بينما تبحث الدول المتقدمة إمكانية الحياة على القمر، وتبذل من الوقت والجهد والمال لتطوير البحث العلمي، وتحسين أداء مؤسسات المجتمع المدني، والبحث عن حلول لأزماتها ومشكلاتها، واستثمار الطاقات البشرية، وتشجيع الإبداع والفن الراقي في مواجهة هجمات التردي العارمة. ورغم ضوء الأمل الذي بدأ يتسلل إلينا عبر الثورات وأحلامها الطموحة في خلق مجتمع ينهض بأفراده ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، وتغيير مجرى حياة الشعوب للأفضل.. إلا أن الصورة تظل ناقصة بوجود بعض quot;المرتزقةquot;، فمازلنا نبحر في محيط السلبية ونُنصب أشخاصاً فارغين عقليا فقهاء ليزيدوا من الجهل المجتمعي من خلال فتاوى لا علاقة لها بجوهر الدين وروحانيته.
ساعة واحدة يقضيها أي شخص عاقل أمام التلفزيون أو مواقع الانترنت، كافية ليكتشف العبث الديني والخواء الفكري والانحدار الثقافي، ويتعرف على سوق الفتاوى الجاهزة والسريعة التي لا يبخل أصحابها بالرد على أسئلة بلهاء تسهم بقوة في دفع عجلة التخلف.. وبدلا من المشاركة الحقيقية في خلق إنسان متناغم مع ذاته والحياة، قادر على العطاء ومعايشة الواقع، يتفنون في صنع شخصية هشة غير مشغولة إلا برغباتها الأولية.
هذا لا ينفي وجود علماء أفاضل يحترمون هيبة الدين ويوقرون quot;الفتوىquot; باعتبارها عملا مسئولا ودربا صعب إلا على من وهبه الله حكمة وعلم راسخ وقلب خاشع يحترم عقول الناس ويدرك قيمة الدين في استقامة البشر وكونه مرجعية روحية تسهم بدرجة كبيرة في التوافق النفسي والاجتماعي لدى الفرد وتخلق منه انسانا فاعلا وإيجابيا.. لكن للأسف هناك فتاوى تعكس خللاً نفسياً واضحاً، مثل:
* لا يجوز للمرأة أن تجلس على مقعد جلس عليه رجل قبلها مباشرة لأنه ما يزال محتفظا بحرارة جسده مما قد يثير شهوتها!
* لا يحق لها مشاهدة الانترنت والتلفزيون من دون محرم حتى لا تُفتن بما تراه!
* لا يجوز للرجل اقتناء حيوان أنثى في بيته، كما لا يحق للمرأة اقتناء حيوان ذكر إذا كان كل منهما يعيش بمفرده!
* لا يجوز للرجل أن يسبح في مسبح نزلت فيه نساء عاريات قبله!
ومن أبرز الفتاوى التي أثارت جدلا واسعا، فتوى إرضاع الكبير التي تجيز أن تُرضع المرأة زميلها في العمل إذا اقتضت ظروف العمل وجودهما في مكان مغلق لاعتباره خلوة غير شرعية، حتى يصبح هذا الزميل محرما عليها فيحق لها كشف الوجه واليدين والشعر أمامه. وقد قوبلت هذه الفتوى باعتراض من معظم الفقهاء باعتبارها لا تحل مشكلة بقدر ما تسبب مشكلات اجتماعية وجنسية كثيرة.
بغض النظر عن كون الحادثة التي استند إليها الفقيه صحيحة أم مشكوك فيها، فعلى الأقل هي لا تصلح للتعميم في عصرنا الحالي، فأي محرمية تلك التي يصنعها تعري جسدي وممارسة شبقية بين زميل وزميلته. المحرمية الشرعية أو النفسية التي تنشأ بين الأقارب والأصدقاء ومن نختارهم مقربين لنا، لا تأتي بفعل جسدي يزرع في النفس الخشية من المعصية أو الحرص على شركائنا في العمل، إنها فعل تربوي وبناء نفسي ومعرفي يعتمد على التراكم والاقتناع، فربما يكون للبعض صلة قرابة حميمة بشخص ما، لكنهم لا يتعاملون معه كمحرم لأنهم لم يعتادوا ذلك ولم يربط بينهم ذلك النسيج النفسي والروحي الذي يمنعهم من اقتحام حرمته أو خيانته على أي مستوى، والدليل على ذلك زنا المحارم الذي أصبح منتشرا.. ذلك أن المحرمية فعل مكتسب بالتنشئة والوعي وليس بالنسب البيولوجي أو الرضاعة سواء للصغير أو الكبير!
السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا كثرت في الآونة الأخيرة هذه الفتاوى الجنسية المرتبطة بعلاقة الرجل والمرأة بأدق تفاصيلها؟!
إن معظم الأسئلة والفتاوى تحمل نظرة شديدة البدائية للإنسان، وكأنه كائن جنسي لا يفكر إلا في افتراس الآخر جسدياً.. كائن بلا عقل يحمل شهوة جاهزة للتفريغ مع أي شريك يقترب منه أو يقع بصره عليه أو يفكر في حرارة جسمه! كما تعكس تلك الفتاوى عدوانا واضحا على المرأة فتصورها جسدا مشتعلا بالرغبة ينتظر الرجل في كل مكان حتى يفتك به، وبالتالي يجب سجنه في التحريم الأبدي.
قصور معرفي
إنه قصور معرفي وخلل نفسي واجتماعي في فهم العلاقات الإنسانية المتشابكة التي لا تحلها فتوى هنا أو رأي شرعي هناك، بقدر ما يحافظ على تماسكها تنمية الوعي والعلاقة بالذات والآخر منذ نعومة الأظافر، وخلق ضمير أو أنا أعلى Super ego قوي يسيطر على السلوك غير المرغوب فيه اجتماعيا ودينياً. إن هؤلاء يريدون quot;كتالوجاquot; شرعيا مفصلا على مقاس رغباتهم وشهواتهم، كما يبحثون عن صك اعتراف لسلوكياتهم الغريبة، ليس من باب التمسك بالدين وإنما لتثبيتهم عند مرحلة نفسية طفولية لم تنضج بعد، فهم يحتاجون إلى بديل أب يكون وصياً على تصرفاتهم البسيطة منها والمعقدة، يملي عليهم ما يجب ولا يجب فعله حتى في غرفة النوم! ومن باب أولى أن يراجع الشخص طبيباً أو معالجاً مختصا إذا شك في عدم سوية سلوكياته!
استعراض
كما تعبر تلك الفتاوى عن الهوس الجنسي لدى هؤلاء الذين يركزون كل تفكيرهم على أسئلة تفصيلية لا طائل من ورائها ولا استفادة حقيقية بقدر ما هي إشباع بديل لهذا الاضطراب المغلف بشكل شرعي. أيضاً تعكس إشباعا بديلا لنزعة استعراضية جنسية لدى السائل، فبدلا من استعراض علاقته الحميمة أمام الآخرين، فإنه يصفها بالتفصيل في صيغة سؤال يستلزم الإجابة، ونلاحظ طرح هذه الأسئلة على الملأ في الفضائيات وليس في حديث خاص، كأن تتصل امرأة بقناة معينة تطرح سؤالا عن حقها في الغضب من زوجها وامتناعها عن معاشرته لأنه لا يقبل أن يمارس معها الجنس الفمي الذي لا تستمتع من دونه! وهكذا يصبح دور من يقوم بالإفتاء هو حل المشكلات الجنسية بدلا شرح الأمور الجوهرية في الدين!!
تلصص
يقابل هذا الاستعراض الفاضح رغبة أخرى لا تقل انحرافا لدى المجيب نفسه، هي التلصص وهاجس معرفة التفاصيل الجنسية لدى الآخرين، لكنهم يغلفونها في صورة شرعية، فينصبون أنفسهم فقهاء متخصصين في الفتاوى الجنسية، وللأسف يجدون قنوات تجارية لا تستضيف إلا هذه الفئة من الفقهاء وغالبا ما يكونون مغمورين أو يتم صناعتهم إعلاميا خصيصا لهذا النوع من الفتاوى، في حين يغيب تماما عن الساحة أساتذة أجلاء وعلماء دين مثقفين يُشهد لهم بالرصانة وتوخي الحذر في الإجابة على أي تساؤل، وكأن هذه القنوات التجارية بفقهائها تقدم جرعة جنسية شرعية بديلا عن قنوات الإثارة المعروفة، فنجدهم يستأجرون أشخاصا معينين للرد على أسئلة تجذب انتباه الناس وتروي فضول بعض المهووسين جنسيا.
بيزنس
إننا إزاء تجارة مربحة تستغل الهواجس الجنسية والوازع الديني لدى عامة الناس لجني الملايين، ومن هنا انتشرت أشكال غريبة للفتوى بعيدا عن المؤسسات الرسمية العريقة، مثل فتاوى Online وفتاوى عبر الرسائل القصيرة SMS وغيرهما من الوسائل التكنولوجية التي جعلت كل شيء متاحا وسهلا حتى التجرؤ على الفتوى!
أخيراً، من العبث التربوي والأخلاقي أن يتم التلاعب بالدين وتوظيفه لمصلحة بعض القنوات ومفتييها، وأن تصبح مثل هذه الفتاوى متاحة على الفضائيات لكل المشاهدين رغم تفاوت أعمارهم وثقافتهم ونضجهم، ما يشكل قلقا حقيقيا على تصورهم العقلي للدين ومفاهيمه ورموزه، وطبيعة العلاقات الجنسية. لذا من المهم أن تتصدى المؤسسات والدول المعنية لهذا الهزل، وتخضع ما يبث من فتاوى وأمور دينية أخرى للرقابة الصارمة، ليس فقط بهدف الحد من quot;بيزنسquot; الفتاوى الجنسية المسيئة للدين والمشوهة للوعي، بل ودرء فتن قد تجهض مجتمعا بأسره.
التعليقات