نستطيع أن نواجه مرضا صعبا، لكننا لا نستطيع أن نتحمل قسوة الأحبة! قد نرضى بقدر مؤلم، لكن كيف نرضى أن يتنازل عنا آباؤنا طوعاً أو يتأففون منا لأننا معاقون ولم نحقق حلمهم في أطفال أصحاء متفوقين؟!.. هذا هو لسان حال آلاف الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة.. حين يصدمهم نفور الأهل منهم فيتخلون عنهم أو يعاملونهم بطريقة عدائية تعكس مشاعر سلبية تجاههم لا لشيء إلا لأنهم غير مستوفين للشروط المرغوب فيها، أو لأنهم أحبطوا أمنياتهم النرجسية في طفل سليم عقليا وجسديا ومتفوق دراسيا! لكن هناك جانب آخر مظلم في العلاقة بين الأسرة وطفلها المعاق، يظهر في بعض المواقف السلبية، فمثلاً اصطحب أب ابنه ذا الأربع سنوات لتطبيق اختبار معين، وعندما لم يستجب لمعظم الأسئلة لأنه يعاني تأخرا عقلياً، لم يحتمل الأب فشل ابنه وإعاقته وراح يردد عبارات وتعليقات ساخرة: quot;هذا متخلف لا يعرف شيئاً.. يعيش في البيت مثل الحيوان يأكل ويشرب فقطquot;. ثم أثناء خروجه من المكتب عبر الأب عن غضبه الشديد من طفله بأن ضربه بيده بقوة فسقط الطفل على الأرض باكياً!.. هذا الموقف المؤلم ذكرني بقصة شاب أعرفه، رفض تقبل العزاء في والده الذي حرمه من الميراث نهائياً لأنه كان يعاني درجة خفيفة من التخلف العقلي، فأصر الشاب على إضرام النار في قبر أبيه بعد دفنه، وعندما هاجمه الناس قال إن أباه كان يعايره بمرضه باستمرار، ويرفض أن يأكل معهم أو يجتمع معهم في مناسبة عائلية لأنه يسبب له الحرج وفي النهاية تركه بلا مال، يتسول الأكل والشرب حتى يعيش! * آخرون يجلبون لهم خدم ويخصصون لهم غرفة أو مكانا منعزلاً عن البيت وتكون الخادمة مسئولة بشكل كامل عن الطفل وأكله وشربه وتمريضه ونومه وخروجه، دون أن يتورط الأب أو الأم فيه عاطفيا أو تربوياً وكأنه كم مهمل في الحياة، المهم ألا يكون مصدر إزعاج أو حرج اجتماعي لهم! * أحيانا يقبل الأهل على مضض بوجود الطفل معهم وجودا ظاهرياً لكنهم منفصلون عنه نفسياً، لا يطيقون الاقتراب منه بحميمية، يتحاشون الحديث عنه باستمرار، وإذا اضطروا يتكلمون عنه وكأنه شخص غريب لا تربطهم به صلة، يذكرون عيوبه والمشكلات التي يسببها لهم، وكأنهم يعلنون أمام الآخرين عدم انتمائه لهم ويبرءون ذمتهم منه، نظراتهم إليه عدوانية ومتحفزة، ونبرة أصواتهم جارحة، وأحيانا لا يذكرونه ضمن أطفالهم وكأنهم ينكرون وجوده في الحياة لأنه من وجهة نظرهم غير جدير بها! حب مشروط! بالتالي لا يمكنهم تجاوز الجرح النرجسي، فيعبرون عن إخفاقهم بممارسة السادية الظاهرة أو الكامنة عليهم باستمرار، فهذا الطفل الذي لم يستوف الشروط المطلوبة أصبح عثرة أمام إحساسهم بالرضا النفسي، فهو دائما يذكرهم بالخيبة والفشل وبأنهم أقل من آخرين نجحوا في إنجاب أطفال بمواصفات سحرية! لذا لا يستطيعون مواجهة واقع مؤلم يعيشه الطفل المريض ويعيشونه معه، فنجدهم شعوريا أو لاشعوريا يصبون كل غضبهم على الطفل وكأنه تعمد وضعهم في خانة quot;آباء فاشلينquot;. نظرة مختلفة إن تقبل الطفل في كل حالاته يزيد من مناعته النفسية وقدرته على المقاومة والتعايش مع الألم، ومن الخطأ أن نتوقع أن الطفل المعاق لا يشعر ولا يتأثر باللفظ أو النفور منه أو فقدان الحنان والاحتواء، بالعكس هو أكثر حساسية للمشاعر العميقة ويلتقط الزيف والإدعاء بقوة لا تخطر على قلب بشر، فربما فقد بعض الحواس والقدرة العقلية لكنه لم يفقد البصيرة والإحساس بمشاعر الآخرين تجاهه. لذا من المهم الالتفات إلى بعض الجوانب المهمة مثل: * من حق الطفل المتأخر عقليا أن يعيش مع أسرته لا بعيدا عنها أو منعزلا بمفرده، لكن من الممكن إلحاق الطفل بأحد مراكز التدريب والرعاية النهارية لحالات مشابهة له، أو الاستعانة بأخصائي احتياجات خاصة للتعامل مع الطفل ووضع برنامج سلوكي معرفي أكاديمي يتفق وقدراته واستعداده النفسي والبدني، وتدريب الأسرة على متابعة هذا البرنامج ومراجعة نتائجه مع الأخصائي. * أن تحرص الأسرة على حضور برامج تدريبية وتثقيفية لاكتساب مهارات التعامل مع طفلهم، لأنني لاحظت أن معظم الأسر لا تدرك كيفية التعامل مع الطفل، ما يتسبب في تأخره كثيرا عن أطفال مشابهين له، فمثلا معظم الأطفال لا يتدربون على ضبط التبول والتبرز، والعناية الذاتية مثل الاستحمام وتنظيف الأسنان والاعتماد على أنفسهم في الأكل والشرب وبعض المهارات الأكاديمية البسيطة التي من الممكن اكتسابها في حال تمتع الأهل بقدر من الوعي والمعرفة. * بعض الأهل يتسببون لأنفسهم في الحرج الاجتماعي ويلقون باللوم على الطفل، لأنهم إما أن يقسون عليه جدا أو يتساهلون معه جدا، فلا يستطيعون الموازنة في السلوك معه فتكون النتيجة أن يضطرب سلوكيا، يسب الآخرين ويضربهم ويخطف منهم الأشياء وغيرها من السلوكيات المخزية التي تحتاج فقط إلى بعض الحزم لأنها لا ترتبط بالإعاقة وإنما بسوء التربية. * من الجيد أن تستعين الأسرة بخادمة متعلمة أو ممرضة مدربة على دورها مع الطفل، لتقوم برعايته جزئيا خصوصا في حال غياب الأم، لكن تحت إشراف الأسرة ودون الاعتماد عليها تماما. * من المهم البحث عن قدرات الطفل ومواهبه وتنميتها ومحاولة إدماجه مع أخوته أو باقي أفراد أسرته من العاديين، فهذا يحسن من حالته النفسية ويزيد من تقديره لذاته، خصوصا إذا كانت إعاقته بسيطة أو متوسطة، أما الإعاقات العميقة والشديدة فيكفي معاملتهم بآدامية والرضا بقضاء الله، فالشعور بالرضا يخفف إحساسنا بالألم، وفي كل الأحوال علينا أن نقوم بدورنا كآباء حقيقيين، لا آباء مع إيقاف التنفيذ!
بالطبع هناك آباء وأمهات ينفقون من أموالهم وجهدهم ووقتهم ويضحون بأشياء شخصية كثيرة من أجل أولادهم المعاقين، يحيطونهم بالحب والحنان والاحتواء ويعتبرونهم جزءا مشعا في حياتهم، ولا يشعرون بالخجل الاجتماعي منهم، بل يحاولون أن يكون لهم مكان بارز بين الأطفال الأسوياء، فنجدهم حريصين على تنمية مواهبهم واستغلال قدراتهم إيجابياً ومساعدتهم على التمتع بالحياة قدر استطاعتهم.
صدمة
غالباً ما يصاب الآباء بصدمة كبيرة حين يعرفون أن طفلهم متأخر عقليا أو مصاب بمرض خطير يؤثر على قدراته العقلية وتحصيله الدراسي، أي ببساطة لن يكون طفلا طبيعياً، وتختلف استجابتهم وسلوكهم تجاه الطفل بقدر ثقافتهم ونضجهم النفسي، فمثلا:
* بعض الآباء يفضلون وضع أطفالهم المعاقين في مؤسسات رعاية دائمة حيث يوفرون لهم مكانا مختصا في مثل حالاتهم ويكتفون بدفع المصروفات المطلوبة، وزيارتهم مرة أسبوعيا أو شهرياً أو حسبما تسمح ظروفهم، وكأنهم يتخلصون منهم بطريقة quot;شيكquot;!
* يصل الأمر أحيانا ببعض الأُسر إلى هجر الطفل أو التنازل عنه والانسحاب من حياته نهائيا بحجة أنها لا تحتمل الوجود معه وتفتقر القدرة على مساعدته والقيام بدورها تجاهه. هناك أب ترك زوجته وطفلين توأم مصابين بتأخر عقلي شديد، ورحل ليتزوج وينجب أطفالا أصحاء.. وأعرف أما تنازلت رسمياً عن ابنتها بحجة أنها لا تقدر نفسيا على مساندتها وتحمل مرضها الخطير حيث أخبرها الأطباء أن لا علاج له!
هذه وغيرها حلول مشوهة يلجأ إليها الأهل لكي يتخففوا من عبء الالتزام بأبنائهم المعاقين، فيحولونهم إلى quot;شيءquot; دون مراعاة مشاعرهم وحقهم في حياة عائلية طبيعية، لأنهم في هذه الحالة يحبون أطفالهم حبا مشروطا أي يشعرون بالتحقق والفخر بهم حين يكونون أصحاء وفي كامل لياقتهم، وأذكياء ومتفوقين دراسياً أو موهوبين في لعبة أو نشاط ما، وقتها لا يكفون عن الحديث الإيجابي عنهم واصطحابهم معهم في كل مكان والتباهي بهم أمام المجتمع، أما إذا ابتلاهم الله بأطفال معاقين جسديا أو عقليا، فإنهم يشعرون بالخذلان والحرج منهم ويغلب عليهم الإحساس بالخسارة والإخفاق، فهم في هذه الحالة يرون أنهم كآباء وأمهات فشلوا في إنجاب طفل يستحق الفخر به.. طفل أفسد عليهم الحياة، وأحبط تلك المعادلة المتخيلة لديهم عن طفل كامل المواصفات!
أدرك جيدا أن المرض ابتلاء صعب، خصوصا إذا أصاب فلذات أكبادنا، وأن لكل منا قدرته في تحمل هذا الألم وتبعاته خصوصا إذا قُدر للطفل أن يعيش مريضا طوال عمره، وما يخلف ذلك من عمليات جراحية أو مساعدة كلية أو رعاية تامة مجهدة ومؤلمة في آن.. لكن ثمة حالات تُقاس فيها إنسانية البشر بعيدا عن حساباتهم النرجسية ورغباتهم الملتصقة بالذات. من الصعب رهن علاقتنا بأولادنا بشروط الجودة، فالحب، خصوصا للمقربين من روحنا، يفترض أن يكون للشخص في ذاته سواء كان مريضا أو سليما، فاشلا أو ناجحا، متفوقا أو ضعيفا، أي حبا غير مشروطا وغير مرتبط بحالات لا يضمن أحدنا استمرارها لنفسه أو لغيره.
د. رضوى فرغلي / مُعالجة نفسية
التعليقات