الديمقراطية كنتاج للفكر الليبرالي، هي ليست حكم الشعب بالمعايير التقليدية كما كانت سائدة في زمن الاغريق عندما كان مفهوم الشعب يعني سيادة طبقة معينة يطلق عليها quot;الاحرارquot; وهم نخبة من الطبقة الارستقراطية الحاكمة ممن لهم حق الاجتماع والتصويت، أما عامة الشعب من الفلاحين والعمال والعبيد والنساء فليس لهم مثل هذا الحق وبالتالي فأن الديمقراطية التقليدية هي حكم فئة معينة من الشعب منحت لنفسها الحق بالسلطة والاستبداد ضد المكونات الاخرى في المجتمع.
وظهر في القرن التاسع عشر المفهوم الماركسي للديمقراطية (دكتاتورية البروليتاريا) الذي يرى بأن الطبقة العاملة هي الاغلبية فهي مؤهلة لاستلام السلطة بدون منازع. وقد ادى ذلك الى ظهور الانظمة الشيوعية الشمولية وما آلت اليه في نهاية القرن الماضي.
الديمقراطية الحديثة لم تظهر وتمارس الا بعد نضوج المبادئ والمفاهيم الليبرالية التي جاءت على انقاض الانظمة الاستبدادية المطلقة في القرون الوسطى.
لقد ظهرت بوادر الفكر الديمقراطي الليبرالي بعد صراع اجتماعي طويل منذ عصر النهضة وحركة الأصلاح الديني بقيادة مارتن لوثر ضد استبداد الكنيسة الكاثوليكية والأقطاع والنبلاء وتطور هذا الفكر على يد الفلاسفة وظهور منظمات المجتمع المدني. ونجد نتائج بناء هذا الفكر في نظريات العقد الاجتماعي التي كان من ابرز فلاسفتها جون لوك، ومونتسيكيو وجان جاك روسو.
وحرص الفكر الليبرالي الغربي على تأكيد العلاقة العضوية بين مفهوم الدولة أي سيادة الامة وحقوق المواطنة، وركز على المسؤولية السياسية للحكام تجاه شعوبهم. وظهر تصور جديد للنظام السياسي معياره سلطة مدنية تخدم قبل كل شيئ مصالح المواطن الدنيوية بصرف النظر عن ايمانهم بالديانة الكاثوليكية وغيرها من المذاهب والاديان الاخرى. فظهرت في نطاق هذا النظام جماعات تطالب بتجاوز الانشقاقات الطائفية الدينية التي سببتها الكنيسة في العصور الوسطى، ونتج عن ذلك تغير في مفهوم quot;الحقquot; الذي كان في العصور الوسطى quot;غيبياًquot;، نجد اصوله في تعاليم الكنيسة والتقديس الالهي والنظام القهري المستبد، وكما روج له افلاطون وارسطو في كونه فكرة مجردة موجودة خارج العقل، وان دور العقل اكتشافها فقطـ، مما دعمت هذه الفلسفة، السلطة الالهية للحكام والامعان في الظلم والاستبداد، باعتبارهم وكلاء الله في الارض وهم الوحيدين المخولين من الله في اكتشاف quot;الحقيقةquot; وبالتالي هم ظل الله في الارض في تحقيق العدل والمساواة..!
بينما اصبح مفهوم الحق نسبيا، وفق القيم الجديدة، قائماً ومرتبطاً برؤيه الانسان، ولا بد من وجود الافكار والاراء المتناقضة للوصول الى quot;الحقيقةquot; وبالتالي تكريسها لتحقيق العدالة والمساواة للجميع. واصبح النظام السياسي قابل للنقد والمراقبة والطبقة الحاكمة مكلفة ومسؤولة امام الشعب عن تحقيق الحرية والعدالة والمشاركة في بناء النظام العام وارساء قواعد الامن والاستقرار للجميع.
هذه القيم الجديدة المتعلقة بالدولة الحديثة اصبحت لها أهمية كبرى في توحيد المجتمع، وشرعية النظام السياسي، والفصل بين السلطات، بدل الشرعية الدينية المقدسة من حيث الاستقطاب ودمجها بالدولة، والتأثير في حياة المجتمع عموماً.
وتبعا لهذه القيم فان مرتكزات النظام السياسي يقتضي ان تعتمد على:
اولاً:- وجود نظام ليبرالي وفق المبادئ التالية:
zwnj;أ-الحرية الفكرية/ وهي حرية اعتناق المذاهب والرأي والتعبير.. الخ
zwnj;ب-حرية الصحافة والاعلام/ لتحقيق رقابة جماهرية مستقلة قوية.
zwnj;ج-الحرية السياسية/ وهي حرية تشكيل منظمات المجتمع المدني [ كالاحزاب والنقابات والاتحادات والجمعيات..الخ] لضمان الرقابة الاجتماعية او الشعبية
zwnj;د-حرية الاختيار/ حق الانتخابات
zwnj;ه-تداول السلطة سلمياً/ أي عدم احتكار السلطة بل يجري تداولها عبر صناديق الاقتراع.
zwnj;و-الفصل بين السلطات/ أي استقلالية السلطات عن بعضها لضمان الرقابة البرلمانية والقضائية على اعمال السلطة التنفيذية.
ثانياً:- وجود نظام اقتصادي ليبرالي يعتمد نظام اقتصاد السوق الذي يضمن الحرية الفردية بالتملك واي نشاط اقتصادي خاص.
فالديمقراطية الحديثة اعتمدت الاسس والمفاهيم الليبرالية وهي تتناقض مع دكتاتورية الطبقات او الاثنيات أو الاديان أو الطوائف التي سادت في العصور القديمة والوسطى وبعض الانظمة الدكتاتورية الشمولية والثيوقراطية في القرن الماضي والحالي.
الديمقراطية ليست انتخابات فقط. الانتخابات هي جزء من مجموعة مرتكزات يقوم عليها النظام السياسي الديمقراطي، لابد ان يكتمل بنائها ببقية الاجزاء كما اسلفا. واذا ما استخدمت الانتخابات لغرض ترسيخ الطائفية والاثنية السياسية، كما هو شأن الديمقراطية الامريكية في العراق، فان الاتجاه هو لتحقيق اغراض ومارب اخرى لا تمت باي صلة بالنظام السياسي الديمقراطي، لا من قريب ولا من بعيد.
هذه المقدمة تدفعنا للتساؤل، الى أين يتجه العراق في ظل الديمقراطية الامريكية..؟
قوات الاحتلال تمثل دول كبرى كالولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا، تمارس الديمقراطية الليبرالية مع شعوبها منذ قرون، فلماذا شوهت مفهوم الديمقراطية من خلال بناء نظام سياسي طائفي اثني يعود بنا الى القرون الوسطى..؟! هذا التسائل لا بد من الاجابة عليه بكل صراحة ووضوح.
ان استقراء الواقع في العراق يشير الى وجود نوايا شريرة لدى قوى الاحتلال، تستهدف المنطقة من خلال العبث في العراق ولا سيما ان العراق البيئة الملائمة لاشعال الصراعات الطائفية بين الدول المجاورة لما يشكله من موقع استراتيجي لجميع الدول الاقليمية المحيطة بالعراق. فبالنسبة لدول الخليج يعتبر العراق عمقا امنيا في غاية الاهمية. وبالنسبة لايران لها اطماع قومية تمتد الى ما قبل الاسلام وتستغل الطائفية السياسية للسيطرة عليه (العراق) ومن ثم الامتداد الى الدول الاخرى تحت نفس الغطاء. هذه الحقائق غير خافية على المؤسسات الاستراتيجية للولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا، لذا اخذت تعمل على قدم وساق بعد استدراج النظام العراقي السابق لاحتلال الكويت في كيفية تأجيج الصراعات الطائفية والاثنية داخل العراق التي من شأنها اشعال حرب طائفية اقليمية تحرق الاخضر واليابس وتعود بالمنطقة الى ماقبل القرون الوسطى من التخلف. ومن البديهي لا يمكن اشعال مثل هذه الحرب بدون التمهيد لتهديد المصالح الاستراتيجية لجميع الاطراف الاقليمية في المنطقة، ولغرض تحقيق ذلك لابد من اعطاء الفرصة لايران لتحقيق اطماعها في العراق ومنحها دورا طائفيا متميزا في حكم العراق مع الاحتفاظ بنوع مختل من التوازن لصالح الطوائف الرئيسة الاخرى والتي من شأنها الانفجار في أي لحظة من اللحظات بعد التحكم في جميع صمامات ذلك الانفجار، كما حصل في تجربة تفجير المرقدين في سامراء.
ولتحقيق تلك الاهداف الجهنمية شرعت الولايات المتحدة بالتعاون مع بريطانيا على تأسيس قوى معارضة جديدة من رجالاتها ودعمتها ماديا ومعنويا لتجميع بقية قوى المعارضة المتواجدة على الساحة، وكانت هذه الشخصيات الجديدة تشكل لولب المعارضة خارج العراق التي استطاعت من عقد ثلات مؤتمرات في فينا وصلاح الدين ولندن على التوالي، كرست من خلالها المحاصصات الطائفية والاثنية للنظام السياسي ما بعد النظام السابق في العراق.
ولم يكن تشكيل مجلس الحكم على اسس المحاصصات السياسية الطائفية والاثنية واعتماد القوى الطائفية الوافدة من ايران هو وليد الصدفة او الخطأ كما يشاع. بل عملية مدروسة على مدى اكثر من عقد من الزمن، ومهدت لها المؤتمرات المشار اليها. وقد تجذرت وترسخت تلك المحاصصات من خلال العملية السياسية على مدى السنوات الثمانية الماضية وهي ممارسة لا علاقة لها بالديمقراطية بشكل مطلق، بقدر ما عمقت الهوة والكراهية بين مكونات النسيج الاجتماعي العراقي، وسمحت لايران بالتغلغل في جميع مفاصل الدولة مما جعلت منها (ايران) تهديدا خطيرا لامن دول الخليج والمنطقة، يصعب قبوله واستمراره، وهو ينذر باندلاع حرب اهلية تنتشر شررها الى جميع الدول الاقليمية في أي لحظة. وهذا ما عملت وتعمل علية قوات الاحتلال منذ عقدين من الزمن على ارض الواقع. وسوف لا تسقط حساباتها (قوات الاحتلال) الا في حالة عدم نشوب مثل هذه الحرب، وهذا الامر يكاد ان يكون مستحيلا مادام هناك اطماع لدولة ولاية الفقيه الطائفية القومية في دول الخليج والمنطقة، وبالمقابل هناك قوى طائفية سلفية راديكالية وقومية ترى في تلك الاطماع تهديدا جديا وخطيرا لكيانها ومستقبلها ومصالحها. وسيهزم الارهاب من اوربا وامريكا ويتحول بين الارهابيين انفسهم (كما يصورهم الامريكان)، وسوف يكون النفط والغاز وقود لهذه الحرب المدمرة، ويحصل عليها الشيطان الاكبر وشركاءه بابخس الاسعار.
الهم احفظ العرب والاسلام من هذا الشيطان واقضي على الملالي والطائفية السياسية واطماعهم جميعا قبل فوات الاوان، انك سميع مجيب.
د. طارق علي الصالح
رئيس جمعية الحقوقيين العراقيين-بريطانيا
التعليقات