إيمانا بما نشعر به اتجاه الحراك الفكري العربي الراهن، حاولنا في هذا المقال، أن نناقش فيه بعض الإشكاليات، التي لازمتنا في معاشنا نحن العرب منذ اللحظات الأولى لنكستنا الحضارية، و تكتلت في تاريخنا، إلى درجة أنها أضحت تصنع أبرز حيثيات يومياتنا، تصنع الحدث الثقافي لنخبنا و مثقفينا. و من أبرزها نجد إشكالية جدوى ما ننتجه من فكر حلولي لتوجسات الراهن العربي بأزماته و إخفاقاته و تمزقاته وتقلباته. و رغم إيماننا العميق، على أن هذه التوجسات هي توجسات عامة، الكل معني بها. إلا أنها ظلت ملقاة على عاتق النخب العربية بكل حدة أكثر من غيرهم من الأطياف، بما أنهم في طليعة المجتمع مجابهة مع هكذا إشكاليات، و هم معنيون أكثر من غيرهم على حلحلة ما تفرزه مجتمعاتنا من عقد و مشاكل و أزمات، بما أنهم يقودون المجتمع قيادة ثقافية. و لكي لا نقع في جدل البضة و الدجاجة، و المثقف و السلطة، نحن ملزمون أكثر من أي وقت مضى على مسائلة بعضنا البعض، عن طبيعة مهامنا و إمكانياتنا في التعامل مع هذه الإشكاليات و عن مبرراتها، و لماذا لم يعد الفرد ينصت للمثقف، والمثقف لم يعد يستطيع يقنع الفرد و ينصت لنداء الواجب، و أن يفهم مطالبه. إنها إشكالية معقدة جدا، كونها تطرح أزمة تواصل بين الفرد و المثقف و بين المثقف و الفرد، و طبيعة المعرفة المتداولة بينهما، فكلاهما لم يعد يفهم الأخر، مما يعكس مدى تعقد مواضيع هذه الإشكاليات، بما أنها إشكاليات حضارية عميقة الكل متورط فيها بقصد أو بغير قصد.
من هذا التقديم نستشف أن موضوع هذه الإشكاليات ينحصرفي ثلاثة مستويات و هي:
1 - المستوى الأول: يتعلق بالتركيبة الذهنية للفرد العربي، و بمستوى تعاطيه لمنتجات الثقافة، و عن أدواره و مشاركاته في إزالة هذه التوجسات، و ذلك عن طريق البحث عن الأسباب التي جعلت من الفرد غير شغوف بمكتسبات التنمية و التطور، يستنفر مستقبله، و كأنه يستشعر المتاعب التي ستملأ مستقبله، مما جعله يبقى متعلقا بماضيه أكثر من حاضره و مستقبله، تعلقا يعكس خللا في منظومته زمنية على مستوى الشعور. خلل يشير إلى إهتراء التكوين التاريخي للوعي العربي و تقطع بنياته.
وعي يستمد وجوده من ضمانات الماضي و فجائية الحاضر و مأساوية المستقبل. وعي لم يكن تاريخه طبيعيا إلا ماضيه، و ضمانات الماضي هنا لا تعني كل ما هو إيجابي فيه، و إنما تعني الماضي عينه. فبالنسبة إليه هو إيجابي لأنه ماضي، و لم يعد يربطه بالوعي إلا ذكريات ميتة و محنطة في مقبرة الماضي. و برغم هذا الانقلاب الأنطولوجي الكبير على مستوى شعورنا، إلا أن وعينا لا زال يسكنه و يستمتع بهدوئه و سكينته، فهو يعيش حالة تراجيدية لا مثيل لها. حيث بقت أجسادنا معلقة في الحاضر تائهة في حيثياته كعرائس القارقوز تحركها خيوط الماضي. و ما نريد قوله هنا هو أن المحنة العربية لا تتعلق بالمستوى الكلي للمجتمعات العربية فحسب و كما يعتقد البعض، و إنما تنشأ من المستوي الفردي الذاتي. و إذا قلنا أن الكلية هي اجتماع الفردية، فهذا لا يعطي الحق للكلية بقدر ما يعطيه- للأنا وفق خطابات المثالية الحديثة- فالكلية ليست هي إلا انعكاس للفردانية المجتمعة و لإجتماع الأنات. و لكن للأسف غالبا ما يتوجه لإشكاليات مجتمعاتنا توجها كليا، بهدف وضعه دفعة واحدة في مساره الحضاري الصحيح، و هو وضع مستحيل. لأن الكلية الاجتماعية هي فارغة مضمونا و مجردة، أما الأنا هي التي تصنع الراهن و تحيك المعاش و تواجه قدرها في كل الظروف. و عليه كل محاولة لفهم المجتمع في إطاره الكلي محاولة يائسة، لأن المشكلة لا تتعلق بالغطاء الاجتماعي العام، و إنما في الكيفية التي نقحم بها الأنا لكي تنخرط في صناعة يومها صناعة طبيعية و متماشية مع متغيرات عصرها لا غير؟، و كيف نجعلها تقبل بشراهة على إستهلاك راهنها استهلاكا حقيقيا، و عن الكيفية التي نجعلها تتوق إلى فتح مستقبلها فتحا مستنيرا. و هذا عينه ما حدث في عصور بداية تكوين الوعي الغربي تكوينا معرفيا، و بالضبط في العصور الإغريقية، الذي تشيّد على مقولات كبرى أسست للأنا، و دفعت بها إلى معترك الوجود لتأسس مملكتها الكلية. حدث هذا منذ سقراط، عندما ألزمها على أن تعرف نفسها بنفسها و معيارا للقيم، و على أن تكون مقياس الأشياء جميعا مع السوفسطائية. و على أن وجودها مشروط بتعاطيها للفكر مع ديكارت. و في هذا المعني يقول هيجل( ها هم السوفسطائيون يشرعون في التشكيك بالقيم اليونانية، معلنين أن الإنسان مقياس كل شيئ، فما أمتع الإنسان الفرد و أفاده، فاعلم أنه العدل...أين هي الجماعة؟. أم أين هو الوطن؟، أم أين هي الأسرة؟... و ها هو سقراط يعلم الناس أن على الإنسان أن يجد الحق في ذاته لا في آلهته أو أسرته أو رجال دولته...و ها هو الممثل الكوميدي يعلن على الملأ بطلان كل شيء، بما في ذلك القوى الإلهية و القوى البشرية على السواء، بل بما في ذلك أيضا تلك الصيغ الأخلاقية التي إذا خلي بينها و بين نفسها لم تلبث أن استحالت إلى سحب متطايرة).
فإذا ما حددنا العنصر الجامع لهذه الإرهاصات، لوجدناه يتحدد بشكل دقيق في ضرورة البناء المعرفي للوعي الذاتي للفرد العربي.
و لكن عملية بناء هذا الوعي، هي عملية صعبة و عسيرة، تبقى ضمن إنشتغالات المثقف و المفكر. و صعوبة هذه العملية، لا تكمن في التكوين المعرفي بقدر ما تكمن في إزالة العوائق التي تعيق هذا التكوين، و بلغة بيكون هي: أولا أن نبدأ بمعالجة الجانب السلبي قبل الإنتقال إلى الجانب الإيجابي. بعدما تبين أن الوعي تتعاطى معه الأنا تعاطيا مباشرا دون وسائط فكرية، و بمعنى آخر أن الأنا لا زالت حسية بامتياز، تقبل على مواضيعها إقبالا مباشرا. هذا الذي جعل من النمطية الحسية تبقى المنهل الوحيد لإستمرارية الأنا في وجودها و امتلائها، مع العلم أن ما تمتاز به هذه النمطية من جملة خصائص ثابتة تختص بها الحسية كالتغير و الظن و الشك و الوهم و الخطأ و العنف، كلها تدخل في تحديد كينونتها الطبيعية الخاصة، هي التي تشكل مضمون وعينا، و عنها صار الوعي يؤدي وظائفه المعرفية في صور حسية،
بهذا التوجه، ظلت الأنا العربية تتعامل مع ما يفرزه العصر من منتجات حاسمة، معاملة بسيطة، لا تعكس قيمة الشيء المتعامل معه. و بالتالي ظهر الوعي العربي في العالم وعيا هزيلا و ضعيفا و بسيطا، يظهر للوعي الغربي في صورة وعي أنتروبولوجي لبساطة أفكاره و الأدوات التي يستعملها.
فما ينقص وعينا هو هذه الواسطة، المختزلة في علاقته مع العالم الحسي، حيث تكمن أهمية هذه الواسطة التي تربط الأنا بالعالم، لأنها هي الوحيدة التي تؤسس للمعرفة المفهومية، و في قدرتها على إنتاج المفاهيم الحاملة للأفكار. فهي بمثابة العش الذي تفرخ فيه الأنا عجائبها التي تمارسها في العالم الحسي، فهي بيت الحكمة العتيق. و عبر هذه الواسطة تتجلى صور المنطق على الوعي، فبدونها يبقى الوعي بعيدا عن المنطق بما أنه تنقصه الوسائط الفكرية.
و تظهر أهمية الواسطة أيضا، في كونها معترك عمل العقل الخالص. فالعقل يمارس عقلانيته عبر هذه الواسطة، و عنها يظهر الوعي معقلنا، و بغيابها يبقى حسيا بما أنها معطاة طبيعيا.
أما الكيفية التي يمكن بها أن نوجد هذا الشيء المفقود أي الواسطة، هو التأمل و التفكير، و إطلاق عنان النقد و الشك. فعندما يتأمل العقل في منتجاته الذاتية، و ينظر إلى نفسه عبر أفكاره، التي تجعله يراقب نفسه بنفسه و يصحح نفسه بنفسه. عملية تجعل منه يبقى شغوفا بذاته و يشتاق لذاته، و تجعله يعتز بذاته إلى درجة الإنبهار. ينبهر بالأفكار التي ينتجها و يفرخها عبر المفاهيم الحاملة لها.عملية تجعله شيئا فشيئا يعاف الحس، و لا يعد يثق فيه على غرار ما فعل ديكارت عندما إحتقر الحس و استهان بمعارفه، و حكم عليها أنها الشيطان الذي يضللنا عن الحق، و عنها يتأكد على أنه فعلا موجود.
من هذا تحليل، نستنتج أن ما يعيق الوعي العربي، على انخراطه في المنظومة الحضارية العالمية، هو إيمانه العميق بالحسية المباشرة، و توظيفه لأدوات الحس في خوض معترك الحياة. مما يدل على أن هذا الوعي بقى يتخبط فوق أنياب الحس الأليمة، التي أعاقته على تحصيل السعادة المنشودة، التي تختزل في التمتع بعلاقة طبيعية مع الحياة.

* * * *

2- أما المستوى الثاني: فهو المستوى الذي يتعلق بالمثقف العربي، و أهمية منتجاته و قيمة منجزاته.
إننا نعتقد جازمين، أن ما أنتجه بعض المفكرين العرب خلال القرنين الأخيرين، لهو شيء مهم جدا على فهم طبيعة الوعي العربي في شتى المجالات، يستدعي الإعجاب و التقدير، خاصة حينما حملوا على عاتقهم في ظروف خاصة مرت بها المجتمعات العربية، فهم ما يحدث فيها. فهم بذلك انفتحوا دون الجميع، على تفسير الشيء الذي يعيق مسيرة مجتمعاتهم الحضارية، و قد اختلفوا فيما بينهم حول تحديد طبيعة هذا الشيء. فهناك من قال أنه هو الاستعمار، و هناك من قال أنه هو سوء فهم الدين و توظيفه، و هناك من قال أنه هو الضعف السياسي، و هناك من قال أنه العجز الإقتصادي، و هناك من قال هو هيمنة الأخر، و هناك من قال هو سوء توزيع الثروة و الجهل بالتراث... و غيرها من الأقاويل، و هم كلهم في أقوالهم محقون.
صحيح أن الوعي العربي، منذ قرابة سبعة قرون و هو يعاني من هذه الفراغات، التي اشتغلت عليها المشاريع و قراءات النخب، و التي حاولت إلى حد بعيد و بكل جدية، أن تجد لها تفسيرات صحيحة و حلولا ممكنة، لعلها تأسس للإقلاع المنشود. و لا يمكن أبدا أن نقول عنها أنها أخطأت أو قصّرت، بحجة أن المواضيع التي اشتغلت عليها مشاريعهم، هي كلها العيوب التي ظهرت بها بنية الوعي العربي. و لكنها مواضيع بقت مجزأة و متناثرة على جلد المجتمع العربي، كجزر متناثرة على بحر مترامي الأطراف.
لم تستطيع هذه المشاريع أن تخدش مشاعر الوعي العام في شيء، لأنها أخفقت في فهمه و لم تستطيع أن تكون جزءا منه و أن تكون أحد روافده، و هذا يعني أنها لم تتمكن من التغلغل إلى داخل أعماقه، لكي ترشده و تقوده. و لكن الذي حصل هو أنها بقت حبيسة ضمن جدلها الخاص، و لم تنشأ قنواتها مع الوعي العام، و صارت هذه المشاريع بنخبها تقرأ و تنور بعضها البعض، و تخلت عن غايتها النبيلة التي وجدت من أجلها، غاية تنوير أفراد المجتمع، لم تستطيع من أن تجعل المجتمع يستهلك منتجاتها النهضوية المستنيرة، و أضحت تسير ضد قدرها كلما كثرت و تنوعت، إلا و زادت ابتعادا عن المجتمع، و هي بهذا العمل خلقت عالما نخبويا خاصا موازيا لعالم الراهن العربي، الأمر الذي زاد على إتساع المسافة بين المثقف و الفرد الإجتماعي، فبدلا لأن يفكروا للمجتمع في عمومه أضحوا يفكرون لبعضهم البعض، إنه عالم نرجسي مغلق لا يدخله إلا المثقفون. و لعلنا يمكننا أن نطرح السؤال التالي يظهر حقيقة هذا الإنشاد، و هو لماذا أخفقت المشاريع الفكرية العربية على تأسيس تيارات معرفية مستقلة، كما كان الشأن عليه في الغرب مع بداية العصر الحديث كا المثالية و العقلانية و الريبية و النقدية و الإعتقادية و التجريبية و النفعية و الرومانسية و غيرها من التيارات.......؟.
إذا ما قمنا بتصنيف هذه المشاريع، و برغم تنوع مواضيعها و إختلاف مناهجها، يمكن خندقتها ضمن رافدين، مشاريع إنسلت من الرافد الداخلي للمجتمعات العربية، من تراثه و من مقوماته اللغوية و الدينية، و هي المشاريع استطاعت أن تهيمن على وجدان الفرد العربي، وفقت في استقطابها للضمير الجمعي العربي، لأنها اتخذت من رموز هويته موضوعا أساسيا لها. و بهذا التميز حضيت بتأييد تاريخي و رسمي واسع، الأمر الذي ساعدها على أن تتحول إلى إيديولوجيا شاملة للجماهير العربية.
أما الرافد الثاني، هو الرافد الذي إشتمل على المشاريع التي اعتمدت على توظيف منتوج الفكر الخارجي، بأدواته و مناهجه و استراتيجياته في فهم الأنا، لما يمتاز به هذا المنتوج من قدرة على إنجاز هذه العملية، هذا الذي دفع بروادها على نقل كل حمولات منتوج الأخر المعرفية على فحص و تمزيق حالات الأنا الأنطولوجية، نظرا لنجاحه الباهر على بناء تاريخ المجتمعات الغربية بناءا سليما على جميع الأصعدة، في الوقت الذي تناست فيه هذه المشاريع، أن هذا المنتوج ولد داخل مجتمعاته، و هو الذي رمم تاريخه بما يتماشى مع منطق هويته الخاصة. و هو بهذا الفعل قام بدورين بارزين في تاريخه، دور التكوين الذاتي( المادة المعرفية) و دور البناء الكلي( توظيف المادة المعرفية)، و هو فعل إبستيمي محض أدى وظائفه كاملة.
و لكن إذا سايرنا أنصار الرافد الثاني في عملهم المعرفي هذا، لوجدناهم يعتمدون أحد هذين الدورين لا غير، و هو الدور الأول الخاص بمادته المعرفية نظرا لسهولة التحكم فيه و التعرف عليه حينما ظلت مادته مكدسة في الكتب. و هذه المادة في لحظة من لحظات تاريخ المجتمعات الغربية ساهمت في تشيّيد هذا التاريخ، و عندما استنفذها إستغنى عنها. إستغناء حوّلها إلى ثقافة تتمتع بها الأجيال القادمة. كما هم الآن يتمتعون بثقافة تاريخهم الإغريقية و المسيحية، سواء كانت فنا أو فلسفتا أو أدبا، التي صنعت بالأمس أحداثا زلزلت واقعهم،أضحت الآن من مخلفات تاريخهم.
و هذا يعني أن رواد العرب أصحاب الرافد الخارجي المعاصرين يعتمدون على ثقافة ميتة جفت دمائها عبر الزمن. أما الدور الثاني الخاص ببناء الواقع و هو الأهم الذي لا ينشأ إلا بحضور مادته المعرفية، تغافلنا عنه. و في كل الأحوال لا يمكن الإعتماد عليه و نقله، بما أنه دور معنوي و عملي يدخل في صناعة الراهن، يظهر في اللحظة التي تظهر فيها المادة المعرفية المتسببة له، و سرعان ما يستنفذه العصر الذي وجدت فيه هذه المادة، و هذا يعني أن أنصار الرافد الخارجي إعتمدوا على معرفة عرجاء، و بالتالي ظهرت مشاريعهم ناقصة و عاجزة على بناء الواقع العربي المعاصر.

* * * *

3- المستوى الثالث: و هو المستوى المتعلق بنوعية الأفكار و المعارف التي أنتجتها هذه المشاريع.
لا يخطأ المرء عند ملامسته لأفكار هذه المشاريع، و توجهاتها المعرفية و أساليب مناهجها، أنها تصب كلها في الرافدين السابق ذكرهما، ألا و هما رافد الداخل و رافد الخارج. فمكونات رافد الداخل، اتخذت من التراث و من مقوماته و مشتقاته، كاللغة و الدين و القومية و التاريخ و علوم النحو و البيان و الطبيعة و الكلام....مواضيع خصبة لها، و هي كلها مواضيع تشيدّت في الماضي و ترصّع بها، ملأته خصوبة و ثراءا، ساهمت بأكسيومها الخاص في هندسة معالمه و صقل بنياته المتفردة، إلى درجة أنها جعلت منه عصرا ذهبيا.
أما ما يسمى بالنكسة الحضارية لمجتمعاتنا، حدثت في لحظات هجرانها و تخليها عن دينامكيات هذه العلوم و المعارف، بسبب عوامل داخلية و خارجية معروفة و متعددة، الأمر الذي جعل من رواد هذا الرافد يعتقدون أن إحداث الإقلاع الحضاري كفيل بإعادة إحياء هذا الثراث و نفخ الروح فيه من جديد، بما أن النكسة حدثت بغفلتنا عنه، أخذتا صورة قضية منطقية، بمعنى أن حلولنا الحضارية هي بين أيدينا، تكمن في تراثنا، كفيلة بإعادة استرجاع ما أضعناه، و على أن قوتنا في تراثنا، بما يحمله من مقومات هويتنا و ثقافتنا و هذا صحيح. إلا أن هذا التوجه تغافل عن شيء مهم، كان قد بث السم في جزء كبير من تراثنا، و هو أن العلم الكوني الحديث و ثوراته حسم بشكل قطعي جميع المسائل التي كانت في صلب إشكاليات التراث، مما أدخل معظمها إلى متحف تاريخ العلوم لتكون فسحة خاطر، بإستثناء ما تعلق بعلوم البيان و علوم الدين.
و بهذه الحقيقة إقتصر دور رواد إحياء التراث، على الجانب الوجداني و النفسي، في إعادة الثقة لأجيالنا المنكسرة على أنها قادرة على إحداث المنعطف الحضاري كما كان الشأن عليه مع الأجيال السابقة و هذا هو مغزاهم.
و إذا ما تساءلنا عن سبب عدم تأثر علوم البيان و علوم الدين بانجازات العلوم الحديثة، على غرار العلوم الأخرى، لوجدناه يعود إلى طبيعتهما الخاصة. فعلوم الطبيعة و التجريب هي علوم كونية شاملة، بخلاف علوم البيان و الدين التي تمتاز بالقومية و برموز الهوية الإقليمية نابعة من الوجدان التاريخي للمجتمعات العربية، هذه الخواص جعلت من هذه العلوم تبقى بمعزل عن أثار ثورات العلوم الكونية.
و بهذه الخواص حافظت هذه العلوم على بقائها و استمرارها و تكتلها، و هيمنت على الضمير الجمعي العام، لأنها تعبر عن مقومات الذات العربية، جعلتها تبقى غارقة في هذه العلوم. فهي بعد النكسة أضحت تشكل و لازالت تشكل ثقافة عصور الذات إلى يومنا هذا، إلى درجة تحولها إلى إيديولوجيا شاملة.
أما مكونات الرافد الثاني المعرفية، و هو الرافد الخارجي، كان مجراه يسير في عكس إتجاه الرافد الأول، حينما إتخذ أفكار و معارف الأخر المختلف موضوعا أساسيا له، معتمدا على مناهجه و تقنياته في ملامسته للراهن العربي، حيث تنوعت تياراته بتنوع التيارات الخارجية التي إعتمدها، فنشأت منه التيار الماركسي و التيار الليبرالي، العلماني و الحفري.....التي هي الأخرى فشلت على إحداث التغيير المرجو، و انكسرت أنيابها في نهشها للواقع العربي المختلف.
هنا نعود إلى السؤال الذي طرحناه آنفا ألا و هو: لماذا أخفقت المشاريع الفكرية العربية على تأسيس تيارات معرفية مستقلة كما كان الشأن عليه في الغرب مع بداية العصر الحديث كا المثالية و العقلانية و الريبية و النقدية و الإعتقادية و التجريبية و النفعية و الرومانسية و غيرها من التيارات.......؟.
فبدل لأن تؤسس لمثل هكذا نزعات معرفية خالصة، تحولت إلى إديولوجيات في وقت قصير، فعوض أن توظف منطق المعرفة الخالص، الذي يختص في الغوص في بناء الأنا التي تملأ الكل الإجتماعي، إعتمدت منطق الإيديولوجية في تمرير أفكارها و بسط مشاريعها، الذي يظهر في منطق التعبئة و الهيمنة. فهو يسعى إلى التحكم في الكل الإجتماعي دون مراعاة الأنا الفردي، و بهذا منطق يختلف تماما عن المنطق الأول، إن لم نقل عنه أنه يعارضه و يدحضه. فهما يختلفان في المبدأ و الغاية، فحيث ينتهي منطق المعرفة ( الكلية الإجتماعية- المعرفة المفهومية) يبدأ منطق الإيديولوجية( المعرفة التمثيلية).
منطق العلم ينطلق من شيء فردي خاص و ينتهي في شيء عام كلي، أما منطق الأيديولوجية، فهو يقوم على توظيف مكتسبات المعرفة الكلية على تحقيق مكاسب خاصة، و هذا ما نلمسه في التيار الماركسي الاشتراكي، و التيار الليبرالي الحر، و التيارات الثقافية الأخرى، عنه تحولت التيارات الفكرية العربية إلى إيديولوجيات، تحول كان دليلا قاطعا على انغلاق أفقها. فعندما عجزت على أن تحول أفكارها و معارفها إلى ثقافة الاجتماعية و تمتزج بها، انغلق المجتمع عنها وفق اعتبارات مختلفة، لم تتمكن من الغوص إلى أعماقه. هذا العجز دفعها إلى العمل الإيديولوجي، الذي يتمثل في العمل على تغليف الثقافة الاجتماعية تغليفا شكليا، جعلها تدخل في صراع مع المكون الرئيسي لهذه الثقافة، ألا و هو الدين، فهي التي تحرشت بالدين و ليس العكس، حينما أرادت أن تخترقه و تفككه و تملي عليه شروطها و مبادئها، و نحن نعلم جميعا نتائج هذا الصراع.
إن مجتمعاتنا العربية اليوم قد تحولت إلى ساحة تطاحن الإيديولوجيات فيما بينها، بين إيديولوجيات الرافد الخارجي و إيديولوجيات الرافد الداخلي، و بضبط بين الليبرالية و الاشتراكية و الإسلاموية. و إذا كان هذا الصراع قد حسم في الغرب بانكسار الاشتراكية و نزعاتها، فمجتمعاتنا لا زالت تعيشها بحدة، التيارات الفكرية هي سببها المباشر.
خصوصا و نحن نعلم أن الإيديولوجية توظف الأفكار العلمية الخالصة لسياقاتها و غاياتها الخاصة، فكل إيديولوجيات الرافد الخارجي لم ينتجها الواقع العربي، بقدر ما هي فرضت عليه و سعت لأن تبتلعه. تبنتها نخبها المثقفة على أنها الأقدر على تمثلها، بخلاف إيديولوجيات الداخل التي تظهر في الإيديولوجية الدينية، أنتجها الواقع العربي من أعماقه، فكانت نتاج جماعي و باتفاق الجميع. و بهذه الخاصية الكلية التي يتمتع بها الدين، ظلت إيديولوجيته المهيمن الواعي و اللاوعي على مجريات الحياة العربية.
و إذا ما تساءلنا عن السبب الذي كان وراء تشكلها و تكتلها و نجاحها في هيمنتها على المجتمعات العربية، لنقول عنها أنها ظهرت في اللحظة التي تم فيها توظيف الدين في غير سياقاته الأصلية التي جاء من أجلها، و هي سياقات تربوية و أخلاقية و معرفية و ربانية. و أيضا في اللحظة التي حظي فيها بالتأييد الكامل من المؤسسات التاريخية و الاجتماعية و الرسمية. تأييد ساهم في فتح التواطؤ الجماعي على تصلب هذه الإيديولوجية، و عندما تحققت كل هذه المؤشرات بشكل كامل، تحولت هذه الإيديولوجية من إيديولوجيا إيمانية و تجربة إلى إيديولوجيا حياة، و أبعد من هذا إلى إيديولوجيا النجاة و المصير.
بقدسية النجاة اكتمل الابتلاع الديني للكائن العربي، و أضحت هي تبتلع الفرد و ليس الفرد يبتلعها، و تحول الكائن العربي من قضية أنطولوجية إلى قضية دينية بامتياز، تحول توّلد عنه فهم كل محاولة تثار حول هذا الكائن على أنها محاول ضد الدين، في ظلها لم يعد يستطيع الفرد أن يفهم نفسه بمعزل عن الدين، لأن الحدود التي كانت مرسومة بين كينونته الأنطولوجية و بين الدين كمشروع إلهي قد مسحت، أصبح يشعر بأنه هو و الدين شيء واحد، حدث هذا بفعل التأجيج الإيديولوجي، و استمرار فهم هذه الثنائية بهذا الشكل حتما سيزيد من تصلب كل مكونات هذه الثنائية في الحياة الاجتماعية. هذا بضبط ما عملت عليه بعض المشاريع المعاصرة و خصوصا مشروع الفيلسوف محمد أركون النقداني الذي حاول أن يفضح الأوهام التي تنتجها هذه الإيديولوجية.
و عليه يمكن أن نقول أن كل محاولة حداثية ممكنة لا تراعي الدين، تبقى محاولة يائسة، لأنها محاولة حدثت خارج الوعي الاجتماعي، و هذا ما حدث بالضبط للتيارات غير دينية حينما أفرغت حمولة مشاريعها خارج الوعي الاجتماعي كبنية مشكلة تاريخيا، و بالتالي و كأنها اشتغلت خارج التاريخ، و ليس العكس كما اعتقد البعض، حينما اعتبروا الوعي الديني على أنه نشأ فوق التاريخ، خاصة من قبل الماركسيين، لأنهم كانوا ينظروا إلى ما حدث في تاريخ العرب بمنظار الإيديولوجية الفوقية. و بهذا الفهم لعبت المشاريع التي أهملت الدين وظائف مثالية، لأنها لم تراعي طبيعة الحراك الاجتماعي العربي و لم تفهمه، في الوقت الذي كانت فيه الإيديولوجية الدينية تحقق فيه مكاسب عظيمة على غرار الإيديولوجيات الأخرى، بما أنها هي التي تصنع هذا الحراك و تقوده و تتحكم فيه، و بالتالي كانت وظائفها وظائف واقعية و حقيقية. و المسألة تطرح هنا هي، الكيفية التي يمكن أن نجعل بها الدين شيئا حداثيا، أي تحديث الدين و ليس إقصائه.
و هذا يعني أنه يجب على باقي الإيديولوجيات أن تتفاوض و تتفهم الدين، حتى يتسنى لها التقرب من أطياف المجتمع.
و إخفاق هذه الإيديولوجيات يعود إلى عدم إحداث تطابق بين أفكارها و منتجات الواقع، لأن ما يفصل بينها و بين المجتمع هو الغطاء الديني، و عليه يمكن القول أن الوعي العربي تضاعفت عليه إيديولوجيات كثيرة، و تفرغ لها الدين في الوقت الذي لم يعد يقوم فيه بوظائفه الأصلية، و إنما يسعى لكي يحافظ على مكتسباته التاريخية و يدافع عنها بالتعبئة و التجييش و بشتى الطرق و لو بالعنف.
- أما الإيديولوجيات التي وظفت الأفكار الغربية في ملامستها للواقع العربي، كا: الماركسية و الاشتراكية و الليبرالية و العلمانية، فهي الأخرى تحولت إلى مؤسسات تستثمر منتجات المعرفة و مستجدات الفكر الإنساني في بناء تصوراتها و برامجها الخاصة، مما جعلها لا تنتج المعرفة بقدر ما هي تستغل المعرفة ذاتها، إلى درجة أننا نجد صعوبة في التمييز بينهما.
و عليه تحولت هذه الإيديولوجيات في الساحات العربية إلى لاعب جيد، يجيد الخطابات و حياكة الإستراتجيات المناسبة لإنجاز المشاريع، أنستها وظائفها الأصلية و غدت توظف كل الطرق لبناء و الحفاظ عن مكوناتها و مكاسبها، يظهر نشاطها حيث الحراك الفكري و الاجتماعي شديد.
و بما أن تقريبا معظم المجتمعات العربية تقع في الحزام الجغرافي المجاور، للمجتمعات الغربية، منبع هذه الإيديولوجيات، تأثرت بشكل مباشر بما أنتجته هذه الإيديولوجيات، و كل عملية نقل ما نعتقد فيه أنه معارف محضة لهذه المجتمعات، تصلنا في قوالب الإيديولوجية، حيث أن عملية تصريف ما نعتقده معارف في قراءتنا لراهننا و مشاكلنا، يبقى تصريفا إيديولوجيا، و بتعبير بسيط، هي معارف عندهم و إيديولوجيا عندنا، حيث أنها تقوم بأدوار الإيديولوجية، لا تصلنا معارفهم الحقيقية و إنما إيديولوجياتهم في صور المعرفة.
فإذا ما تصفحنا تاريخ المعرفة، لتبين لنا أن العصر الحديث و الأنوار في أوربا، كان عصر إنتاج الأنساق المعرفية بامتياز، تفرخت فيه النزعات العلمية في شتى المجالات بمستويات ناضجة، استطاعت أن تملأ وعي عصرها، فاضت عنها مدارس و مناهج و علوم جديدة، في ظلها أصبح الفرد يؤمن أن مستقبله مرهون بهذه المعارف. هذا الإيمان حول هذه المعارف إلى قضايا اجتماعية و انتزعت عنها الغرابة، و إنما الغرابة أصبحت لصيقة بمن لم ينخرط بعد في هذا الثراء.
و هذا يعني أن بنية الوعي الأوربي تغيرت جذريا، و أصبح يعرف ذاته و يتصل بالعالم عبرها. فإنسان الحداثة لم يعد يفكر بنمطية التي كانت جارية في ماضيه، عملية صقلت صلابة زمنهم عبر لهيب المعرفة في استقامة متناهية ممتدة في أعماق مستقبلهم. زادهم هذا الإيمان في تحولهم الإنطولوجي كلية. لأن الوجود لا يستطيع أن يحافظ على ثبات كينونته عندما تتحرك عواصف الوعي الهوجاء، كل شيء يتغير، و تتغير بشكل لا يصدق.
إذا عصر الحداثة كان عصر إنتاج المعارف البنائية و ثورية، حدث هذا عندما حققت شروط تصلبها في الواقع الغربي و امتدت عبر خيوط الفردانية داخل نسيج مجتمعاتهم، زاد في تماسكها بهيمنتها عليها. هيمنة كانت كفيلة في تحول معظمها إلى إيديولوجيات تتميز بتميز مبادئ هذه المعارف. و عليه نجد أن الحقبة المعاصرة عرفت بعصر إنتاج الإيديولوجيات، هذا العصر عمل على الاستثمار في تركة العصر الحديث و توزيعها، مما جعله يقتصر على إنتاج العلوم الأداتية ( علوم اللغة، الإبستيمولوجيا، علوم التحليل، علوم النص، و المناهج، و المعارف التفكيك و الحفر...)على حساب العلوم النسقية التي تميز بها العصر الحديث، و هي علوم وجدت لتفكيك العلوم الشاملة.
الإيديولوجيات المعاصرة أضحت تتغذي من هذه المعارف الأداتية، و هي بهذه العملية تحولت إلى فكر الثاني استغلالي، نشأ على أنقاض الفكر الأصلي المعرفي، و متخذا من المعارف ساحة لوظائفه يتحرك داخل قنوات الوعي العام، على أعقابه ظهرت المعرفة هنا كسجن للفكر الإيديولوجي، أي الإيديولوجيا هنا لا تلامس الواقع إلا عبر المعرفة، جعل من وظائفها وظائفا إيجابية، ساعدت على انتشار المعرفة بغير قصد و هي تسعى لتحقيق مقاصدها الخاصة- أخذتا صورة الفكر ينهش ذاته- أما الإيديولوجيات العربية فلم تجد هذه الساحة التي تمتد فيها حينما ظلت مجتمعاتها تعاني الفقر المعرفي، مما جعلها تتجه مباشرة إلى الواقع الصلب، مستغلة رموزه الدينية و اللغوية و الأنثروبولوجية بما فيها سذاجته، فكانت وظائفها هنا سلبية ndash;أخذتا صورة الفكر ينهش الواقع-.
و ما يمكن أن نستخلصه من هذا التحوير، هو أن نمو الإيديولوجيات الغربية و تصاعدها كان نموا طبيعيا، لأنها نمت في وسط ثقافي ثري و في وسط حراك اجتماعي ناضج، نتائجها كانت كلها على المستوى الثقافي و الفكري، عكس مجتمعات أوربا الشرقية التي مزقتها الإيديولوجيات حينما ظلت تفتقر إلى هذا الوسط و لم تحقق النضج الذي أدركته المجتمعات الغربية. و عليه نستنتج أن مشاريع الفكر العربية هي مطالبة أكثر من أي وقت مضى على مراجعة آلياتها في تعاطيها لقضايا من نوع قضايا مجتمعاتها.

أ. مونيس بخضرة
الجزائر