انتظر اللبنانيون أمس، كعادتهم في انتظار المجهول، دون أي حماس يذكر البيان الختامي للقمة الروحية التي دعى اليها البطريرك الماروني الجديد بشارة الراعي في بكركي، علماquot; أن التسريبات حول النقاط التي تناولتها القمة وأبرز quot;الخطوط الحمراءquot; التي لن تتطرق اليها سرّبت قبل القمة بساعات الى الاعلام... فجاء البيان تحت سقف التوقعات حيث اكتفت الشخصيات الروحية بمنشادة المسؤولين السياسيين بتأليف الحكومة بأسرع وقت ممكن على الأسس والقواعد الميثاقية والدستورية علماquot; أن المطالبة بتشكيل الحكومة تأتي متأخرة في وقت بدأت فيه أسماء التشكيلة الحكومية الجديدة برئاسة نجيب مقاتي تتّضح أكثر...

بين العقدة المسيحية والعنادية السنيّة...حكومة معطّلة
ورغم أن التشكيلة الحكومية الجديدة ما زالت تدور في فلك quot;الضوء الأخضر العربيquot; لا سيما من سوريا والسعودية وquot;الترحيب الاقليميquot; لا سيما من ايران وتركيا فضلاquot; عن مواكبة مرجوّة quot;لموجات الثوراتquot; القائمة وما يمكن أن تخلّفه من نتائج وبالتالي الحاجة الى تشكيل حكومة لبنانية معتدلة اضافةquot; الى الدوران في فلك quot;اللغة الخشبيةquot; المؤلفة من مفردات المتاهة السياسية اللبنانية مثل quot;تدوير الزواياquot; و quot;العقدة المسيحيةquot; وquot;الهيمنة الشيعيةquot; وquot;الأنانية العونيةquot; وquot;العنادية السّنيةquot; وغيرها من التعابير التي يرفعها الاعلام اللبناني لاضفاء quot;صبغةquot; طائفية احياناquot; لمعوّقات التشكيلة الحكومية حين يكون السبب فيها هو الطرف quot;الخصمquot; أو لتبرير تعطيلها حين يكون السبب فيها الطرف quot;الحليفquot;... ورغم كل ذلك تعلّق quot;بعضquot; اللبنانيون، فالأغلبية منهم لم تكترث، بquot;بشرىquot; سارة قد يأتي بها quot;بشارةquot; من صرح بكركي بالأمس...

الوحدة الوطنية والخطوط الحمراء
وجاء البيان الختامي مخيبا للتوقعات quot;معنوياquot; متناولا الثوابت الوطنية ومستثنيا الملفات السياسية الدسمة التي ينقسم عليها البنانيون أصلا... ولم يفلح البيان الختامي حتّى بتقديم أي اضافة للثوابت الوطنية كما تناولت معظم الصحف اللبنانية لعدّة أسباب... فقد صدر عن المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى بيان انتقد فيه الصيغة النهائية لبيان قمة بكركي مشيرا الى ان البيان الختامي للقمة الروحية انحرف عن المسار الذي أعدّ له سلفا quot;خاصة في البندين السادس والسابع من البيان والذي جاء فيه قبل طرح التعديل التأكيد على سيادة لبنان وحريته وحق الدولة في تحرير أراضيها التي تحتلها اسرائيل وفي البند السابع فيما يتعلق بالصراع العربي الاسرائيلي فكان الاقتراح من قبل المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى الذي اكدّ حق لبنان في تحرير ارضه حتى يشمل حق الجيش والشعب والمقاومة... اما فيما يتعلق بالبند السابع الذي ذكر بالبيان فكان الاقتراح حل النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي فتمّ زيادة التعديل خجلا من طباعته في البيان الرسمي...quot; تصريح المجلس الشيعي اذن يؤكد اذن ان زعماءنا الروحيون لم يتفقوا حتّى على صيغة بيان معدّ سلفا بل أنّ تعديلات تمّت على البيان لصالح جهات معينة من المشاركين في القمة وربما من quot;خارجهاquot;...

في لبنان هناك ما اصطلح على تسميته بquot;هاجسquot; الوحدة الوطنية وهو الهاجس الرئيسي الذي يشغل المواطنين وصنّاع القرار السياسي في لبنان فمنذ استشهاد الرئيس الحريري في العام 2005 بحيث أصبح الوحدة الوطنية في لبنان quot;الخط الأحمرquot; الذي لا يسمح ولن يسمح لأحد تجاوزه، وأضحت الوحدة الهدف الرئيسي الذي تجتمع من خلاله كافة الفئات والشرائح الاجتماعية والدينية والسياسية حول مائدة مشتركة... وهي الشعار الذي يرفعه الجميع دون استثناء، ولا يقبل أي طرف من الأطراف السياسية أن يشعر بأنّ هناك من يسعى بصورة مقصودة أو غير مقصودة الى هدمها، أو شق طريقها، أو زعزعة بنيتها القائمة...

ولكن الوحدة الوطنية التي يتحدثون عنها والتي تحدّث عنها بيان القمة بالأمس اقتصرت على quot;الثوابت الوطنيةquot; التي لا تتعدى في لبنان كونها quot;شعاراتquot; تصنع خطابات طنّانة ورنّانة ولكنها غير مؤثرة في الطبقة السياسية ولا في الشارع اللبناني... ويعود ذلك الى أنّ اللبنانيين في السنوات الخمس الأخيرة التي تلت إغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري انقسموا حول مفاهيم ومفردات هدّدت في وقت من الأوقات العيش المشترك- المشكوك بوجوده اصلاquot; بين اللبنانين منذ الاستقلال عام 1943- وأنذرت بحروب أهلية- مشكوك دائما باحتمال اندلاعها ثانيةquot;- ولعلّ أبرزهذه المفردات وأخطرها على السّواء مفردات مثل quot;شهيدquot;، quot;مقاومةquot;، quot;عمالةquot;، quot;فتنةquot;، quot;إصلاحquot; وquot;خطوط حمراءquot;... فاذا كان الشعب اللبناني ومعه الطبقة السياسية الحاكمة لم تتفق على مفردات ومصطلحات الوحدة الوطنية فكيف بهم أن يكونوا قادرين في قمة روحية، لا حول ولا قوّة لها، ان يتفقوا على الثوابت الوطنية...لذلك جاءت القمة الروحية قمّة ذقون طويلة لا أكثر...

منطق اللادولة واللامواطن!
ولكن برغم الأمل الذي أتى به البطريرك بشارة الراعي للبنانيين منذ أن أصبح بطريركا للموارنة قبل بضع اسابيع وذلك في امكانية اعادة اطلاق مسيرة المصالحة المسيحية-المسيحة quot;الحقيقيةquot; لا quot;الصوريةquot; والحوار المسيحي-الاسلامي quot;البنّاءquot; لا quot;المجاملاتيquot; نحو تحقيق نتائج ملموسة، فانّ لبنان اليوم لا يبدو بحاجة الى مزيد من اجتماعات ومشاروات وquot;غداواتquot; دسمة تتوزع فيها الابتسامات أمام عدسات الكاميرا وتختتم بصور تذكارية بل هو بحاجة لفتاوى دينية من نوع quot;الوعظةquot; وquot;الارشادquot; يوّجهها رجال الدين للسياسيين ليكفّوا عن تقاسم لبنان quot;مزارع الطوائفquot; وquot;بيوت الفسادquot; وquot;قصور التبعيّةquot; وquot;التخوين المدمّرquot;...

وقد اكتسى مفهوم quot;الوحدة الوطنيةquot; بعداquot; مقدّساquot; في الخطابات السياسية في لبنان منذ العام 2005 حتى كاد يصبح هو مفردة الخلاص الوحيدة من إنجراف الوطن والمواطن إلى مسار النزاعات الطائفية والمذهبية والسياسية والدموية في كثير من الأحيان على لسان كل السياسيين... ولكن يبقى السؤال عن الأسباب التي حالت دون تحقيق وحدة وطنية حقيقة في لبنان وهو الأجدر طرحه هنا... فهل هي التدخلات الخارجية للمحاور الاقليمية في شؤون لبنان عن طريق حلفائها في الداخل؟ أم هي ضعف ولاء الشعب اللبناني لquot;لبنانquot; الوطن النهائي، ليسquot;لبنان النهائيquot; على طريقة 14آذار؟ أم هي أيادي العملاء والخونة في الداخل، ليست quot;التخوينquot; على طريقة 8 آذار؟ أم هي كل العوامل مجتمعةquot; ومضافاquot; اليها اليوم التحديات التي فرضتها وستفرضها أكثر الثورات العربية القائمة من المحيط للخليج والتي حملت سقوط رؤساء وأنظمة وتهديد عروش ملكية خليجية؟

يرتبط مفهوم الوحدة الوطنية مع مفاهيم أخرى مثل الانتماء والولاء وغيرها من تعابير توحيد quot;الصف الوحدوي الوطنيquot;... ولعل مفاهيم الانتماء والولاء بنظر البعض ليست سوى قيم محددة تؤدي في النهاية إلى تحقيق الوحدة داخل الوطن. وقد تكون مفاهيم الولاء والانتماء بالتالي من مقومات الوحدة الوطنية، ويظهر مفهوم آخر قد يكون ملاصقاً لمفهوم الوحدة الوطنية والمتمثل في مفهوم quot;المواطنةquot; والتي يمكن تعريفها كما جاء في دائرة المعارف البريطانية بأنها العلاقة بين الفرد والدولة التي تتحدد من خلال القانون، وما تتضمنه هذه العلاقة من واجبات وحقوق...علماquot; أنّ في لبنان ليس هناك دولة لأنه وببساطة لا يوجد quot;مأسسةquot; متينة للدولة كنظام قائم بذاته بغض النظر عن تعاقب الحكومات وسقوط التحالفات السياسية ورياح تغيير المواقف والولاء الخارجي لزعماء الأحزاب السياسية اللبنانية... فكيف سيكون هناك quot;مواطنةquot;؟... هذه الوقائع quot;تشرّعنquot; فشل الوصول الى وحدة وطنية لأن منطلقات الخطاب الوحدوي في لبنان يأتي من quot;ناقص وطنيةquot; والمقصود هنا حتماquot; الأحزاب اللبنانية التي تعمل بأجندات لا تخدم لبنان واللبنانيين بل مصالحها ومصالح حلفائها في الخارج...

عقد دينية... وعلمانية تائهة!
وبالعودة للقمة الروحية التي أعدّت بيانها سلفاquot;، على شاكلة بيانات قمم جامعة الدول العربية، والتي كان من المفترض أن تخرج ببيان متفق عليه قبل أيام بين المشاركين ولكنّ حتى هذا البيان اختلف عليه أصحاب quot;الذقون الطويلةquot;... فانّ ما طرحه البطريرك بشارة الراعي في افتتاح القمة في كلمته من أن لبنان quot;بفضل نظامه المتوسط بين النظام الديمقراطي الذي يجمع بين الدين والدولة والنظام العلماني الذي يفصل تماما بينهما يتميز بكونه دولة مدنية تؤدي الاجلال لله تعالى وتحترم البعد الديني عند كل المواطنين وفقا لما نصت عليه المادة التاسعة من الدستور...quot; ولكن عن أي فصل بين الدين والدولة يتحدثون؟ ومكتوب على الطفل السني في لبنان أن لا يحلم بقصر بعبدا الرئاسي وعلى الطفل الماروني أن لا يحلم بالجلوس على كرسي رئاسة البرلمان وعلى الطفل الشيعي ان لا يحلم بمقعد رئاسة الحكومة؟ وعن أي نظام علماني يتحدثون ورجال السياسية في لبنان يفتحون أفواه رجال الدين بدلاquot; من أفواههم كل ما أرادو أن يشعروا رعيتهم quot;داخل الطائفةquot; أن quot;الطائفةquot; وشؤونها بخطر وعليهم بالتالي الوقوف في وجه أطماع الطوائف الأخرى quot;فيهمquot; وquot;بمكتسباتهمquot; السياسية؟ وعن اي لبنان يتحدثون وبات القاصي والداني يعرف أن لبنان محكوم بquot;سياسة محاورquot; تتغير وتتبدّل وفقا لأهواء الجيران العرب والفرس والترك والقوى الكبرى؟... وعن اي اتفاق طائف يتحدثون كquot;ثوابت دستوريةquot; لا عودة عنها وفي الطائف تمّ تقليص صلاحية رئيس الجمهورية مّما خلق نظرية quot;العقدة المسيحيةquot; وغيرها من العقد quot;الطائفيةquot; اللانهائية؟!

مصر بين فلول النظام والسلفية!
وليس بعيدا quot;عربياquot; وquot;جغرافياquot;، فقد عهدت الحكومة المصرية أمس بإعداد مشروع قانون لتوحيد قواعد بناء دور العبادة، وهو ما يطالب به الأقباط منذ عقود، ومشروع قانون آخر يجرّم quot;التحريض والتمييز الدينيquot; في محاولة منها لوأد الفتنة الطائفية التي لاحت بوادرها في المواجهات التي اندلعت يوم السبت الماضي في ضاحية امبابة في القاهرة... وتـأتي هذه الاجراءات في وقت بدأت القيادة المصرية الحالية تتعرّض للانتقادات بشأن الانفلات الأمني الذي تشهده مصر والذي ينسبه البعض للسلفيين والبعض الآخر ينسبه quot;لفلول النظام السابقquot;...

ويطالب الأقباط المصريون منذ عقود بإصدار قانون يوّحد معايير وشروط بناء دور العبادة للمسلمين وغير المسلمين حيث ان القيود المفروضة على بناء الكنائس تشكل تمييزا ضدهم، خصوصا انه ليست هناك أية قيود على بناء المساجد، فيما تسببت عمليات توسيع الكنائس أو بناء كنائس جديدة في العديد من المواجهات الطائفية في مصر خلال السنوات الأخيرة... وفي السياق ذاته، اعتبر المجلس القومي لحقوق الإنسان، الذي أعيد تشكيله بعد إسقاط نظام، ان الفراغ الأمني الذي تعانيه البلاد وصعود التطرف الإســـلامــي يعدّان من الأسباب الرئيـــسية للمواجهات الدامية في امـــبابة...
حوار الأديان...بدعة دينية أخرى

أمام هذه المعضلات التي تواجه لبنان ومصر كبلدين يشهدان توترات سياسية وطائفية وامنية ولكن quot;لأسباب مختلفةquot; حتما، هل يشكل حوار الأديان حلّا ومخرجا من الفتنة الطائفية والسياسية التي تتّهدد البلدين؟... من المعلوم أنّ الحوار أساسا يقوم على مبدأ التعاون مع الغير في السعي إلى الحقائق وطلب الحلول في ما أشكل من الأمور بين المتحاورين. وإذا كانت أنواع الحوار تتوزّع عموما بين نوعين: حوار حقيقيّ وآخر تشبيهيّ، والنوع الأوّل يقتصر على المجالين العلميّ والفلسفيّ، فيما حوار الأديان يندرج ضمن الحوار التشبيهيّ الذي يختصّ quot;بكون العارض فيه، يتظاهر بإشراك غيره في طلب المعرفة وإنشائها وتشقيقهاquot;... وانطلاقا من هذا التعريف يصحّ القول أنّ حوار الأديان هو عنوان quot;فضفاضquot; لا ولن يوصلنا الى مكان لأنّ الدين هو مجال الاعتقاد والتصديق بحقيقة ذلك الاعتقاد بمعزل عن الحجج والبراهين... وعليه يكون كلّ محاوِر عازماquot; على إخراج المحاوَر من عقيدته وإقناعه بعقيدة جديدة، أي إنّه يحاور بخلفية إقناع الغير بأمر هو خارج دائرة التصديق العقليّ... فعلى سبيل المثال كل مسلم يؤمن يقيناquot; أنّه صاحب الدين القيّم وغيره من المغضوب عليهم والضالين، والمسيحيّ مقتنع بأنه على الدين الحقّ وأنه على هدى ابن الله يسوع المخلص، أما اليهودي فواثق كل الوثوق أن يهوذه حكرعلى بني إسرائيل، أما غيرهم فليسوا سوى مبتدعة ضالين... وفي ظلّ هذه الوضعية كيف سيستقيم حوار الأديان وعلى أية أرضية سيكون النقاش نافعاquot;؟

يقول جون لوك الذي يعتبر رائدا من رواد الفكر الفلسفي الحديث quot;ليس من حق أي شخص، بأي حال من الأحوال، أن يحقد على شخص آخر في شأن متعه المدنية لا لسبب إلا لأنه ينتمي إلى كنيسة أخرى أو يؤمن بدين آخر...quot;، إذن فعوض هدر الوقت في الحديث عن الحوار بين الأديان، يجب التركيز على التسامح باعتباره فكرا وسلوكا يتجسد في إعطاء الآخر حرية التعبير عن آرائه التي قد نختلف معه فيها، وهو بهذا المعنى اعتراف صريح بحق الاختلاف وإبداء التسامح نحو الآخر والتقرّب منه والإصغاء إليه دون أحكام مسبقة، أما اشغال لبنان ومصر وغيرها من بلدان التنوّع الديني بخطابات عن quot;حوار الأديانquot; فلن يزيد الناس إلا فرقة ولن يقوّي سوى التعصب والانغلاق...



باحثة في العلاقات الدولية
المديرة التنفيذية، المركز الدولي للتنمية والتدريب وحلّ النزاعات
[email protected]