالخلافات التي أنحصرت داخل أروقة الكنائس والمعابد أو حتى في البيوت عندهم، مازالت تلهب الشارع عندنا، وتزيد من نار الثورات، وتغلي في القلوب غيضاً وحقداً وانتقاماً..! عمر على أهبة الاستعداد لشرب دم زيد، لأنه يقول في (علي أبن أبي طالب) قولاً جميلا، وزيد يريد أن يحرق أرض وزرع عمر، لدفاعه عن (أبي بكر)..وهلم جرا.

أختلف الأرثوذوكس والكاثوليك والبروتستانت، في عدة أمور، منها ما يتعلق بالمعمودية وبالميرون، وهو سر ينال به المعمد نعمة الروح القدس. واختلفوا بالتوبة والاعتراف، وبالافخارستيا أو مايعرف بـ(التناول)، وهو الاختلاف حول اقامة أكثر من قداس على مذبح واحد، وبكيفية التناول، هل فطير مع الدم بشكل مباشر أم غير مباشر، أم دم على خبز وخمر فقط. فضلاً عن الاختلاف في شفاعة القديسين، إذ يؤمن الأرثوذوكس بشفاعة السيد المسيح و شفاعة القديسين التوسلية. في حين يؤمن البروتستانت فقط بشفاعة السيد المسيح الكفارية، وينكرون شفاعة القديسيين، بل وشفاعة مريم العذراء. أما الكاثوليك، فمثلهم كمثل الأرثوذوكس، لكنهم يختلفون بتكريم القديسين. ومن الاختلافات الأخرى ما يتعلق بالروح القدس، إذ يؤمن الكاثوليك والبروتستانت بانبثاق الروح القدس من الأب والأبن، في حين يرى الأرثوذوكس أنه منبثق من الأب فقط، ويرجعون في ذلك لقولة السيد المسيح: quot;متى جاء المعزي، الذي سأرسله إليكم من الأب، روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو سيشهد ليquot;.(1)

وتتعاظم الاختلافات فيما بينهم، لتصل هذه المرة إلى الاختلاف حول طبيعة السيد المسيح والتقليد الرسولي ومن ثم المجيء الثاني والدينونة، وأخيراً الاختلاف حول مريم العذراء.
تلك هي خلافاتهم، التي لا أول ولا آخر لها، فأيُ أمةٍ هذه التي لاتستطيع أن تذيب خلافاً واحداً، فيه فريق يذهب إلى أحقية خلافة(علي أبن أبي طالب) للرسول، في حين يرى الفريق الآخر أن (أبو بكر الصديق) هو الأحق بهذه الخلافة، التي مضى عليها حوالي 1400 سنة؟! وأيُ كُتبِ تاريخ هذه التي غسلت أدمغة الناس، وأصبحوا عبيداً لوريقاتها الصفراء؟! يقول معروف الرصافي:

وما كُتب التـــاريخ في كل ما...روت لقرائها إلا حديث ملفق
نظرنا لأمر الحاضرين فرابنا... فكيف بأمر الغابرين نصدق
وإنه لعمري خلاف عقيم بين فريقين، لانهاية له quot;يقول الأول إن اتفاق كلمة المسلمين لا تتم، إلا إذا خضع الشيعة لامامة أبي بكر وعمر، وأقروا بإن اصحاب رسول الله هم حملة شريعته وامناؤها، فالصحابة كلهم عدول، وإن تفاوتوا في العلم والمنزلة. أما الفريق الثاني، فيقول لا سعادة للبشر وخاصة للمسلمين منهم، إلا إذا اتفقوا على عقيدة الاثنى عشرية، فهي تدعوهم بحججها القاطعة وببراهينها الساطعةquot;.(2)

إن البحث عن الحقيقة يحتاج إلى قدر كبير من الموضوعية، وقدرة عظيمة على التجرد من الأحكام والأفكار المسبقة، فضلاً عن العادات والتقاليد المتوارثة، وهذا بالضبط مايجب أن يفعله معتنق أية ديانة أو عقيدة.فهل من عاقل بين الفريقين يعمل بهذا الكلام، أو يطبق نصفه على أقل تقدير!؟
وهذا رأي في أصل الخلاف، لمجتهد له فيه نصيب quot;إن فاصل الخلاف هو خلاف سياسي حول من هو الأصلح للخلافة؟ فالإمام علي كان يجد نفسه الأجدر، لكنه لم يذكر أبدا في نهج البلاغة بان الله قد نصبني، ولم يذكر بأن النبي قد نصبني باستثناء الخطبة الشقشقية التي قال فيها صراحة بأنه الأولى بالخلافة من عثمانquot; ويضيف quot;أن هناك العديد من الروايات حول تأكيد الإمام رفضه للخلافة وتفضيله باستمرار أن يكون وزيرا بدلا من خليفة، فهو القائل لقومه quot; وأنا لكم وزير خير لكم من أميرquot; وفي مناسبة أخرى وبعد مقتل عثمان قال quot;دعوني والتمسوا غيريquot;. ويمضي إلى القولquot; إن التاريخ اثبت بأن الإمام علي كان على حق في رفضه الخلافة، ففي عهد عمر كانت الدولة قوية برئاسة عمر ووزارة علي، أما في عهد علي فقد أقيمت الدولة الدينية وكانت افشل دولة في التاريخ، فلا أمن، ولا اقتصاد، ولا حتى دين، لأن الكثير من المسلمين خرجوا عن طاعة علي فأصبحوا من الخوارج، انهارت الدولة وقتل أمير المؤمنين على يد أهل الكوفة.quot;(3)

اخبرني أحد علماء الدين في النجف الأشرف ممن أمتهن السياسة مؤخراً، أن الكثير من رجال الدين وصفوتهم يخشون قول ما في جعبتهم من أسرار؛ وعلل رجل الدين السياسي ذلك إلى خوف هؤلاء على ماوصلوا إليه من مكانة علمية بين باقي العلماء ومنزلة عند مريديهم، فضلاً عن خوفهم من فقدان أرزاقهم..! وأكد quot;أنهم لو نطقوا، لرأيت وسمعت العجب العجابquot;.

لعل من المآسي حقاً، أن يقود أصحاب عمائم السوء، السواد الأعظم من الجهلاء من كلا الفريقين، فهؤلاء لايدخرون جهداً في صب الزيت فوق نار الفتنة، والضحك على الذقون، وتحريف الكلم عن مواضعه، وهؤلاء أخطر على الأمة من أي شيء آخر.. ليأتي دور الحكام الذين تحلوا لهم لعبة القفز فوق حبال الطائفية، وابقاء نارها متقدة في صدور الفريقين، وهو مايعزز بقائهم جاثمين على صدور الشعوب المظلومة..! وهنالك بعض الحكام والقادة يستخدمون الطائفية كجزء من إستراتيجية الإلهاء؛ لكي يتجنبوا البدء في عملية الإصلاحات المطلوبة.

بالتأكيد فإن المستقبل كفيل بكشف مبلغ الصواب في تفكير كل فريق، ومن كان منهم على حق ومن سار على سكة الباطل (كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).rlm; (4)

وأخيراً، كان في الحراك الذي يشهده الشارع العربي اليوم، فرصة تاريخية لجسر الهوة بين أديانه وطوائفه وقومياته، غير أن المتصيدين في الماء العكر وضعوا العصي في دواليب اللقاء والإلتقاء عند المشتركات، لتنتهي ثورة الغضب وتتحجم في دول يطغي عليها مكون واحد، أو لاتعرف غير هذا اللون، في حين ظلت تصارع، تلك الفئات من الشعوب التي طالبت بحقوقها ولم تفلح، بعد أن جيرتها الأيادي الخفية لطائفتها وعقيدتها ونهجها الذي تدعي..!
________________________________________
(1) (يوحنا 26: 15).
(2)علي الوردي، منقول من كتاب (مهزلة العقل البشري).
(3) لقاء مع السيد (أحمد القبانجي) في إحدى الفضائيات العراقية.
(4) سورةrlm; الرعد آية (rlm;17).rlm;