حول اتفاقية الانسحاب..

مع اقتراب موعد انسحاب القوات الأميركية النهائي من العراق بموجب الاتفاقية الأمنية التي وقعت بين البلدين أواخر عام 2008، والتي تنص على مغادرة آخر جندي أميركي للأراضي العراق بحلول نهاية عام 2011، فان الشكوك بدأت تحوم في إمكانية تطبيق هذا الأمر في واقع الحال. وعبّر العديد من السياسيين والمثقفين فضلا عن شريحة واسعة من إفراد الشعب العراقي عن قلقهم من لجوء الحكومة العراقية إلى طلب تمديد بقاء عدد محدود من القوات الأميركية لحماية الأمن الوطني.

هذه القضية تأتي في سياق متوافق مع مسيرة كل المشاريع في العراق الجديد. واعني بذلك مواجهة أصحاب القرار للمسائل الحيوية كأنها حدثت للتو، أو أنها لم تكن موجودة وظهرت للعيان بين ليلة وضحاها. فالكل يعلم بمشاكل العراق المختلفة، بدأ من نقص الخدمات الأساسية، مرورا بتلكؤ مشاريع الإعمار وتفاقم مشاكل البطالة، وليس انتهاءً بعدم جاهزية القوات المسلحة لحماية حدود العراق من الاعتداء الخارجي.

لكن هذا التباطؤ في اتخاذ التدابير اللازمة للوقوف بوجه التحديات التي يمر بها العراق، على المستويين السياسي والأمني، ليس مشكلة الحكومة وحدها. فالتركيبة المعقدة لهيكل الحكومة ربما فرضت عليها نوعا من العجز عن القيام بالأمور العاجلة والاستجابة الفورية للطوارئ، بالإضافة إلى عدم القدرة على وضع الخطط المتأنية للمدى القريب والمتوسط والطويل.

على كل حال، وصلنا اليوم إلى النقطة التي لم نكن نتمناها، وهي خيار طلب التمديد، مع كل الانعكاسات السلبية لمثل هذا الخيار على الوضع الأمني الداخلي، بعد تصاعد التهديدات من القوى المحلية بالعودة إلى المقاومة المسلحة إن تقرر إبقاء قوات أميركية في العراق فيما بعد 2011.

فهل أن لهذا الخيار ما يبرره أساسا، أو أن اعتماده سيقود إلى النتائج المتوخاة منه؟ إذا كان الإبقاء على قوات أميركية في العراق أمرا ملحا لمنع اعتداء خارجي، فان ذلك يعني بالضرورة أن بقاء هذه القوات سيمتد إلى اجل غير مسمى، خصوصا مع أن ذلك يتماشى مع المصالح الأميركية التي تريد البقاء قريبا من مصادر التهديد لأمنها مصالحها الاقتصادية. وبما أن إيران هي في الوقت الراهن هي اكبر تهديد للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فان العراق هو خير موقع لمنع إيران من توسيع نفوذها غربا، وبالتالي اكتسابها المزيد من الزخم لتحدي القوة العظمى الأولى في العالم.

إذاً، بقاء القوات الأميركية قد يمنع إيران من التدخل العسكري في العراق، لكنه لن يمنعها من السعي توطيد نفوذها في هذا البلد. وقد أضحى العراق، منذ الاحتلال الأميركي عام2003، مجالا حيويا للجمهورية الإسلامية، بعد أن حاصرتها القوات الأميركية من الشرق في افغانسان ومن الغرب في العراق.

لذلك فان التواجد العسكري الأميركي في العراق قد يدفع إيران إلى استئناف دعمها للجماعات المسلحة في أجزاء عديدة من العراق لتقويض الجهود الأميركية في مساعدة الحكومة العراقية، ولإحداث خسائر كبيرة بين صفوفها، الأمر الذي سيجبر الولايات المتحدة على الانسحاب النهائي من العراق. فقبل كل شيء، جاء قبول أميركا بجدولة انسحابها من العراق بعد تصاعد الغضب الشعبي داخل الولايات المتحدة على الحرب في العراق، بعد تفاقم الخسائر البشرية والاقتصادية الأميركية، حتى بات الرأي العام الأميركي يعتبر هذه الحرب غير ضرورية ولا مبررة. وإذا كانت القيادات الأميركية قد طلبت من العراق تحديد موقفه من رحيلها أو تجديد الاتفاقية الأمنية، فإنها إنما تنظر إلى الأحداث الراهنة، حيث لم تعد تعاني من خسائر فادحة في الأرواح والنفقات. لكن مراجعة سريعة للأحداث في السنوات القليلة الماضية تكشف عن الكابوس المرعب الذي كان على الجنود والقادة الأميركيين التعامل معه كل يوم.

على أن التهديد الأمني الإيراني للعراق قد يكون أمرا مبالغا فيه. فمثل ما تؤكد المقولة المأثورة: quot;ليست هناك صداقات دائمة أو عداوات دائمة بين الدول، بل مصالح دائمةquot;، فان مصلحة إيران الدائمة هي في تجنب النزاع مع العراق، وهي مصلحة دائمة للعراق أيضا. بالإضافة إلى ذلك، فان الإمكانيات العسكرية العراقية المتاحة حاليا قد تكون كافية للتعامل مع حالات التحرش على الحدود، كما أثبتت ذلك في العديد من المناسبات السابقة. وإذا كان السؤال عن تحدٍ امني اكبر من ذلك، مثل الغزو أو الاجتياح، فالجواب ليس في إبقاء القوات الأميركية، بل العمل جديا على تجهيز القوات المسلحة الرادعة لمثل هذا التهديد، في غياب القوات الأميركية. نعم سوف يستغرق هذا الأمر سنين عدة من التجهيز والإعداد والتدريب، لكنه سوف يسير بخطىً ثابتة وبمراحل محكومة بأولويات المخاطر المحيطة، وسوف يقلل من أخطار التهديدات الخارجية في كل مرحلة من هذه المراحل وصولا إلى حالة الاستقرار الأمني التام.

بطبيعة الحال، ليست إيران وحدها ما يمثل تهديدا كامنا لأمن العراق، بل ربما تكون جميع الدول المجاورة تهديدا محتملا، خصوصا الجارة التركية التي طالما أرسلت قواتها داخل الحدود العراقية بذريعة تعقب معارضيها. ويصح هنا ما أسلفنا من ضرورة التصدي لهذا التهديد بالتجهيز المتعدد المراحل لجيش العراق وتمكينه من الوقوف بوجه هذه التهديدات بالصورة المناسبة.
أما التهديد الأمني الداخلي، فمن الواضح أن القوات الأمنية العراقية قد أصبحت العنصر الأساسي في التعامل معه، ولم يعد للقوات الأميركية سوى دور محدود فيه. لقد تزايدت الثقة الشعبية بأداء القوات الأمنية منذ نجاحها في إخماد الفتن الطائفية قبل أعوام قليلة، وارتفعت معنويات هذه القوى الأمنية ومستوى تدريبها وتسليحها بحيث لم تعد هناك حاجة أساسية لمعونة خارجية.

كما أن من المستبعد حدوث سيناريو متشائم، بعودة العنف إلى بعض مناطق العراق التي لازالت تعاني من تواجد فلول القاعدة بين ظهرانيها، أو تعرضه إلى اعتداء غاشم من الدول المجاورة، بسبب تغير الظروف الجيو-سياسية في منطقة الشرق الأوسط، وخروج الشعوب العربية بالخصوص بوجه أنظمتها المتعسفة للمطالبة بالمزيد من الحريات. فان تحققت مطالب هذه الحركات الثورية سيكون ذلك بمثابة تطمين مضاف للهواجس من انتكاس الوضع الأمني في العراق، طالما أن الأنظمة الجديدة ستكون اقل دكتاتورية إن لم تكن أكثر ديموقراطية. ومن المعلوم أن الأنظمة المنفتحة تميل إلى نبذ العنف أو مساندته في علاقاتها مع الدول الأخرى وتفضل تشجيع حركة التبادل الاقتصادي فيما بينها، والتي تعود بنفع اكبر على الشعوب من المغامرات غير المحسوبة للحكومات المتسلطة.

وعلى هذا اخلص إلى القول انه ليست هناك من حاجة ملحة لتمديد بقاء القوات الأميركية في العراق، سواء حافظا على الأمن الداخلي أو الدفاع عن حياضه أمام تهديد خارجي. وقد آن الأوان لان يكون العراق، مرة أخرى، بلدا مستقلا معتمدا على ذاته في تحقيق أمنه ورفاهية شعبه، وان تتحمل حكومته وشعبه مسؤوليتهما في هذا الشأن بدون تأثير سياسي أو عسكري قادم من الخارج، حتى وان كان ذلك من أصدقاء ساهموا في تحرير العراق من الطغيان ووضعه على جادة الحرية والديمقراطية.