بعد ثمان اعوام عجاف من الاحتلال وعقم المنهاج السياسي، المبني على الطائفية والمحاصصة المقيتة، و الفشل الامني والخدماتي والشلل الرعاشي الذي اصاب الدولة العراقية، بماذا تطالب الجماهير المتظاهرة نخبها المثقفة؟ هل تطالب بالإصلاح أم بالتغيير؟ لازال السؤال يبدو محيرا و خجولا.
لكن الموجة، اليوم، في الدول العربية اتجهت نحو التغيير، وليس الإصلاح. تغيير ثوري وجذري يقتلع رؤوس الفساد من جذورها ولا يبقي لها، على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، أي أمل في الحياة.
في العراق ما هو الدواء الناجع للقضاء على الفساد و المحاصصة والمحسوبية؟
من في السلطة كان متابعا جيدا لما يجري على الساحة العربية، من كنس للأنظمة الفاسدة ورميها في مزبلة التاريخ. فأنتاب البعض منهم القلق، فدعا إلى بدعة جديدة،وطفت إلى السطح، فساومت السلطة المحتجين، عبرالوعيد والتهديد، لطرح ما يسمى الإصلاح، وترك مطلب التغيير. فصارت بدعة الإصلاح سنة ! ورددها البعض عفوية والبعض الأخر خجلا أو خوفا. أما الذي رددها عفوية فهم جزء من المتظاهرين الذين حرموا من قوت يومهم ولديهم مطالب آنية يمكن معالجتها، وهم لا يفقهون بالسياسة و مطابخها، والذي نادى بالاصلاح خجلا أوخوفا هم شريحة المثقفين، الا ما ندر! اذن، لماذا الإصلاح وليس التغيير؟ الفرق شاسع، فالذي جرى، مثالا، في تونس ومصر يندرج في باب التغيير الجذري والقطيعة مع كل ما يمت إلى الماضي من صلة، والواقع المتردي والفاسد للسلطة السياسية الحاكمة، فتمت القطيعة شكلا ومضمونا.
في تاريخه الحديث شهد العراق تغييرين جذريين، الأول كان الانقلاب على النظام الملكي، وتأسيس نظام جمهوري، فكان تغييراquot; شاملاquot; في الشكل والمضمون للدولة العراقية، ومن المؤكد ان هناك فرق شاسع وكبير بين النظام الملكي والنظام الجمهوري، وكان ذلك جليا في خمسينيات القرن الماضي، في ما كان يسمى بالمد الثوري واليساري، وما يحمله هذا التغيير والثورة من تبدلات بنيوية حادة في تركيبة المنظومة السياسية والتشريعية لمؤسسات الدولة العراقية كافة.
التغيير الثاني الذي شهدته بنية الدولة العراقية، أي تغيير جذري، كان الاحتلال الأمريكي. فقد شهدنا انعطافا في شكل ومضمون الدولة العراقية، والأصح أن جزء كبير منها قد تم إزالته ومحو معالمه، ورافق ذلك اجتثاث كل شيء يمت بصلة للحقبة السابقة،أن كان ذلك من ناحية مضمون بنيتها السياسية السلطوية الحزبية الاستبدادية، أو من ناحية بنية تراكمية شكلية لمؤسسات الدولة والتي تم تشييدها عبر عشرات السنين، أي منذ تأسيسها في بداية القرن العشرين، بسواعد وعقول أبناء الشعب العراقي. فكان تغييرا في الشكل والمضمون أيضا.
منذ الاحتلال ولغاية اليوم، تشكل النظام السياسي الجديد على أنقاض النظام السابق، كانت بنيته الارتكازية هي الطائفية والمحاصصة و الاثنية المقرفة. لكن ملامح هذا التغيير لبناء مفهوم الدولة العراقية الجديد، لم يألفه أو يعرفه الشعب العراقي، فرأينا أطروحات تصدم المواطن العراقي !! وتصيبه بالذهول، و أيضا، بالدوار والغثيان، حينما يسمع النعيق الطائفي من هذا وذاك السياسي، وان يقسم العراق، وفق مبدأ الانتماء والولاء للطائفة أو القومية وليس للوطن أو المواطنة.
مرت هذه التجربة أمام أعين وعقول وقلوب العراقيين، فسمع العراقي وشاهد بملئ عينه ما لم يشاهده أو يسمعه طوال حياته من العجب العجاب، من قتل ونهب وسلب باسم الطائفة تارة، وتارة أخرى بأسم الحزبية والفئوية وغيرها.
أذن ما المطلوب اليوم هل الإصلاح أم التغيير؟ تبقى الإجابة من خلال تقييم تجربة النظام السياسي خلال الأعوام الثمانية الماضية.
يكاد يجمع اغلب المراقبين على أن تجربة الحكم وفق مبدأ الطائفية و المحاصصة قد فشلت فشلا ذريعا في تحقيق مطالب العيش الكريم للمواطن العراقي، علما أن جميع النخب و الأحزاب السياسية تشترك في هذا الفشل، ولا نستثني الجماهير أيضا، لأنها أعادت انتخاب نفس الوجوه السياسية والحزبية. وبالتالي كانت قد ساهمت، ضمنا، بإبقاء الوضع والواقع المتردي، من الفساد والمحسوبية وهدر المال العام، على ما هو عليه. ويكفي أن نشير إلى أن وعاء خزينة الدولة العراقية كان مليئاquot; بمئات المليارات،واشدد وبقوة على رقم مئات المليارات كون هذا الرقم مرعب بالنسبة للاقتصاديين والمختصين، بالرغم من ذلك لم يتم تقديم أو توفير ابسط الحقوق والمطالب مثل الكهرباء، نعم ابسط الحقوق هي توفير الكهرباء والخدمات العامة، والمفارقة أن جميعها كانت متوفرة لدى الشعبين التونسي والمصري، ولكنهما أصرا على المطالبة بتغيير النظام، بسب الفساد..اكرر الفساد، وهو ما يتوفر وبكثرة وبإضعاف في العراق!
أذن هل من المعقول أن يطلب الإصلاح ممن افسدوا و أوغلوا في الفساد؟ أم نطالب بالتغيير الجذري، الثورة على الفساد والمفسدين، شريطة أن تكون سلمية ومتحضرة ونظيفة 100% من أي غرض انتهازي أو سياسي فئوي، أو نتيجة للضرر الذي أصاب مصالح البعض الضيقة أو الفئوية أو الطائفية المقيتة. تغيير، يشمل مضمون و شكل بنية نظام الحكم القائم على المحاصصة والطائفية والتي كانت تضع الكثير ممن لا يستحق في مناصب كبيرة ضمن وزارات ومؤسسات ودوائر. والطامة الكبرى، أن ذلك شمل مؤسسات مهمة للغاية مثل المؤسسة العسكرية و الأمنية والقضائية والتعليمية، نظام حكم يغل يد رئيس الجهاز التنفيذي او القضائي في الدولة عن محاسبة الوزير والمسؤول الفاسد، او من السير قدما في انجازالخطط المرسومة للنهوض بالواقع المتردي للبلد، لان حزبه سوف يعترض ويهدد باسقاط الحكومة. ونحن هنا نميز و نشير الى المسؤول الفاسد تحديدا، وليس بسب الصراع السياسي مابين الاحزاب والكتل، او نكاية بموقف معارض،اذا قد تستغل السلطة قوتها ونفوذها في عملية تصفية المعارضين.
و نظام لا توجد فيه فرصة للمخلصين أن يعملوا ويبنوا هذا الوطن الجريح وهذا الشعب التعيس ألبائس.
نظام حكم فشل في تقديم الأمن أو بناء مساكن للمواطنين او تعبيد الشوارع وتوفير ابسط الخدمات.
لذا من الخطأ بمكان أن تطرح مفردة الإصلاح لهكذا نظام، يعاني من اختلالات جوهرية، واضحة وضوح الشمس، لا يمكن للإصلاح القضاء عليها بل التغيير وحده الكفيل بمعالجة هذه الاختلالات وهذا الفشل القاتم.
ولكن ما هو نوع وحقيقة التغيير هذا؟ ولابد ان نشير هنا إلى أن التغيير المطلوب ليس معناه عودة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى نظام الحزب الواحد والقائد الواحد و الأسرة المقدسة، لا سمح الله، وكما يدعي البعض للتشويش والتغطية على الفشل والفساد، فهذا ما لا يرغب به أي عراقي. ولكن، التغيير المنشود يعني التوجه نحو نظام سياسي جديد، أكثر حيوية وشفافية يجلس على رأسه الفنيين المختصين المستقلين( التكنوقراط ) يبعد الحزبية الخانقة، لتعمل مؤسسات الدولة بكل انبساط خدمة للشعب وليس لزمرة الأحزاب، كي يدب دبيب الحياة في جسد الدولة العراقية، بعدما أصاب مفاصله التكلس، وانسداد في شرايينها أمام تدفق دماء الحياة في عروقها، وبالتالي انعدام الحياة فيها،ويكاد المرء يقرأ سورة الفاتحة عليها ويبكي بحرقة.
فهل نقول أصلاح أم تغيير؟ اغلب الأحزاب والكتل،أثناء الانتخابات الأخيرة، رفعت شعار التغيير، و أولها كان دولة القانون، فعلام اليوم الخوف من مفردة التغيير وكأنها كلمة تساوي كلمة الكفر ومعناها العودة إلى الوراء؟
العكس هو الصحيح، التغيير هو الانطلاقة إلى الأمام للقضاء على الفساد والمحسوبية، والقضاء على المحاصصة، و أعطاء الجهاز التنفيذي للدولة حرية العمل والحركة والبناء،كي يبرز المخلصون والبناة الحقيقيون من التنابلة و السراق،و من حمل معول التهديم وهوى به على جسد الدولة العراقية بلا رحمة. الدعوة إلى التغيير، هي دعوة إلى أمام وليس إلى الوراء، انه تغيير محمود نحو عراق مشرق ومفعم بالأمل، نحو مستقبل ملئه العطاء، فهو حتما بالضد من اصلاح هزيل ورّث يجعلنا نقفز إلى الوراء، لا بل هو الوراء عينه، هوالماضي السحيق الذي نخشاه.
ولكن السؤال المهم جدا.. من هو ذاك السياسي الوطني الشجاع والمثابر الذي بإمكانه قيادة ماكنة التغيير في العراق؟ في حينها سيحتاج إلى جرأة في اتخاذ القرار والمكاشفة أمام الشعب، و إغضاب رفاق حزبه، وقول الحقيقة كل الحقيقة بلا مجاملة لهذا الحزب أو ذاك.
- آخر تحديث :
التعليقات