من يقول أو يعتقد بأن نظام الرئيس بشار الأسد استطاع هزيمة الاحتجاجات السلمية المطالبة بالديمقراطية بالرغم من زجه الجيش في قمع التظاهرات و قتل المئات و اعتقال الآلاف، يثبت أنه غير ملم بطبيعة المرحلة التاريخية التي تجتازها سورية، المرحلة التي يزداد فيها تحقق وعي الإنسان السوري بالحرية على نحو لم يسبق له مثيل أبدا في تاريخه،و من يظن بأن عقارب الساعة السورية يمكنها العودة إلى الوراء، إلى ما قبل الخامس عشر من آذار، حيث الصمت المطبق يلف العالم السوري يؤكد أكثر فأكثر أنه لم يدرك بعد حجم التحول الحقيقي الذي حصل في العالم الداخلي للإنسان السوري،لمصلحة الثقة بنفسه و لجهة قدرته على صناعة تاريخه و إدارة حياته على النحو الذي يحدده هو بنفسه دون وصاية أو ضغط من أحد، كل من يراهن على خفوت ضوء الحرية الذي يشعله الآن السوري في عالمه الذي طالما أغرقه الاستبداد بعتمته و ترويعه و أوهامه و نهبه لعقود طويلة، سيسقط في يده، في المدى القريب و المنظور و ليس على المدى البعيد أو حتى المتوسط.
الاحتجاجات السورية السلمية المطالبة بالحرية، هذه التي حررت الأمل السوري و أطلقته واثقا بالمستقبل، لم تأت من فراغ، و لم تكن طارئة وفقا لأي من المنظورات و المعاني، بل كانت ردا واعيا على استحقاقات فرضتها حركة التاريخ في منطقتنا و استجابة لضروراته، و هي لذلك ما إن تواجه بالقمع و العنف و الطغيان حتى تتجدد و تستعيد حيويتها.
لم يعد ممكنا أن يخضع السوريون للقمع محصلة للخوف من تكرار تجربة مأساوية خبروها، مثلما كانت حماه في عقد الثمانينات، لقد تملك الإنسان السوري الأدوات و التقنيات التي وفرها مسار التقدم البشري، و التي يقاوم معها الخوف و يستنهض بها العزيمة و الإرادة، لم يعد ممكنا للاستبداد أن يهنأ بفرض العزلة و منع الاجتماع و التواصل على الإنسان السوري، التواصل الذي يحتل مكانة المركز في أي جهد جماعي أو تنظيمي يتعاطاه الإنسان و يكون بصدده، كما لم يعد متاحا للنظام القمعي أن يفعل ما يفعل من جرائم و قتل و توحش دون محاسبة دولية و فاتورة باهظة، العالم أصبح اليوم صغيرا و تواصليا الى حد بعيد، لا تحتاج المعلومة و لا الصورة إلا لثوان معدودة حتى تطوف على مرأى و مسامع ووعي العالم كله، اختفت من العالم شرعية العنف الثوري التي اعتقد نصف العالم بها إبان الحرب الباردة، تاريخ جديد وواقع جديد يعيشه العالم لا تستطيع سورية أن تكون بمعزل عنه، يفرض كل هذا التغيير على الإنسان السوري في ظل القمع و النهب و الترويع الذي فرضته أجهزة القمع عليه، وعيا و إرادة و قدرة على صياغة وجود جديد له لم يكن يتملكها سابقا.
في فترة الثمانينات هدم النظام القمعي للرئيس الراحل حافظ الأسد ثلثي مدينة حماه وقتل من سكانها الآلاف بين الثاني و الحادي عشر من شباط لعام 1982، لم يعلم أحد في العالم وقتها، عن هذه المجزرة التي تندى لها جبين الإنسانية إلا بعد نهايتها و من خلال خبر لم يتجاوز بضع كلمات، لم ير العالم صورا عنها، لم يكن المجتمع الدولي آنذاك قادرا على فرض عقوبات و لا عمل اي شيء ضد القمع ليوقف توحشه، لم تكن هناك فواتير على النظام موجبة الدفع محصلة لقتله شعبه و لارتكابه المجازر بحقهم، العالم تغير كثيرا، سياسيا، انتصرت رؤية محددة للقيمة السياسية على سواها و انتصرت معها فلسفة حقوق الإنسان حتى اصبحت قيما كونية لا اختلاف عليها، تقنيا، تراكمت التطورات التقنية تراكما مذهلا، ثورة حقيقية في المعلومات و الاتصالات، و ثورة حقيقية في سيطرة الإنسان على عالمه و نشاطاته الاجتماعية لمصلحة تفعيلها و تنشيطها، سقط عامل الزمن و عامل المكان في فخ التقويض الشديد.
هذا التغير الكبير في التقنية و الأدوات، في وعي الإنسان السوري و مقدراته و رغباته وفقا لما تقدم، يضمن بالفعل انتصارا أكيدا و حتميا بالمعنى المفتوح للكلمة، لحركة الاحتجاجات السورية على القمع و المستبد، لكن ذلك لا يعني أبدا أن المسار الحاصل لهذه الثورة سيكون مسارا مماثلا لما حصل في مصر او تونس أو حتى ليبيا، هو مختلف بكل تأكيد عن ما سواه، ما يميزه هو التعقيد و التعرج و التراكب، و هي سمات ينبغي أن تؤثر في نمط الاستجابات المطلوب مواكبتها للأحداث الحالية، هذا يلقي على اللجان التنسيقية للثورة و على إداراتها المتعددة و على المعارضة السورية و المثقفين السوريين المؤيدين لها واجب التواصل و التنسيق و الدراسة، من أجل إعداد سياسات للثورة على الأرض و أخرى على مستوى إدارة الأزمة السياسية العامة للدولة متعرجة و متعددة المستويات و متراكبة هي الأخرى، كي تضمن للثورة السلمية من اجل الديمقراطية أن تصل إلى أهدافها، غياب هذا حتى الآن هو من يدخل الحقبة الحالية من مرحلة الاحتجاجات في نفق صعب، لكن أبدا حتى انعدام هذه المعالجة المهمة لن ينهي الثورة و لن يضعف مطالبها و لن يقوضها على الأرض، إن استمر الحال من التشرذم و سوء الإدارة من قبل المعنيين بحركة الاحتجاجات على هذه الدرجة الكبيرة الموجودة عليها الآن، قد تصبح الخسائر البشرية و المعنوية أكبر في صفوف المجتمع السوري، لكنها لن تكون مكاسبا للسلطة أبدا، لن تستطيع أن تحكم مجتمعا من خلال دبابات وجيش منتشر بشكل دائم، ولن يكون مستبعدا أن يطرأ بعد مراوحة الوضع حول هذه الصورة لفترة طويلة، أي مرحلة استمرار الاحتجاجات و انتشار الجيش لفترة طويلة و لمساحات كبيرة على أرض الوطن، عامل جديد يقلب المعادلة و يعيد المسار إلى مكانه من الوضوح والحسم.
لكن ما يظل مؤكدا، هو أن السوريين سيخرجون في الجمعة القادمة مطالبين بالحرية، و سيستمرون في الاحتجاج و التظاهر في الأسابيع المقبلة رغما من كل القمع و الإعاقة و التخويف و القتل الذي يتعرضون له، نظام الرئيس بشار الأسد لن ينتصر على الثوار السلميين و لن تتوقف أبدا الاحتجاجات السلمية المطالبة بالديمقراطية كل من يقول بعكس ذلك من أنصار الحرية فهو بائس و خائر العزيمة أو متشائم أو ساذج و ما عليه إلا أن يبتعد و يصمت، أما من يقول بانتصار النظام من داعميه وعملائه و فاسديه وقادته، فهم واهمين و مضللين وخائبين.
رئيس حزب الحداثة و الديمقراطية لسورية
التعليقات