الحكم التسلطي وتحرير الرئاسة
تتواتر الأحداث السياسية منذ بداية العام حتى لم يعد بإمكان المرء متابعة تفاصيل المجريات بدقة وحيادية في خضم البلبلة الإعلامية والإرباك الواضح في المواقف الدولية التي تريد أن ترعى مصالحها الإستراتيجية مع الأنظمة دون أن تفقد ود الشعوب ودون أن تخسر مصداقيتها في مجال الدفاع عن الحقوق الإنسانية وإدانة العنف.
ولا يختلف الحكماء حول أن الشارع العربي بأسره اليوم يعيد تقييم علاقته بالسلطة والأنظمة التي حكمته طيلة عقود طويلة بما فيها تلك الدول الآمنة المطمئنة التي تريد أن تنأى بنفسها وشعبها عن أي تجاذبات quot;ثوريةquot;، فانتشار الاحتجاجات في الكثير من العواصم العربية وانتشار الوعي الفكري والسياسي والنضج الشبابي وتفاعله الدائم مع وسائل الاتصال بشكل حيوي خلق ميدان خصبًا للنقاشات والطروحات وإعادة التقييم والتقويم.
وبغض النظر عن quot;من quot; يقف وراء تلك الثورات سواء كانت شبابية سلمية حرّة أم كانت تحرّض لها جهات إقليمية quot;مغرضة quot; كما يصفها البعض، وسواء كانت تلك الثورات سلمية أم اتخذت طابعا غير سلمي لتتحول إلى حمامات دمٍ مفتوحة يندى لها الجبين وسواء نجحت في إسقاط النظام أم لم تنجح ؛ فإننا ينبغي أن نسجلّ quot;حضور الدولة التسلطية quot; التي تشترك فيها معظم الأنظمة العربية على الرغم من اختلاف تسمياتها وتفاوت درجة انعدام العدالة في سلوك حكوماتها.
فالدولة التسلطية تحتكر لنفسها مصادر السلطة والقوة في المجتمع لصالح النخب الحاكمة، مرتكزة في ذلك على اختراق المجتمع المدني وتحويل المؤسسات المستقلّة إلى مؤسسات تابعة كامتداد لأجهزة الدولة في ظل هيمنة صارخة لسلطة الاقتصاد، علاوة على البعد الأيديولوجي لهذه الدولة التي تسعى من خلال الأجهزة الأيديولوجية إلى تبرير مشروعيتها والتأكيد على quot;مركزية القيادة quot; مما يترتب عليه، غياب الحريّات في سبيل فرض القمع الذي يكرس التراتبية الهرمية الذي يفرض الطاعة والولاء من الأعلى إلى الأدنى الذي يكرس النظام البطريركي الأبوي في المجتمعات.كما أن مسألة التحكم بالأجهزة العسكرية والأمنية لا تخضع لشورى الشعب أو البرلمان إنما الكلمة الفصل تكون بشكل مركزي مرتبطة برأس الهرم quot;الزعيم quot; فتتحول هذه الأجهزة من مؤسسات مستقلة يُفترض أن تحمي الناس إلى مؤسسة فردية تقمع الشعب بأسره وتحميquot; الرئيس quot; ليستمر في منصبه إلى مالا نهاية.
إن طبيعة الحكم التسلطي تحتّم استعمال العنف والإرهاب أكثر من اعتمادها على الشرعية الحقيقية، سواء كان عنف مادي مباشر يطال الأبدان والأرواح أو عنف وإرهاب فكري ومعنوي، فالانتخابات التي يفرزها هكذا نظام لا معنى له، لأنه يجمّد الحقوق المدنية المقترنة بحقوق الإنسان، كما يعمل على توظيف الأجهزة الأيديولوجية والقمعية وينفق عليها الميزانيات الكبيرة لأنها هي التي تؤسس وتشرعن وجود هذا النظام وتؤمن الاستمرارية له.
فالأجهزة الإيديولوجية المتعددة في الدوائر الإعلامية والتربوية والتشريعية وغيرها، تتضافر لتعيد تصنيع الرسائل الأيديولوجية لهذه الدولة في علاقتها مع شعبها ورعاياها، كما تعمل المؤسسات العسكرية التي تقف على أهبة الاستعداد لقمع أي مواجهة داخلية حتى لو كانت سلمية.
و في ظل هذه السياقات السابقة، يتمّ تدوير النخب الفكرية، والعمل على خلق quot;مثقفينquot; مدافعين عن وجود هذه السلطة، التي تحاول أن تخفي قمعها وإرهابها بأقنعة quot;ديمقراطية quot; التي تبرر للسياسي وجوده وممارساته.
كل ذلك يؤدي إلى إلغاء حق تداول الأحزاب المعارضة للحكم مما يؤدي إلى الجمود في مؤسسات الدولة، وهذا الجمود في المؤسسات الحكومية يوّلد نفور عام خصوصًا عندما تتزايد أخطاؤها مما يجعل من هذه الحكومة هدفًا ثابتا لسخط جماهيري مكتوم دائم، وان بدا أن هذا الشعب محكومًا في الظاهر، لكنه يظل قائمًا محتدمًا في أعماق المجتمع، فيتحول إلى مستنقعات تنمو فيها الأفكار المتشنجة المتطرفة، وعندما تقوم الانتفاضات الشعبية في تلك الأنظمة تكون في طبيعة الحال ردّ فعل على العنف المسبق للدولة، وفي الوقت نفسه يكون السبب الرئيس لإعادة إنتاج العنف من جانب أجهزة الدولة، مما يوقع البلاد في دوامة لا تنتهي إلا بانتهاء الأسباب الدافعة لتلك العلاقات 0
وتترافق مع تلك الظروف رواج بارز للخطاب المنغلق، الذي يتحول إلى خطاب عنف، لأنه ينظر إلى غيره من خلال هويته الدينية العقائدية، أو القومية اللغوية، أو الحضارية الثقافية... وهو يحاكم ويحكم عليه على هذا الأساس.
أما من الناحية الاجتماعية فإن الفقر والحياة الخانقة وغياب الخدمات والرعاية الصحية وشروط العيش الكريم يؤدي لنوع موازٍ من العنف الذي يظهر من خلال سلوك الناس ولغتهم، فيصبّون جامّ غضبهم على من يعدّونه سببا لمعاناتهم فتنتشر مشاعر العداء في نفوس المحرومين تجاه تلك الأقلية التي تتمتع بالرخاء فتتكاثر في هذه المجتمعات طبائع السلوك العدواني سواء في التعامل مع الذات أو مع الآخر أو مع مرافق الدولة التي لا يشعرون بالانتماء المعنوي إليها.
ولا تنفصل الأسباب الاجتماعية عن دوافع العنف الأخرى فإن الاضطهاد المقترن بأنواع التمييز القسري التي تكرسّه السلطات، الذي يمايز بين ما يُعرف بالمجموعة الاجتماعية quot;الأعلىquot; وما يقابلها من مجموعة توصف quot;الأدنى quot;، مما يكرّس طبقيّة صارخة وذلك على أساس من تبرير الأفضلية quot;للطبقة الاجتماعية المصنفة أرقى quot; متسلحة بكافة الموروثات من المعتقدات والعادات والتقاليد والأيديولوجيات، التي تؤصّل هذه الفوارق سواء كانت هذه الفوارق على أساس الطائفة أو الدين أو المذهب أو العمر أو الجنس أو الثروة....
ومازالت هذه الأشكال ممارسة حتى اليوم في معظم دولنا العربية على نحو مصّرح به معلن أو مقنع من أشكال التمييزالقسري،التي تجعل الرجل أعلى من المرأة، والعشيرة الفلاني أعرق من تلك فيصبح المنتسب إلى الطائفة quot;الدينية أو القبلية أو العشائرية quot; التي ينتسب إليها الحاكم، أهل ثقة وصاحب نفوذ بالقياس إلى من لا ينتسب إلى هذه الطائفة، وكل ذلك يترافق مع الامتداد لمكانة العائلة أو الامتداد العشائري أو الأصل العرقي...
كل الأمور آنفة الذكر من أشكال انعدام العدالة تتضافر فيختل الحراك الاجتماعي ومن ثم السياسي، الأمر الذي يجر البلاد إلى دوامة العنف.
خلاصة ما يمكن أن قوله أن جلّ الأنظمة العربية السائدة حاليًّا، تخاف مما يمكن أن ينتجه التغيير أو التجديد أو التحديث الفعلي لأنه سيقوض لا محالة دعائم علاقة البنية التراتبية في تلك الدولة كما يؤدي إلى تدمير أو تهديد المصالح القائمة على هذا التمييز وأولها quot;إسقاط النظام quot;.
نعم ؛ لقد تقصدّت ألا اسمي نظامًا عربيا أو غير عربي بعينه، وتقصدت أن لا اثني على ثورة هنا أو أدين احتجاج هناك، ولم أشأ أن أكون كإعلاميي هذا العصر يرحبون بثورة هنا بحجة معينة ثم يدينون ثورة هناك بحجة أخرى، أردت أن أقارب الإنسانية والحياد.
والسؤال متروك لكل إنسان:
أليست الدولة التسلطية تكاد تكون حاضرة في معظم دول المنطقة بما فيها التي تدعي أنها على جانب كبير من المشاركة والعدالة؟ !
أليس مفهوم الدولة أسير التسلط؟ والثورة هي تحرير للدولة والعدالة من أسر السلاطين؟
أليس مفهوم التسلط يقبع في كل النفوس وإننا كبشر أسرى عنف يُمارس علينا ثم نعود فنمارسه دون أن ندري؟
نعم... فلتطلق الشعوب سراح أنفسها وعندها ستنهار ممالك الإرهاب!
http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com/
التعليقات