إن صحت التقارير والبيانات الأمريكية بشأن مقتل أسامة بن لادن على أيدي القوات الأمريكية الخاصة يكون الإرهابي الأول في العالم قد نال النهاية التي توقعها له الجميع وهي للأسف نفس النهاية التي تمناها هو لحياته. يرى كثيرون أن نهاية بن لادن كانت مستحقة باعتباره إرهابياً روّع العالم بجرائمه التي حصدت أرواح عشرات الألاف من الأبرياء، ويرى أخرون أن بن لادن استشهد مجاهداً في ميدان القتال مدافعاً عن الإسلام والمسلمين. لم يكن الانقسام في الرأي بشأن التقارير الأمريكية أمراً مدهشاً فقد رأى العالم أسامة بن لادن بمنظارين أحدهما ناصع البياض والأخر قاتم السواد. لم يكن هناك تيار وسط يقف بين النقيضين. لذا لم يكن غريباً أن يسعد مئات الملايين حول العالم الذي اكتوى بنار الإرهاب الادني بمقتل بن لادن، ولم يكن غريباً أيضاً على نسبة كبيرة من المسلمين أن تنعي غيابه باعتباره بطلاً إسلامياً قل نظيره.

مفارقة أحسبها غير عادية أن تعتبر ملايين غياب أسامة بن لادن مكسباً مهماً للحرية وأن تعتبر ملايين أخرى غيابه خسارة فادحة للجهاد. ما تعكسه هذه المفارقة هو أن الحرية والجهاد لا يمكن أن يجتمعا في عالم واحد. إما الحرية وإما الجهاد.

خططت الولايات المتحدة لاصطياد بن لادن منذ الهجمات الإرهابية التي خطط لها ونفذها رجاله ضد السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا. وكرست واشنطن كل امكاناتها السياسية والعسكرية والمخابراتية لمحاصرة بن لادن وتضييق الخناق عليه. وقد عبّر الرؤساء الأمريكيون بل كلينتون وجورج بوش وباراك أوباما عن رغبتهم في الوصول لبن لادن حياً أو ميتاً. ولكن الإرهابي المحنك نجح لسنوات في الهروب ونجا من كل المحاولات الأمريكية لاصطياده مستغلاً تعاطف القبائل الأفغانية والباكستانية. غير أن الكلمة الأخيرة في معركة الطرفين كانت للولايات المتحدة.

أرادت الولايات المتحدة الوصول إلى أسامة بن لادن، ولكن الدلائل تؤكد أنها لم تكن في الحقيقة ترغب في الإمساك به حياً. كانت هناك خمسة أسباب على الأقل وراء رغبة الأمريكيين في اغتيال أسامة وليس القبض عليه حياً:

السبب الأول: رأت الولايات المتحدة أن تقديم بن لادن لمحاكمة كان يتوقع لها أن تستغرق سنوات طويلة ربما تسفر عن استنفار المجموعات الإرهابية التابعة له، وهو الأمر الذي كان سيجعل من مهمة تفادي أعمال إرهابية إنتقامية متكررة طوال فترة المحاكمة مهمة مستحيلة.

السبب الثاني: فضّلت إدارة أوباما اغتيال أسامة بن لادن، مع التأكيد للرأي العام أنه قتل في معركة مسلحة، عن إعدامه، بناءً على حكم قضائي، لأنها خشيت من أن تتسبب طول فترة المحاكمة في تحول نظرة الرأي العالم العالمي بصفة عامة والإسلامي المعتدل بصفة خاصة لبن لادن. كان الخوف أن يتعاطف الرأي العام العالمي مع بن لادن بمرور الوقت.

السبب الثالث: أرادت الإدارة الأمريكية تفادي الالتزام بالقوانين الدولية التي تحدد أسلوب التعامل مع المساجين وأسرى الحرب، وهي القوانين التي تسببت في الكثير من الإحراج للولايات المتحدة في السنوات الأخيرة خلال حربها على الإرهاب.

السبب الرابع: سعت الولايات المتحدة لطوي صفحة أسامة بن لادن تماماً ومن دون رجعة. أرادت الولايات المتحدة أن تتخلص تماماً من كل أثار وتاريخ أسامة بن لادن. أرادته كما لم يكن ولد وعاش. ولعل هذا هو السبب هي إلقاء جثته في عرض المحيط بدلاً من دفنها.

السبب الخامس: ادرك باراك أوباما أن التعامل مع بن لادن يتطلب توازناً دقيقاً بين الداخل الذي يرغب في الانتقام من الارهابي الذي تسبب في فجيعة 11/9 من جهة والعالم الإسلامي الذي قد تتأذى مشاعر الملايين من أبنائه لرؤية بطلهم مسجوناً أو مساقاً للإعدام من جهة أخرى. لم يرد أوباما إيذاء مشاعر الإسلاميين ولذا كان قتل أسامة، خلال معركة، حلاً وسطاً. ولعل رفض أوباما نشر صور جثة أسامة دليل على مراعاة أوباما لمشاعر الإسلاميين.

من الممكن ان تكون الولايات المتحدة محقة في مخاوفها من ردود أفعال إرهابية في حال اعتقلت بن لادن، ولكن هذه المخاوف وغيرها لا تبرر، برأيي، قتل بن لادن لأن القتل عمل همجي لا يجب أن يلقى أي استحسان. كان حرياً بالولايات المتحدة أن تلتزم بالقوانين الدولية التي تحرّم القتل.

بعيداً عن مسألة عدم شرعية قتل أسامة بن لادن، فإن غياب الإرهابي الأول عن الساحة يجعل من عالمنا أقل إرهابياً، ولكنه لن يجعله أقل إرهاباً. لهذا لم يكن غياب بن لادن يستوجب احتفال الإدارة الأمريكية لأن الذي غاب هو أسامة بن لادن وليس المنهج اللادني. إذا كان من المؤكد أن بن لادن، الذي فقد الكثير من فاعليته كإرهابي في السنوات الأخيرة التي اختبأ فيها وانقطعت اتصالاته فيها بالعالم فيما عدا أشخاص قليلين جداً، لن يصدر بعد اليوم أوامر بعمليات إرهابية جديدة، فمن المؤكد أن المنهج اللادني الإرهابي لا يزال باقياً بل أنه يزداد انتشاراً بصورة مخيفة في مختلف بقاع العالم. ولعله كان بالأحرى بإدارة الرئيس أوباما الانتظار بالاحتفالات حتى يتمكن العالم من اقتلاع المنهج اللادني تماماً. ولكن أوباما أراد الاستفادة من غياب بن لادن لتحقيق مكاسب في معركته الانتخابية القادمة.

لقد اكتوت الملايين في عشرات الدول بنيران الإرهاب اللادني. من العراق إلى الولايات المتحدة مروراً بكينيا وتنزانيا ومصر والجزائر والسعودية واليمن وفلسطين وإسرائيل ونيجيريا وانجلترا وأسبانيا وغيرها، كل هذه الدول تذوقت مرارة المنهج اللادني الإرهابي الذي علينا استغلال الزخم الذي أوجده مقتل بن لادن في استئصاله من عالم اليوم.

ربما نال أسامة بن لادن، برأي الملايين، جزاءً يستحقه بجدارة. رصاصة تفتت رأس الإرهابي الأكبر الذي روّع العالم بأعماله الإجرامية ورؤاه المتطرفة تبدو منطقية لدى الكثيرين. ولكن قتل بن لادن في المنزل الذي اختبأ فيه بالقرب من العاصمة الباكستانية إسلام أباد لم يكن أبداً، برأيي، عملاً لائقاً لأنه عمل غير إنساني من جهة، ولأنه لم يعافب بن لادن بطريقة كافية من جهة أخرى. كان من الواجب على القوات الأمريكية أن تسعى بكل جهد لإلقاء القبض على أسامة بن لادن وأن تقدمه لمحاكمة عادلة يراها العالم من خلال بث حي لمجرياتها. كان جزاء أسامة بن لادن الأمثل، برأيي، هو أن يقضي بقية حياته ذليلاً في أحد سجون quot;الكفارquot; الذين كرههم. لكن قتل بن لادن لم يكن عقاباً مناسباً لحجم الجرائم التي ارتكبها، بل أنه لم يكن عقاباً على الإطلاق في نظره ونظر مريديه لأنه نال أسمى أمانيه من موت في معركة جهادية ضد رموز الكفر... موت بطريقة تتدغدغ لها مشاعر الإرهابيين.

[email protected]